الثقافة المنشودة لصناعة مُحامٍ مُتميز (4)
بقلم: د. حمدي أبو سعيد
(1)
مدخل:
جاءت المقالات (الثلاث) السابقة من هذه الدراسة التي اخترتُ لها عنوان: ((الثقافة المنشودة لصناعة مُحامٍ مُتميِّز))، قصداً، بهدف تسليط الضوء على أهمية العلم والثقافة وتنمية الذات وتطوير الأدوات والقُدرات الثقافية والفكرية والمعرفية التي تصنع قانُونيّاً مُثقَّفاً مُتميِّزاً؛ وقد تناولت فيها: تعريف “مفهوم الثقافة” بوجه عام، وبيان “ماهيتها في عُرف الاصطلاح القانوني المعاصر”، وتناولتُ أهمية “الثقافة” بالنسبة للمحامي، وأهم فوائدها، ثم أهم الأضرار والسلبيات التي تحدث جرَّاء انعدام الثقافة أو هشاشتها لدى المحامي .
ولا أقصد “بالثقافة” هُنا مُجرد التدريب والتطوير العملي فقط، بل أقصد بها القراءة المستمرة والاطلاع الدؤوب على شتَّى أنواع العلوم والمعارف والآداب والفنون التي تُعين المحامي على حُسن القيام بكافة أعمال المحاماة بكفاية وجدارة واقتدار .
وقد اخترت في أثناء عرض هذه السلسلة من المقالات أن أُقدِّم مُختصراً للمقال السابق بين يدي كل مقال جديد، حتى يستطيع القارئ الكريم أن يربط بين أجزاء الموضوع .
وكان أن تناولتُ في المقال السابق الحديث عن:
أولاً: أهم الفوائد والإيجابيات لثقافة المحامي:
وفوائد الثقافة وإيجابياتها كثيرة للمحامي ولكل من يشتغل بالقانون، وأكتفي هُنا بذكر أهمها؛ وهي:
1 – الطبيعة النظرية لمناهج الدراسية الأكاديمية في كُليّات الحقوق والشريعة والقانون، والتي تُعطي مداخل ومفاتيح للعلوم والدراسات القانونية فقط دون تعمُّق، وهذا ما يقتضيه العقل والمنطق بسبب كثرة العلوم القانونية التي ينبغي أن يُحصّلها الطالب في وقت مُحدد، والتي أثَّرت بدورها على المساحة المخصصة في المنهاج الأكاديمي للتطبيقات والجوانب العملية، لذا لا بُد أن يبذل المحامي وكل مشتغل بالقانون الجهد الكبير لتعويض هذا النَّقص بالتدريب والتطوير والقراءة المستمرة، والتزود بثقافة موسوعية في كافة صنوف العلوم والمعارف والآداب والفنون، ويتسلح بالمهارات اللازمة التي تُعينه على بلوغ القمَّة في عمله القانوني ..
2 – الثقافة هي التي تمد المحامي بالمعلومات والمعارف والتجارب والخبرات والمهارات اللازمة للقيام بأعماله على أكمل وجه ..
3 – الثقافة هي حصن المحامي وسلاحه ودرعه الذي يتحصَّن به أثناء مُمارسة أعمال المحاماة في النيابات وأقسام الشرطة وقاعات المحاكم ..
4 – إنَّ الثقافة الموسوعية الشاملة هي التي تُعين المحامي على سرعة الوصول إلى ما يُريده من مادة علمية قانونية وغيرها لإعداد مذكرات دفاعه وطعونه على أحسن ما يكون ..
5 – الثقافة الواسعة هي التي تُعين المحامي على التَّمكن في كافة فنون المحاماة والعمل القانوني دفاعاً، ومُرافعةً، وكتابة وصياغة، وبحثاً ودرساً، وتعلُّماً وتعليماً .. وغيرها من أعمال المحاماة، والأعمال النظيرة لها ..
6 – الثقافة هي التي تُعين المحامي على ضبط لسانه وقلمه وصيانتهما عن اللَّحن والخطأ في لُغة العرب، وتمنحه قوة المنطق والإقناع، وإجادة فنون المرافعة في قاعات المحاكم ..
