الجاحظ الأديب المفكر المجدد في القرنين الثاني والثالث الهجريين
الجاحظ الأديب المفكر المجدد في القرنين الثاني والثالث الهجريين
نشر بجريدة الوطن الأربعاء 9 / 6 / 2021
بقلم: الأستاذ/ رجائي عطية نقيب المحامين
ورث جيلنا حب واحترام الجاحظ ـ عن أضلاع التنوير في القرن العشرين.. العقاد وطه حسين والمازني وتوفيق الحكيم ويحيى حقي وأحمد أمين وسلامة موسى وغيرهم.. وزاد احترامنا له وتعلقنا به عندما التهمنا أمهات مؤلفاته: البيان والتبيين، والبخلاء، والحيوان، ورسائله العديدة التي امتلأت باهتماماته اللافتة بالفئات المهمشة أمثال: لصوص النهار، ولصوص الليل، ورسائل القيان، والبرصان والعرجان والعميان، ومن رسالته: « التربيع والتدوير ».. وهي الرسالة التي فتحت بـاب « الرسائل الأدبية » في النثر العربي، ونالت مع كتبه شهرةً ظلت حاضرة لأكثر من ألف عام.. لم تفقد جدتها.. ينشدها الأدباء وطلاب المعرفة ودراسة التاريخ والآداب.
كان أبو عثمان عمرو بن بحر (767 ـ 868 م) الشهير بالجاحظ لجحوظ عينيه، أشهر أدباء القرنين الثاني والثالث الهجريين ( 150 ـ 255 هـ ).. مات أبوه وهو صغير، فقامت أمه على تربيته، وضاقت بعشقه الشديد للكراريس ودكاكين الـوراقين، وانصرافه التام للقراءة عن السعي إلى تدبير لقمـة العيش.. فجأته يوما حين دخل الدار وطلـب الطعام، بالأطباق وقد أحضرت عليها أوراقاً وكراريس، فلما نظر إليها مدهوشا متعجبا، قالت له:
« دونك ما تحب فاشبع منه » !
حين روى لشيخه: أبو عمران مويس بن عمران ما فعلته أمه، نفحه الشيخ خمسين ديناراً ليسرع إلى أمه بالدقيق والزبيب والزيـت والتمر.. التفت الشيخ إلى نبوغه وامتيازه فكفله برعايته، وحضه على مجالسة أهل العلم والأدب، والاغتراف من منابع المعرفة.. ووالاه بكتابات السابقين والمعاصرين، ودفعه إلى حفظ قصائد صفوان الأنصاري وسليمان الأعمى في ردهما على بشار بن برد في تفضيله النار على الأرض وما وراء الطبيعة، وأتاح له وشجعه على الاستماع إلى شيوخ عصره: الخليل بن أحمد، وثمامة بن أشرس، والعلاّف، والأصمعي، وأبو عبيدة..
دخل الجاحظ يوما إلى داره لا يخفي انزعاجه لما حدث لمهدى ابن القصَّاب الذي عدا عليه كلب فعقره وأصابه إصابات بالغة في وجهه وتحت عينيه، فانتهزتها أمه الضيقة بطباعه الغريبة ـ انتهزتها فرصةً لتحذيره من مداعباته الثقيلة مع الكلاب وانشغاله بمراقبة الثعابين والجرذان، والضفادع والفراشات، وطفقت تقول له: « العاقل من يشغل نفسه بما يملأ كمه من أكياس الدراهم » ! وجعلت تحذره مما سوف يحيق بصديقه الذي لا بد سيصاب بداء الكلب، وانطلقت الأم القلقة عليه تصف له الأعراض التي سوف تلم بصديقه.. وتقول له: « مادام الكلب قد عقره فلا بد أن يكـون مكلوبا.. وسيبدأ صاحبك فيعطش أشد العطش، وينبح ويبول علقا في صورة الكلاب قبل أن يموت » !
ولكن تحذير الأم لم ينه الجاحظ عن مراقبته للحيوان، بل زاده نهما للدراسة والمراجعة التي أثمرت في النهاية موسوعته الكبرى: « الحيوان ».. وفيها جمع كل غريب ومفيد من معارف ونوادر وكتابات عن عالم الحيوان.
