التمييز في صرف العلاوات
قراءة في انتهاك مبدأ المساواة وتكافؤ الفرص بين النص الدستوري (م 53) والمادة الخامسة من قانون العمل الجديد
بقلم / مايكل بسادة أديب – باحث دكتوراه بقسم القانون المدني – المحامي بالنقض والإدارية العليا
1- المشكله:-
تقرر لائحه احد الشركات منح علاوات لموظفيها إلا إن الشركه إمتنعت عن سداد العلاوات للموظفين بإعتبار ان هذه العلاوات جزء من اجر العامل فقام احد العمال برفع دعوى قضائيه طالب فيها الشركه بالإلزام بأداء العلاوات ونجح فى دعواه مما دفع بعض زملاؤة الى رفع نفس الدعاوى و نجح البعض منهم و فشل البعض الاخر
تقدم باقى الموظفين فى الشركه بالمطالبه بالعلاوات دون رفع دعاوى قضائيه إعمالا لاخكام مبدأ المساواه فلا يمتاز بعض العمال عن بعض إلا بالنظر إلى طبيعة الأعمال التي يؤدونها وأهميتها، فإذا كان عملهم واحدا فإن الأجر المقرر لجميعهم ينبغي أن يكون متماثلاً، بما مؤداه أن قاعدة التماثل في الأجر للأعمال ذاتها، تفرضها وتقتضيها موضوعية الشروط التي يتحدد الأجر في نطاقها .
المخالفة الأولى: الشركة خالفت المبدأ أصلاً بامتناعها عن الصرف للجميع رغم تماثل مراكزهم القانونية.
المخالفة الثانية والأخطر: بعد صدور أحكام قضائية لبعض العمال (مؤكدة حقهم القانوني الناشئ عن اللائحة)، فإن استمرار الشركة في حجب العلاوات عن باقي العمال الذين يتماثلون معهم في العمل، يخلق تمييزاً غير مبرر بين عمال يؤدون ذات العمل، حيث يتقاضى الناجحون قضائياً هذه العلاوة بينما يُحرم منها زملاؤهم. هذا التمييز قائم على أساس إجرائي (رفع الدعوى وكيفية سيرها)، وليس على أساس موضوعي يتعلق بمدى استحقاقهم للعلاوة وفقاً لشروط اللائحة.
حجية الأحكام القضائية كقرينة قاطعة:- الأحكام القضائية الناجحة، وإن كانت حجيتها نسبية تقتصر على أطراف الدعوى، إلا أنها تشكل قرينة قاطعة على صحة التفسير القانوني للائحة الشركة وأحقية العمال في العلاوة. هذا يوجب على الشركة، إعمالاً لمبدأ المساواة والموضوعية في تطبيق شروط الأجر، أن تقوم بتسوية وضع جميع العمال المتماثلة مراكزهم القانونية دون حاجة لدعاوى فردية جديدة، وإلا أصبحت تجبر عمالها على النزاع القضائي لتحصيل حق مثبت بالفعل، وهو ما يُعد تعسفاً في استخدام حقها الإداري.
الانتهاك: الشركة لم تتعامل مع العمال على قدم المساواة في تطبيق لائحتها. بل قامت بخلق فئتين: فئة نالت حقها بـ “القوة القضائية”، وفئة أخرى ما زالت تُحرم منه.
- التمييز الإجرائي: إجبار العمال على رفع دعاوى فردية لاقتضاء حق ثبت شرعيته بموجب أحكام سابقة، هو تمييز إجرائي يهدف إلى إعاقة وصولهم إلى حقوقهم، وهو ما يشكل انتهاكاً جسيماً لمبدأ المساواة الدستوري بجعل ممارسة الحق مرهونة بجهد فردي ومكلف بدلاً من التطبيق التلقائي والعادل للقانون.
الموظفون الذين طالبوا بالعلاوات دون رفع دعاوى، يتمسكون بالمبدأ الدستوري في أبهى صوره: “العدالة تقتضي المساواة في الأجر للعمل الواحد”. إن إقرار حق زميلهم بموجب حكم قضائي يقتضي أن تمتد آثار هذا الإقرار إلى جميع من تماثلت مراكزهم القانونية، كونه حقاً عاماً ناشئاً عن لائحة داخلية، لا حقاً شخصياً خالصاً للعامل الأول.