7 – الثقافة الشاملة هي التي تَمُدُّ المحامي بعلوم ومعارف متنوعة تُمكنه من فهم مُصلحات العلوم والمعارف والفنون التي قد يحتاج إليها يوماً ما عند القيام بالدَّفاع في قضية نوعية تحتاج إلى التعرف على بعض هذه المصطلحات والمفاهيم ..
8 – إنَّ الثقافة تُساعد المحامي على فهم واقعه المحلي، ومُحيطه الإقليمي، والدّولي، وتُعينه كذلك على فهم الواقع القانوني للدول والمجتمعات، فلا يعيش بمعزل عن عالمه ..
9 – إنَّ الثقافة الموسوعية الشاملة صنعت جيلاً من عُظماء المحاماة ورجال القانون، وإذا أردت أن تقف على ذلك، فاقرأ كتاب (الوسيط في شرح القانون المدني) لشيخ القضاة والمحامين العلاَّمة الفقيه الدكتور عبد الرزاق السنهوري باشا، وغيره من مؤلفات الكبار ..
10 – مدى حرص جيل العظماء من شيوخ المحاماة والقضاة على الثقافة والاستزادة من العلم والمعرفة حتى مع بلوغهم القمة في أعمال المحاماة والقضاء ..
أولئك آبائي فجئني بمثلهم *** إذا جمعتنا يا جريرُ المجامعُ ..
ولا يخفى أثر الثقافة وفوائدها الكبيرة التي تعود بالنفع على المحامي مكانة وتقديراً واحتراماً، و تعود على مهنة “المحاماة” نهضةً ورفعةً وارتقاءً ..
ثانياً: أضرار وسلبيات الإفلاس و(الضمور الثقافي) لدى المحامي:
إن الإفلاس الثقافي أو (انعدام الثقافة) أو ضمورها وهشاشتها لدى المحامي أو أي مُشتغل بالقانون له أضراره وسلبياته وانعكاساته الخطيرة على المحامي، وعلى مهنة المحاماة برُمَّتها، وذلك على النحو التالي:
1 – إن من أهم أضرار الإفلاس والضمور الثقافي لدى المحامي: تضييع حُقوق من يُدافع عنهم من الُموَكلين، بسبب ضعفه العلمي وقُصوره الثقافي ..
2 – ومن أضرار انعدام الثقافة لدى المحامي هو تضييعيه لنفسه، فبسبب ضعفه العلمي وقُصوره الثقافي سيظلُّ في المؤخرة، ولن يكون له موقع أو مكان في عالم المحامين الكبار ..
3 – إنّ الإفلاس أو الضمور الثقافي لدى المحامي يتسبب في الإساءة والانتقاص إلى مهنة ” المحاماة” وإلى زملائه ” المحامين” .. والمشكلة الكُبرى في مجتمعاتنا العربية أنَّ الحسنة تخُص، وأنَّ السيئة تَعُم ..
4 – إن الضمور والانكماش الثقافي لدى المحامي يتسبب في تضييع الكثير من الفُرص التي تُساعده على الظهور والبروز بين أعلام المهنة ورموزها الكبار ..
5 – إن الإفلاس الثقافي أو انعدام الثقافة المطلوبة لدى المحامي ساهم في ظهور الكثير من الظواهر السلبية المرفوضة التي أصابت مهنة المحاماة، والتصقت بها زُوراً وبُهتاناً ..
6 – إنَّ الضُّمور والإفلاس الثقافي، أو انعدام الثقافة المطلوبة لدى المحامي ساعد كثيراً على ظهور أحوال وأوضاع مرفوضة من الانحطاط والتردي الأخلاقي نراها ونُشاهدها في مواطن كثيرة، بما لا يليق مع أصحاب المبادئ من فرسان الحق والعدل، ولا حول ولا قُوَّة إلاَّ بالله ..
7 – إنَّ الإفلاس الثقافي، أو انعدام الثقافة المطلوبة لدى المحامي ساعد على هذه الحالة التي وصلت إليها ” المحاماة” اليوم، من فقدان الثقة في المحاماة والمحامين، ومن تقليل هيبة واحترام وتقدير المحامين لدى كثير من الناس، وفي أقسام الشرطة والنيابات والمحاكم، حيث كثرت الاعتداءات والتطاول على المحامين في مشهد يُسبب الحزن والألم العميق لكُل مُحام صادق أمين خلوق مثقف ..