كانت ميزة الجاحظ في اقترابه من المجتمع وتأمله في حياة الناس، وفئات المهمشين، ودراسته لأحوالهم، وفي روح الدعابة المتأصلة فيه، فضلا عن تجديده اللافت في أسلوب الكتابة.. أما سخريته فقد تجلت في الكثير من كتاباته، وتجلت في كتابه عن ” البخلاء ” الذي جمع فيه نوادرهم وتهكم على سلوكهم وتصرفاتهم وشحهم، حتى وصف أحدهم بأنه يكاد من فرط بخله يتنفس من منخر واحد !!
شهد له القدامى والمحدثون بالنجابة والتميز، فقال ابن العميد عن كتبه: « إنها تعلم العقل أولا، والأدب ثانيا ».. ونوه الأستاذ أحمد أمين إلى أن كتاباته مرآة للحياة الاجتماعية في عصره، وفي الوقت الذي لم يدرك معاصروه أو يقدروا قيمة النقلة التي انتقل بها في أسلوب الكتابة الأدبية، حتى رماه بعضهم بالعامية والركاكة والابتذال، أنصفه الأستاذ توفيق الحكيم، فـوصف هؤلاء بالمتنطعين، وكتب غير مرة منوها بنبوغ الجاحظ الذي سبـق عصره، ولافتا إلى أنه قام بعملية تجديد وبعث في اللغة العربية وحطم السدود بين عالم الأموات وعالم الأحياء، وأنه لو سارت الأمور من بعده سيرها الطبيعي طبقا لشريعة التطور لكان للأدب واللغة العربية شأن آخر من زمن بعيد.
من كتاب « البيان والتبيين » عرفنا عن الجاحظ أنواع الدلالات من لفظ وإشارة وإيماءة وخط وعقد، ودلالة الأصوات، وعناصر الكتابة والخطابة، وضروب من أشهر وأبلغ الخطب والرسائل، وبالصفات الواجبة في الخطيب، وتلك الآفات التي يمكن أن تعوقه من عيوب في النطق أو اللسان.. كاللثغة ( وهي تحول اللسان من حرف إلى حرف، كقلب السين ثاءً، أو الراء غينا )، والفأفأة ( وهي كثرة ترديد الفاء في الكلام )، والتمتمة ( وهي كثرة ترديد التاء والميم، فلا يكاد المتكلم يُفهم ) وغيرها، ومما نقله الكُتَّاب عنه ـ استفاد الإمام العالم أبو الفرج عبد الرحمن بن الجوزي المتوفي سنة 597 هـ (1201 م ) ـ في كتابه المعروف « تقويم اللسان ».. ومن يقرأ الجاحظ يلاحظ في معالجاته عنايته اللافتة بالمقابلة بين الجيد والرديء، فيراه مثلا يضع الحمقى والمجانين ومن إليهم ـ أمام البلغاء والحكماء والمفوهين !
كنت أحب أن أحدثك أكثر عـن مـا تضمنه كتـاب « البيان والتبيين ».. هذا الكتاب الضافي الذي تعلم جيلنا منه الكثير، ويكفيك أن تعرف أنه ظل لأكثر من ألف عام مرجعا أساسيا لدارسي الأدب العربي.. أتاح للجاحظ كل هذا الإنتاج المتنوع الغزير المتميز، معرفته الواسعة ومراقباته وملاحظاته الفاحصة، وتجربته الحية.
كان الجاحظ إلى ذلك كله، ساخرا كبيرا.. عرف إلى جوار إيقاعية أسلوبه وقصر عباراته واستطراداته، بروحه الساخرة التي سخرت من كل أشكال القبح الحسي والمعنوي في زمانه، فاجتمعت له صفات وصبت فيه روافد يندر أن تجتمع لعبقري واحد.
من مفارقات المقادير أن يموت هذا الأديب العبقري، عاشق المعرفة، تحت أكوام الكتب التي سقطت برفوفها عليه في داره وقد جاوز التسعين، فأودت بحياته شهيدا للكتب !
حين نُعى الجاحظ إلى الخليفة العباسي المعتز بالله، قال مكبرا لملكاته وتنوع إمكانياته: « أي شيء كان الجاحظ يحسن » ؟، فقيل له من أحد الحاضرين في بلاطه: « ليت شعرى يا أمير المؤمنين.. وأي شيء كان الجاحظ لا يحسن » ؟!