2- الاسس الدستوريه لحقوق العمال فى المساواه و تكافؤ الفرص :-
تنص الماده الثالثه و الخمسون من دستور 2014 على الاتى :” المواطنون لدى القانون سواء، وهم متساوون في الحقوق والحريات والواجبات العامة، لا تمييز بينهم بسبب الدين، أو العقيدة، أو الجنس، أو الأصل، أو العرق، أو اللون، أو اللغة، أو الإعاقة، أو المستوى الاجتماعي، أو الانتماء السياسي أو الجغرافي، أو لأي سبب آخر. التمييز والحض على الكراهية جريمة، يعاقب عليها القانون. تلتزم الدولة باتخاذ التدابير اللازمة للقضاء على كافة أشكال التمييز، وينظم القانون إنشاء مفوضية مستقلة لهذا الغرض.”
و فى شرح و تفسير هذه الماده نجد الاتى :-
1- هذه قاعدة تأسيسية واضحة المعنى لا تحتمل التأويل، وهي الأصل الذي تنبني عليه باقي أجزاء المادة.
2- التركيز على العبارات المطلقة مثل “لا تمييز بينهم” و “أو لأي سبب آخر”، وكذلك “كافة أشكال التمييز”. التفسير الحرفي هنا يفرض حظراً واسع النطاق وشاملاً على التمييز، ولا يجوز حصره في الأسباب المذكورة فقط.
3-الاستدلال على أن قائمة أسباب التمييز المذكورة (الدين، الجنس، إلخ) هي قائمة جاءت على سبيل المثال لا الحصر، وهذا يستنبط منطقياً من عبارة “أو لأي سبب آخر”. المنطق يوجب سريان حكم المنع على أي سبب غير مذكور يؤدي إلى نتيجة التفرقة غير المبررة.
4- غاية النص وهدفه وهو تحقيق الكرامة الإنسانية والعدالة الاجتماعية عبر القضاء على التمييز. أي تفسير للنصوص الأدنى يجب أن يوجه نحو تحقيق هذا الغرض الأسمى للدستور.
5- النص لا يكتفي بالمنع السلبي (لا تمييز)، بل يفرض التزاماً إيجابياً على الدولة: “تلتزم الدولة باتخاذ التدابير اللازمة للقضاء على كافة أشكال التمييز”. هذا الهدف هو تحويل القاعدة من مجرد حق إلى واجب دستوري على السلطات.
6- تقع المادة ضمن الحقوق والحريات العامة، مما يمنحها أولوية دستورية. اجتماعياً، هي رد تشريعي على التحديات الواقعية للتمييز (خاصة الاجتماعي والجغرافي) وتأسيس لمجتمع المواطنة.
7- كقاعدة دستورية، تتمتع المادة (53) بالأسبقية على أي تشريع أو قرار أدنى. أي قانون أو لائحة يتعارض مع مبدأ المساواة في هذه المادة يعتبر غير دستوري وغير ملزم.
8- المادة لم تورد أي استثناءات على مبدأ المساواة المطلقة، مما يفرض تفسيراً ضيقاً ومقيداً لأي قيود ترد في قوانين لاحقة، ويجعل الأصل القانوني هو إطلاق المساواة.
9- العلة التشريعية والقصد التشريعي:- العلة هي أن الكرامة الإنسانية قيمة عليا غير قابلة للتجزئة أو التمييز على أساس الخصائص العرضية للفرد (العرق، الدين، إلخ). القصد هو بناء كيان سياسي واجتماعي يتجاوز الولاءات الفرعية إلى الولاء للمواطنة.
10 – المادة هي التعبير الدستوري عن العدالة التوزيعية (مساواة في توزيع الحقوق والواجبات) والإجرائية (المواطنون سواء لدى القانون). وهي تؤسس للإنصاف عبر معالجة التمييز كجريمة تستوجب العقاب.
11 – المساواة وحظر التمييز ليسا مجرد قواعد وضعت من قبل المشرع (قانون وضعي)، بل هما حقوق طبيعية متجذرة في طبيعة الإنسان ذاته، والمادة (53) هي مجرد إقرار وضعي لهذا الحق الفطري.
12 – المعنى الظاهري: إعلان المساواة. المعنى الضمني: إضفاء طابع إلزامي على الدولة لـ “العمل الإيجابي” لإنهاء آثار التمييز، وليس مجرد الامتناع عنه.