(2)
ثقافة المحامي فريضة وضرورة ..
الأصل في المحامي أنَّه يسعى لتحقيق المنفعة لموكليه بدفع الضرر عنهم، والدفاع عن مصالحهم بعلم ووعي ومعرفة وكفاية، وأن يبذل في ذلك غاية جُهده وعنايته، فإذا لم يقُم بذلك، أو يكن مُستعدّاً لذلك من الناحية العلمية والفنية؛ فإنَّهُ يُعد مُقصِّراً في أداء الأمانة، مُخلاًّ بعقد الوكالة بينه وبين مُوكله .. وقد رأينا كم كان ” الجهل “، و ” التسرُّع “، و” ادّعاءُ العلم والمعرفة “، وعدم السعي الجاد إلى التعلُّم وتطوير الذات باكتساب الثقافة والمعارف والمهارات اللازمة لصناعة مُحام عالم مُبدع مُتميّز سبباً رئيس في تضييع الكثير من الحقوق، وتفويت الكثير من الفُرص على أمثال هؤلاء المحامين؛ فضلاً عن الإساءة إلى مهنة المحاماة ..
إنَّ ادعاء العلم والمعرفة والثقافة أمر له خطورته في كُلِّ مهنة، فلك أن تتصور لو أنَّ طبيباً ما لا يملك العلم والثقافة اللازمة لعلاج المرضى، ثم عمل بمهنة الطب وهو يُدرك ضعف مستواه العلمي تماماً .. ماذا سيحدث للمرضى المساكين الذين سيقعُون تحت يديه، وكذا المهندس، والمحامي .. وكل من يمتهن مهنة في هذه الحياة، فإذا لم يكن على قدر المسؤولية والأمانة، ويتقي الله تعالى فيمن يتعامل معهم، ولا يتجرأ على الفتوى في مسألة ليس لديه علمٌ فيها، أو يتصدَّر لقضية ليس أهلاً لها .. فستكون النتيجة كارثية، والمسؤولية كبيرة أمام الله سبحانه وتعالى الذي لا تخفى عليه خافية، والذي يُحاسب الإنسان بكلمة: (ذَٰلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ) [سورة الحج: (10)] .. ومن هُنا كانت ثقافة المحامي فريضة يُقرِّرها الشرع والقانون، وضرورة يُحتِّمها الواقع والأخلاق ..
(3)
الثقافة للمُحامي فريضة يُقررها الشرع والقانون:
وأمَّا أنَّ ثقافة المحامي فريضة، فهذا أمرٌ لا جدال فيه، حيثُ أنَّ المحامي هُو وكيل بالدفاع وراعٍ لمصالح مُوكله، وهذه الوكالة (عقد) يجب الوفاء به، والعقد في الشريعة والقانون هُو شريعة المتعاقدين .. والله جلَّ وعلا قد أمرنا بالوفاء بالعقود، فقال في مُحكم كتابه الكريم: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) [سورة المائدة: 1] .. ولما كان من مُقتضى العقد أن يكون “المحامي” على علم بموضوع الدَّعوى، وعلى قُدرة وتمكُّن من القيام بحُسن الدِّفاع عن مصالح مُوكله بحُكم ما لديه من علم وثقافة ومعرفة وخبرة ودراية، كانت “الثقافة” فريضة، والقاعدة الأصولية تقول: ((ما لا يتم الواجب به، فهو واجب)) .. ولمَّا كان القيام بالدِّفاع عن مصلحة الموكّل بموجب (عقد الوكالة)، لا يتم إلاَّ عن علم وثقافة وخبرة ودراية؛ فإن العلم والثقافة والخبرة والدراية تكون فريضة واجبة ..
* – وهذا من الوفاء بالعهد الذي أمر الله عباده بالوفاء به؛ فقال تعالى: ((وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا)) [سورة الإسراء: 34] .. قال الإمام ابن كثير رحمه الله (ت 774هــ): “أي الذي تُعاهدون عليه الناس، والعقود التي تُعاملونهم بها؛ فإن العهد والعقد كُلٌّ منهما يُسأل صاحبه عنه” ..
