الجريمة الطبقية
بقلم الدكتور/ أشرف نجيب الدريني
هل يمكن للغنى أو الفقر أن يحددا مصير الإنسان في ارتكاب الجريمة؟ وهل الجريمة فعل فردي محض أم أنها انعكاس لضغوط اجتماعية متراكمة؟ إلى أي حدّ يمكن أن تكون الفوارق الطبقية وقودًا للجريمة، لا بسبب الحاجة وحدها، بل بسبب الشعور المتزايد بعدم الانتماء والظلم؟ وماذا عن دور وسائل التواصل الاجتماعي في ترسيخ هذا الإحساس القاسي، حين تعرض كل يوم صورًا لحياة لا يملكها كثيرون، ولا يستطيعون حتى الاقتراب منها؟
في المجتمعات التي تتسع فيها الفجوة بين الأغنياء والفقراء، لا تكون الفوارق المادية مجرد أرقام في تقارير التنمية أو دراسات الاقتصاد، بل تتحول إلى معاناة يومية تُعيق الإنسان عن العيش بكرامة. ولا سيما حين يشعر الفرد بأنه محاصر في دائرة مغلقة من العجز والحرمان، بينما يشاهد آخرين ينعمون بكل ما يفتقده، قد تنكسر داخله فكرة العدالة، ويبدأ في البحث عن طريق آخر، حتى لو كان خارج حدود القانون.
ولا مناص من أن الجريمة في هذه الحالة لا تكون نتاج شر مطلق، بل أحيانًا رد فعل متأزم على واقع اجتماعي قاسٍ. فالفقير الذي يُحاصر بالفقر، ويُقصى من فرص العمل والتعليم والصحة، قد يجد نفسه مدفوعًا إلى السرقة أو الاحتيال أو حتى العنف، ليس رغبةً في الجريمة، بل هروبًا من واقع يُجرده من إنسانيته. إنها جريمة تبدأ في المدرسة حين يُهمل، وتُغذّى في الحي حين يُهمّش، وتُبرر داخليًا حين يرى أن من حوله يملكون كل شيء دون مجهود يُذكر.
ولا مِراء من أن الجريمة لا تُرتكب فقط في الطبقات الدنيا. هناك جرائم “طبقية عليا” أكثر تعقيدًا وأشد خطرًا: غسل الأموال، الفساد، الرشوة، التهرب الضريبي…إلخ. ومن عجبٍ أن المجتمع غالبًا ما يتسامح معها، أو يتعامل معها باعتبارها “أخطاء إدارية”، بينما يُوصم الفقير بمجرد الاشتباه. وهنا تظهر إحدى أخطر نتائج الفوارق الطبقية: التحيز غير المعلن في تطبيق العدالة، حيث يصبح القانون أكثر صرامة على من لا يملكون، وأكثر ليونة مع من يملكون.
المدهش أن الدراسات الاجتماعية الحديثة تؤكد أن الجريمة لا تنبع فقط من الفقر، بل من الشعور بالغبن الاجتماعي. حين يرى الشاب نفسه محاطًا بأمثاله ممن يعيشون في ترف مفرط، يشعر بالمرارة لا بسبب ما ينقصه، بل بسبب شعوره بأنه” غير مرئي”، لا يُحسب ضمن من يحق لهم الحلم أو الطموح.
وهنا يبرز دور وسائل التواصل الاجتماعي في تعميق هذه الفجوة الشعورية. فهذه المنصات، رغم ما تمنحه من مساحة للتعبير، أصبحت في كثير من الأحيان واجهة لعرض مظاهر الترف والرفاهية، دون اعتبار لأثر ذلك على من لا يملكون الحد الأدنى من مقومات الحياة. مشاهد السفر، الطعام الفاخر، السيارات الباهظة، الملابس الفخمة… تُضخ يوميًا إلى هواتف الملايين، لتؤكد في وعيهم – وربما لا وعيهم – أن النجاح لا يُقاس بالقيم، بل بالمظاهر.
فقد قرأت قبل أيام قليلة، عن واقعة انتحار فتاة شابة تنتمي إلى أسرة بسيطة. كانت إحدى صديقاتها قد سافرت إلى المصيف، تنشر صور السعادة والراحة، بينما كانت هي عاجزة حتى عن شراء مستلزمات شخصية بسيطة. لم يكن السبب في السفر ذاته، بل في شعورها العميق بأنها خارج هذه الحياة، خارج دائرة من يحتفى بهم، أو يُنظر إليهم باعتبارهم “ناجحين”.
لم يكن انتحارها فعل ضعف، بل نتيجة ضغط طويل الأمد مارسته الفوارق الطبقية، وعمّقته وسائل التواصل التي تفرض على الإنسان يوميًا مقارنة ظالمة بين ما يعيشه وما يرى أنه “يجب أن يعيشه”. هذا النوع من القهر” الصامت” لا يظهر في أرقام الجريمة الرسمية، لكنه يطل برأسه في “سلوكيات متطرفة”، أو في انهيارات نفسية، أو في إحساس دائم بانعدام القيمة.
بالتالي، لا يمكن الاكتفاء بالحلول الأمنية وحدها. ومكافحة الجريمة لا تعني فقط زيادة العقوبات أو عدد الدوريات، بل تبدأ من سياسات عادلة تقلص الفجوات الاجتماعية، وتُعيد توزيع الفرص، وتُعزز الإحساس الجمعي بالكرامة والعدل. التعليم الجيد، والسكن الكريم، والرعاية الصحية المتكافئة، والسياسات الاقتصادية الشاملة، كلها أدوات وقائية حقيقية ضد الجريمة.
فالعدالة لا تعني فقط تطبيق القانون، بل ضمان أن يشعر كل فرد بأن له مكانًا في هذا الوطن، وبأن جهده لن يُهدر، وكرامته لن تُداس. فالجريمة لا تبدأ عندما يُشهر أحدهم سلاحًا، بل حين يفقد إيمانه بأن هناك طريقًا شريفًا يمكن أن يُوصله إلى الحياة التي يتمناها.
إذا أردنا مجتمعات أكثر أمانًا، علينا أن نزرع “العدالة” لا فقط في ساحات القضاء، بل في تفاصيل الحياة اليومية. أن نجعل من المساواة واقعًا لا شعارًا، ومن الكرامة حقًا لا امتيازًا. فهناك جريمة تُرتكب بالسلاح، وأخرى تُرتكب بالصمت، وكلاهما يبدأ من حيث تنتهي العدالة الاجتماعية. والله من وراء القصد.