13- يعكس النص التناسق الفلسفي بين الحق (المساواة)، والالتزام (حظر التمييز)، والجزاء (التجريم)، والآلية (المفوضية)؛ كمنظومة متكاملة لحماية قيمة فلسفية واحدة.
14- تكرس المادة القيمة الأخلاقية للتعايش واحترام التنوع، وتضع قاعدة أخلاقية عامة مفادها أن التباين لا يبرر التفرقة، وهي بذلك توجّه الضمير الجمعي والقانوني.
15- المادة تمنع أي قانون من التناقض مع القاعدة الدستورية للمساواة. أي نص قانوني أو إجرائي يميز بين الأفراد لأحد الأسباب المذكورة يعد متناقضاً منطقياً مع الدستور ويجب إلغاؤه.
16- المنطق القانوني يدفع القاضي لاختيار التفسير الذي يحقق الغاية المتمثلة في القضاء على التمييز، وليس التفسير الذي يعطل هذا الهدف (ويسمى هذا تفسيراً مقصوداً).
17- النص متماسك؛ فإقرار الحق في المساواة (القضية الأولى) يستلزم منطقياً وجوب الجزاء على مخالفته (التجريم)، ووجوب الآلية الإجرائية (المفوضية) لضمان تطبيقه.
18- المادة 53 لا تُفسر بمعزل عن باقي الدستور (مثل مواد حماية الحقوق)، بل تُفسر ضمن منظومة متناسقة هدفها حماية الحريات العامة.
19- المادة تعمل كـ “منطق إلزامي موجه” لجميع القوانين اللاحقة، ويجب أن تتناسق جميع القوانين اللاحقة مع هذا المنطق لتكون سليمة دستورياً.
20- الغاية الأخلاقية للمادة هي تأسيس مجتمع عادل وشامل. أي تفسير يعيق تحقيق هذه الغاية يعتبر تفسيراً غير لائق أخلاقياً.
21 – المنطق القانوني يجب أن يُستخدم لضمان أن القضاء على التمييز هو نتيجة حتمية للتفسير، وأن القرار خالٍ من أي تحيز شخصي (عرقي، ديني، اجتماعي) للمفسر.
22- المادة هي تدخل تشريعي واعٍ لمعالجة الأنماط السلوكية والثقافية المتأصلة التي تنتج التمييز (مثل التمييز على أساس المستوى الاجتماعي أو الانتماء الجغرافي). القانون هنا يسعى لـ تغيير الثقافة الاجتماعية.
23 – تحمل المادة (53) رمزية قوية كإعلان رسمي بأن الدولة لا تقبل بأي شكل من أشكال التفرقة، وهي رمزية تهدف إلى إعادة تشكيل الوعي الجمعي حول مفهوم المواطنة المتساوية.
24 – التفسير الضيق للمادة يؤدي إلى زيادة الاستياء الاجتماعي والشعور بالظلم لدى الفئات المميز ضدها، بينما التفسير الواسع والشامل يساهم في بناء الثقة بالنظام القانوني وتحقيق الاستقرار الاجتماعي.
25 – المادة هي أداة لموازنة القوى، حيث أنها تهدف إلى الحد من سلطة الفئات التي تمتلك أدوات التمييز (مثل أصحاب العمل أو المسؤولين) ضد الفئات الأضعف (كالعمال أو الأقليات).
26 – كلما كان تطبيق المادة (53) فعّالاً ومتساوياً، زاد القبول الاجتماعي للقانون برمته، وزادت شرعيته في عيون الأفراد، لأنهم يرون القانون أداة لحمايتهم لا لقمعهم.
27 – عبارة “أو لأي سبب آخر” تمنح القانون القدرة على التكيف مع ظهور أشكال جديدة من التمييز لم تكن واضحة وقت الصياغة (مثل التمييز الاقتصادي أو الرقمي المستحدث)، مما يحفظ فعالية النص في مواجهة التطورات الاجتماعية.