* – وهذا –أيضاً- من أداء الأمانات التي أمر الله بأدائها؛ في قوله سبحانه وتعالى: ((إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَىٰ أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ ۚ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ ۗ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا)) [سورة النساء: 58] ,, فالله جلَّ وعلا أمر الجميع –حُكَّاماً ومحكومين- بأداء الأمانات إلى أصحابها، – وأمر كُلَّ من ولي امراً من أمور النَّاس –في القضاء أو الحكم أو الإدارة، أو ما يتعلَّق بمصالح النَّاس- أن يحكم بينهم بالعدل؛ قال الإمام القُرطبي رحمه الله (تُ 671هــ): ” هذه الآية من أُمَّهات الأحكام، تضمنت جميع الدين والشرع” … فالآية شاملة بنَظْمها لكل أمانة” ..
– وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((أَدِّ الْأَمَانَةَ إِلَى مَنْ ائْتَمَنَكَ ، وَلا تَخُنْ مَنْ خَانَكَ)). [رواه الترمذي بسند صحيح؛ برقم: (1264)] ..
* – ولمَّا كان عدم الوفاء بالعهد قد يُوقع صاحبه في حرج شديد، فقد حذَّر النبي صلَّى الله عليه وسلم من ذلك، وسمَّى عدم الوفاء بالعهد (خيانة)، وجعلها شُعبة من شُعب النِّفاق؛ فقال: صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((آيَةُ الْمُنَافِقِ ثَلَاثٌ: إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ ، وَإِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ)) [صحيح البخاري؛ برقم: (33)، ومسلم؛ برقم: (59)] .. وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((أَرْبَعٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ كَانَ مُنَافِقًا خَالِصًا ، وَمَنْ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْهُنَّ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْ النِّفَاقِ حَتَّى يَدَعَهَا: إِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ ، وَإِذَا حَدَّثَ كَذَبَ ، وَإِذَا عَاهَدَ غَدَرَ ، وَإِذَا خَاصَمَ فَجَرَ)) [صحيح البخاري؛ برقم: (34)، ومسلم؛ برقم: (58)] ..
* – هذا والقانون قد ألزم المحامي بأن يُدافع عن مصالح مُوكله بكفاية (أي بعلم ومعرفة وخبرة ودراية)، وأن يبذل في ذلك غاية جُهده وعنايته؛ فقد نصَّت المادة (63) من قانون المحاماة رقم (17) لسنة 1938 وتعديلاته، على أن: (يلتزم المحامي بأن يدافع عن المصالح التي تعهد إليه بكفاية، وأن يبذل في ذلك غاية جهده وعنايته. ولا يجوز له النكوص عن الدفاع عن مُتهم في دعوى جنائية، إلاَّ إذا استشعر أنه لن يستطيع بسبب ظروفه أو مُلابسات الدعوى أن يؤدى واجب الدفاع فيها بأمانه وكفاية) ..
– وقدد حدَّد قانون المحاماة رقم (17) لسنة 1983 وتعديلاته؛ جزاءً تأديبيّاً لمن يُخالف أحكامه؛ فقد نصَّت المادة (98) منه، على أنَّ: (كُل مُحام يُخالف أحكام هذا القانون أو النظام الداخلي للنقابة، أو يخل بواجبات مهنته، أو يقوم بعمل ينال من شرف المهنة، أو يتصرف تصرفاً شائناً يحطُّ من قدر المهنة يُجازى بإحدى العقوبات التأديبية التالية:
1- الإنذار
2- اللوم
3- المنع من مزاولة المهنة.
4- محو الاسم نهائياً من الجدول. ويجب ألا يتجاوز عقوبة المنع من مزاولة المهنة ثلاث سنوات، ولا يترتب على محو الاسم نهائياً من الجدول المساس بالمعاش المستحق).