3- الماده الخامسة من قانون العمل الجديد (رقم 14 لسنة 2025)
تنص المادة الخامسة من القانون رقم 14 لسنة 2025 بإصدار قانون العمل على أنه:” يحظر كل عمل أو سلوك أو إجراء يكون من شأنه إحداث تمييز أو تفرقة بين الأشخاص في التدريب، أو الإعلان عن الوظائف، أو شغلها، أو شروط، أو ظروف العمل، أو الحقوق والواجبات الناشئة عن عقد العمل، بسبب الدين، أو العقيدة، أو الجنس، أو الأصل، أو العرق، أو اللون، أو اللغة، أو الإعاقة، أو المستوى الاجتماعي، أو الانتماء السياسي، أو النقابي، أو الجغرافي، أو أي سبب آخر يترتب عليه الإخلال بمبدأ المساواة وتكافؤ الفرص.
ولا يعتبر تمييزا محظورا كل ميزة، أو أفضلية، أو منفعة، أو حماية تقرر بموجب أحكام هذا القانون والقرارات واللوائح المنفذة له للمرأة أو للطفل أو للأشخاص ذوي الإعاقة والأقزام، كلما كانت مقررة بالقدر اللازم لتحقيق الهدف الذي تقررت من أجله، وتعمل الوزارة المختصة على وضع السياسات والخطط اللازمة لدمجهم في سوق العمل وتوفير الحماية اللازمة لهم في بيئة للعمل وذلك بالتنسيق مع الوزارة المختصة بالتضامن الاجتماعي والمجالس القومية المتخصصة المعنية.”
تُعد المادة الخامسة من قانون العمل الجديد (رقم 14 لسنة 2025) خطوة تشريعية حاسمة تتماشى تمامًا مع الاتجاهات والمبادئ التي أرستها المنظمات الدولية للعمل، وعلى رأسها منظمة العمل الدولية (ILO).
إن صياغة المادة، التي تُعدد بوضوح أسباب التمييز المحظورة، وتُشير إلى “أي سبب آخر”، تُظهر توافقًا تامًا مع مبدأ الشمولية الذي تتطلبه المواثيق الدولية. كما أن إقرارها بمفهوم “التمييز الإيجابي” أو “المساواة الرافعة” لصالح الفئات الأكثر ضعفًا (مثل المرأة والأشخاص ذوي الإعاقة)، يُجسد فهمًا عميقًا للواقع العملي الذي يهدف إلى تحقيق المساواة الفعلية (Substantive Equality) وليس مجرد المساواة الشكلية.
وبذلك، فإن هذا النص لا يقتصر على كونه تشريعًا وطنيًا، بل يمثل التزامًا رسميًا من الدولة المصرية بتطبيق المعايير الدولية والوفاء بواجباتها تجاه المجتمع الدولي للعمل.
تُشكل المادة الخامسة من قانون العمل الجديد (رقم 14 لسنة 2025) تجسيدًا حيًا ودقيقًا للمبادئ التي أرساها الدستور المصري، لا سيما مبدأي المساواة وتكافؤ الفرص، وهما من أهم الحقوق الأساسية التي لا يمكن المساس بها.
إن هذه المادة لا تُقدم حمايةً مجردة، بل تُترجم التزامًا دستوريًا صريحًا إلى قاعدة قانونية ملزمة في مجال العمل. كما أن ما تضمنه النص من استثناءات لصالح المرأة وذوي الإعاقة والأقزام يمثل تطبيقًا عمليًا لمفهوم العدالة الاجتماعية0
وبهذا، فإن القانون يُكمل الدور الذي بدأه القضاء الدستوري في حماية الحقوق وتأصيلها، مما يُظهر تآزرًا فريدًا بين السلطة التشريعية والسلطة القضائية في سبيل تحقيق التنمية المستدامة القائمة على الإنسان.
4- حول تفسير المادة الخامسة من القانون :-
- النص صريح وحاسم في حظر التمييز. فهو يستخدم عبارة “يحظر كل عمل أو سلوك أو إجراء” ليعمّم الحظر على أي فعل، ويُعدد أسباب التمييز بشكل شامل بكلمة “أو أي سبب آخر”. هذا الوضوح يفرض على المفسّر التزامًا صارمًا بالمعنى الحرفي للنص دون تأويل يقلل من نطاق الحظر.
- يُقدم النص استثناءً واضحًا ومحددًا في الفقرة الثانية، حيث يُقرر أن المزايا الممنوحة لفئات معينة (المرأة، الطفل، ذوي الإعاقة، الأقزام) لا تُعد تمييزًا محظورًا. هذا المبدأ يُظهر أن المشرع قد وضع قاعدة عامة ثم استثنى منها حالات تُعد في جوهرها تمييزًا إيجابيًا يهدف إلى تحقيق المساواة الفعلية.
- يتضح التفسير المنطقي في الربط بين الحظر العام والاستثناء المحدد. فإذا كان الهدف هو تحقيق المساواة (الغاية التشريعية)، فمن المنطقي أن يُسمح ببعض التدابير التي تُساعد الفئات المهمشة على اللحاق بالآخرين. الغرض الأساسي من المادة هو حماية مبدأ المساواة وتكافؤ الفرص في سوق العمل، وهو ما يُعرف بـ التفسير الغرضي.
- القصد التشريعي هو مكافحة التمييز السلبي الذي يُعيق التنمية الاجتماعية والاقتصادية. العلة هي إرساء قاعدة قانونية تُلزم المجتمع بقيم العدالة الاجتماعية.
- تُحقق المادة العدالة التوزيعية من خلال ضمان توزيع عادل للفرص في سوق العمل، بحيث لا تُحرم أي فئة من فرصها بسبب عوامل خارجة عن إرادتها. كما تُجسد مفهوم الإنصاف من خلال الاستثناءات التي تعطي أفضلية للفئات الأكثر احتياجًا للحماية.
- تُظهر المادة تناسقًا داخليًا من خلال الموازنة بين الحق المطلق في عدم التمييز والحاجة الواقعية إلى حماية الفئات الضعيفة، مما يُعزز من قوة النص ويجعله قادرًا على التطبيق العملي.
- يُعتبر النص واضحًا بشكل عام، لكنه يتعامل مع الغموض المحتمل في مفهوم “التمييز” نفسه. فهو يُقدم تعريفًا إيجابيًا (المحاذير) وتعريفًا سلبيًا (الاستثناءات)، مما يقلل من هامش التأويل.
- تُفسر هذه المادة ضمن سياقها الأوسع في قانون العمل، الذي يهدف إلى حماية العمال، وضمن الدستور الذي ينص على المساواة. هذا التفسير يضمن أن المادة ليست جزيرة معزولة، بل هي جزء من منظومة قانونية متكاملة.
- المنطق القانوني في هذه المادة يُستخدم لإبطال الحجج المتحيزة. فمنطق النص يُقدم أساسًا موضوعيًا لرفض أي ممارسة تمييزية، بغض النظر عن التحيزات الشخصية.
- تُجسد المادة الغاية الأخلاقية للقانون في تحقيق العدالة، ليس فقط بالمعنى الشكلي، ولكن بالمعنى الجوهري، من خلال حماية كرامة الإنسان وتجنب النتائج غير الأخلاقية المتمثلة في التمييز.
- جاء هذا النص لمعالجة تحديات اجتماعية وثقافية عميقة، مثل التحيز ضد المرأة وذوي الإعاقة، والتفرقة على أساس الأصل أو المستوى الاجتماعي. إن القانون يتدخل هنا لتغيير الأعراف الاجتماعية السلبية.
- تُقر المادة بوجود خلل في توازن القوى في المجتمع، حيث تكون بعض الفئات أكثر عرضة للتمييز. القانون يتدخل لإعادة التوازن من خلال فرض المساواة كقاعدة قانونية ملزمة.
- يستمد النص شرعيته من كونه يحمي حقوقاً طبيعية للإنسان (كالحق في العمل والمساواة والكرامة).
- يهدف النص لتحقيق أكبر قدر من المنفعة لأكبر عدد من الناس بمنع الصراعات الاجتماعية الناتجة عن التمييز وخلق سوق عمل أكثر كفاءة وإنتاجية.
- لا يوجد تناقض بين القاعدة والاستثناء. الاستثناء مشروط بشروط صارمة (“بموجب أحكام هذا القانون”، “بالقدر اللازم”) مما يمنع التحايل على القاعدة العامة ويحافظ على تماسكها.
- يجب فهم هذه المادة في إطار نسق قانون العمل ككل. مثلاً، تطبيق “الاستثناء” لصالح المرأة يجب أن يتم بالتوافق مع المواد الأخرى التي تنظم عمل المرأة ، وليس بشكل منفصل.