ومن هُنا كانت “الثقافة” للمحامي التي تعني “الكفاية والمعرفة والخبرة” فريضة في حقِّه يُقرِّرُها الشرع والقانون، ويُؤكدها “العقل” و “المنطق” و “الأخلاق” .. وكفى بالمحامي إثماً كبيراً ومسؤولية عظيمة أمام الله تعالى ثم أمام القانون أن يُضيِّع مُوكله بسبب تقصيره في عدم الأخذ بأسباب العلم والثقافة .. وكفى بالمحامي إثماً ومسؤولية أمام الله تعالى ثمَّ أمام القانون أن يفتي بغير علم، وقد حذَّر النَّبيًّ صلى الله عليه وسلَّم من ذلك، وهدَّد صاحبه بأشدِّ ألوان التهديد؛ فقال عليه الصلاة والسَّلام: ((أَجْرَؤُكُم عَلى الفُتْيَا أَجْرَؤُكُم عَلَى النَّار)) [أخرجه الدّارمي في سننه: (ج1/ص69)]، والحديث في سنده ضعفٌ، كما قال الخطيب البغدادي في “الكفاية”: (ص29)] .. والحديث وإن كان في سنده ضعف، فإنَّ معناه صحيح، فإنَّ الفتوى بغير علم جريمة قد تتسبب في هلاك مُجتمع بأسره، وما ظاهرة الإرهاب التي تُعاني منها مجتمعاتنا العربية والإسلامية إلاَّ بسبب بعض الفتاوى والآراء الشاذة الجاهلة التي تسببت في هلاك الحرث والنسل، وحرق الأخضر واليابس في بعض البلاد؛ لذا كان مصير “المفتي الجاهل” أو ” المفتي الماجن” حسب تعبير الفقه الإسلامي الذي يُضل الناس بغير علم، ويسوقهم إلى التهلكة، ويتسبب بجهله في خراب المجتمعات وترويع الآمنين؛ الحجْر عليه في الدُّنيا (أي حبسه)، والنَّار في الآخرة وبئس المصير ..
وقد ساق النبي صلى الله عليه وسلم لنا هذا التحذير لنضبط أعمالنا وتصرفاتنا كلَّها بميزان مُراقبة الله تعالى في السِّرّ والعلن، فيسعى كُلُّ واحد منَّا إلى الأخذ بأسباب القوَّة من التزود بالعلم النافع والثقافة الموسوعية التي تُعينه على حُسن القيام بأدائه المهني مُحامياً كان أم قاضياً أم طبيباً أم مُهندساً .. إلخ .. ومن لم يفعل ذلك كان مُقصِّراً، وله أن يتحمَّل عاقبة الأخطاء التي قد يقع فيها بسبب تقصيره في ذلك، تأديباً حسب القانون، ولن يفلت من العقاب الجنائي إذا كان الأمر مُتعمَّداً، وقبل هذا وذاك المسؤولية أمام الله جلَّ وعلا الذي لا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السَّماء سبحانه وتعالى ..
(4)
الثقافة للمحامي ضرورة يُحتِّمُها الواقع:
* – وأمَّا كون “الثقافة” للمحامي ضرورة يُحتِّمُها الواقع؛ فقد تقرَّر في واقع الحياة أنَّ المُتعلِّم المُثقَّف المُبرَّز صاحب الخُلق الرَّفيع والخبرة والأداء المتميِّز في أي مجال هُو الشخص الجدير بالاحترام والتقدير، وهذا الأمر ينطبق على المحامي أيضاَ؛ فالمجتمع وواقع النَّاس فيه ينظر إلى المحامي صاحب العلم والثقافة الموسوعيَّة والأخلاق العالية باحترام وإجلال وإكبار؛ ويكون إقبالهم عليه أكثر من غيره؛ باعتباره أكثرُ نفْعاً وفائدة لهم، وأكثر إجادة وتميُّزاً في الدِّفاع عن مصالحهم، خاصة وقد ساعدت وسائل التكنولوجيا والاتصال المعاصرة على التمييز بين الصالح والطالح، وبين الجيِّد والرديء، وبين النَّافع والضار وبين المتعلم المثقف والجاهل المُدَّعي، ويُصبح من العيب الكبير أن يتغافل الإنسان عن ذلك، وعن مدى التطور الكبير في آليات الرقابة والمتابعة والمحاسبة المجتمعيَّة التي زادت كثيراً مع هذا التطور التكنولوجي الهائل، وظهور “السوشيال ميديا” التي أصبحت تنقل كل حدث وقت وقوعه بسرعة البرق .. لذا كانت الثقافة ولا غير هي الحل .. والله من وراء القصد ..
– للموضوع –صلة- في مقال آخر ..