- النص ليس مجرد قاعدة، بل هو “رسالة” رمزية قوية من المشرع تؤكد على هوية المجتمع المصري كمجتمع مناهض للتمييز، وتعيد تعريف معايير الشرعية في ممارسات التوظيف.
- نجاح هذا النص وقبوله اجتماعياً لا يعتمد فقط على صياغته القانونية، بل على مدى فعاليته التطبيقية في تحقيق عدالة ملموسة، وعلى الحملات التوعوية المصاحبة له التي تشرح فلسفته.
- التحدي الاجتماعي للتفسير هو كيفية تطبيق النص على حالات تمييز غير مباشر أو خفي (غير صريح)، وكيفية قياس “القدر اللازم” في الاستثناءات بطريقة تتوافق مع تطور الوعي الاجتماعي حول حقوق هذه الفئات.
5 – تطبيقات للمادة الخامسة من القانون 14/2025
5.1- حول حق العامل في اجر عادل دون تمييز
في هذا الصدد تنص المادة الأولى من قانون العمل على أنه “يقصد في تطبيق أحكام هذا القانون بالمصطلحات الآتية المعاني المبينة قرين كل منها:
(أ) العامل: كل شخص طبيعي يعمل لقاء أجر لدى صاحب عمل وتحت إدارته أو إشرافه.
(ب) صاحب العمل: كل شخص طبيعي أو اعتباري يستخدم عاملاً أو أكثر لقاء أجر.
(جـ) الأجر: كل ما يحصل عليه العامل لقاء عمله، ثابتاً كان أو متغيراً نقداً أو عيناً. ويعتبر أجراً على الأخص ما يلي: 00000 .”
من المقرر في قضاء المحكمة الدستورية العليا انه ” لا يكون الأجر مقابلاً للعمل إلا بشرطين، أولهما: أن يكون متناسباً مع الأعمال التي أداها العامل، مقدرًا بمراعاة أهميتها أو صعوبتها أو تعقدها وزمن إنجازها وغير ذلك من العناصر الواقعية التي يتحدد على ضوئها نطاقها ووزنها. ثانيهما: أن يكون ضابط التقدير موحدا فلا تتعدد معايير هذا التقدير بما يباعد بينها وبين الأسس الموضوعية لتحديد الأجر، وهو ما يعنى بالضرورة ألا يكون مقدار الأجر محددًا التواء أو انحرافا، فلا يمتاز بعض العمال عن بعض إلا بالنظر إلى طبيعة الأعمال التي يؤدونها وأهميتها، فإذا كان عملهم واحدا فإن الأجر المقرر لجميعهم ينبغي أن يكون متماثلاً، بما مؤداه أن قاعدة التماثل في الأجر للأعمال ذاتها، تفرضها وتقتضيها موضوعية الشروط التي يتحدد الأجر في نطاقها .
(الدعوى رقم ٣٤ لسنة ٣١ قضائية “دستورية” بجلسة ٢٠١٥/١/١٠ –
مشار اليها في “الرقابة القضائية على دستورية القوانين في ملامحها الرئيسية ” للمستشار الدكتور/ عوض المر – الرئيس الأسبق للمحكمة الدستورية العليا – صــــــ109″)
5 – تطبيقات للمادة الخامسة من القانون 14/2025
5.2- حول وجوب أن يكون أجر العمل وحوافزه، جزاء منصفا لجهد العامل: –
فمن المقرر في قضاء المحكمة الدستورية العليا انه ” وفي هذا الإطار يجب أن يكون أجر العمل وحوافزه، جزاء منصفا لجهد العامل، وأن يكون زمن العمل كذلك موقوتا بالشروط الموضوعية التي ينبغي أن يمارس العمل في نطاقها، ولو لم يتخذ التمييز في نطاق هذه الشروط شكل آثار اقتصادية، بل كان أثره منحصرا في الإضرار بمشاعر العاملين وصحتهم النفسية. ذلك أن التحامل في شروط العمل وظروفه، يعنى عدوانية البيئة التي يمارس فيها أو انحرافها.
بما مؤداه أن الشروط الموضوعية وحدها، هي التي يعد بها في مجال تقدير العمل وتحديد أجرها والأحق بالحصول عليه والحقوق التي يتصل بها، وأشكال حمايتها، ويندرج تحتها ألا تقع المفاضلة بين العاملين إلا على ضوء تميزهم في أداء العمل وألا تناقض مباشرته العقيدة التي يؤمن العامل بها، وألا يحاط بأوضاع يكون بها أكثر إرهاقا وأقل أجرا، فلا يكون منتجا، ولا كافلا الضمانة الحق في الحياة واحدا من أهم روافدها “0
(دستورية عليه – القضية رقم ٣٠ لسنة ١٦ قضائية دستورية – جلسة 6 أبريل ١٩٩٦ قاعدة رقم 33 م ٥٥٩ من الجزء السابع والقضية رقم ٣٨ لسنة ١٧ قضائية الدستورية جلسة ١٨ مايو ١٩٩٦ قاعدة رقم 40 ص 6٤٣ من الجزء السابع-
مشار اليها في “الرقابة القضائية على دستورية القوانين في ملامحها الرئيسية ” للمستشار الدكتور/ عوض المر – الرئيس الأسبق للمحكمة الدستورية العليا – صــــــ 360 )
5 – تطبيقات للمادة الخامسة من القانون 14/2025
5.3- الوفاء بالأجر التزاما أحق بالحماية الدستورية: –
فمن المقرر في قضاء المحكمة الدستورية العليا انه ” لئن كان الأجر العادل مشروطا بالفقرة الثانية من المادة 13 من الدستور ، لأداء العمل الذى تقتضيه الدولة قسرا من مواطنيها نزولا على دواعي الخدمة العامة و وفاء بمتطلباتها ، فإن الوفاء بهذا الأجر يكون بالضرورة التزاما أحق بالحماية الدستورية كلما كان مقابلا لعمل تم اداؤه في اطار رابطة عقدية أو في نطاق علاقة تنظيمية ارتبط طرفاها بها ، و تقرر أجر العامل من خلالها ، و ذلك انطلاقا من ضرورة التمكين للقيم الأصلية الخلقية و الاجتماعية التي يلتزم المجتمع بالتحلى بها و العمل في سبيلها ، على ما تنص عليه المادة 12 من الدستور ، و نزولا على حقيقة أن الأجر و فرص العمل وربطهما معاً بالإنتاجية تمثل جميعها ملامح أساسية لخطة التنمية الشاملة التي تنظم اقتصاد الدولة ، و التي تتوخى زيادة الدخل القومي و ضمان عدالة توزيعه وفقا لحكم المادة 23 من الدستور. ”
[القضية رقم 27 – لسنة 8 – تاريخ الجلسة 4 / 1 / 1992] – [الحكم بعدم الدستورية]5- تطبيقات للمادة الخامسة من القانون 14/2025
5.4- حول قاعدة الأجر المتكافئ للأعمال ذاتها: –
لكل فرد الحق فى العمل وفقا لشروط مرضية ومنصفة مع ضمان المساواة فى الأجر عن الأعمال المتماثلة . وقاعدة الأجر المتكافئ للأعمال ذاتها هى التى تبينتها الاتفاقية رقم 100 التى أقرها المؤتمر العام لمنظمة العمل الدولية ، والنافذة أحكامها اعتباراً من 23 مايو سنة 1953 ذلك أنها تنص فى مادتيها الثانية والثالثة على أن تتخذ الدول أطرافها التدابير الملائمة التى تكفل لكل رجل وامراة أجراً متماثلاً عن الأعمال التى تتكافأ قيمتها سواء من خلال تشريعاتها أو عن طريق آلية تنشئها أو تقرها في مجال تحديد الأجر أو على ضوء اتفاق جماعى فيما بين العمال وأربابهم أو بمزج هذه الوسائل جميعها على أن يكون مفهوماً أن تفاوت الأجور بين العمال لا يناقض مبدأ الأجر المتكافئ عن الأعمال ذاتها كلما كان ذلك عائداً إلى التقييم الموضوعى للأعمال التى يؤدونها على ضوء متطلباتها وما يكون لازماً لإنجازها وليس راجعاً إلى ذكورتهم أو أنوثتهم . وحيث إن الدساتير الوطنية تؤكد المعانى السابقة وتبلورها ومن ذلك ما ينص عليه البند د من المادة 39 من دستور جمهورية الهند من أن تعمل الدولة بوجه خاص على أن تؤمن خلال توجيهها لسياستها أجراً متكافئاً فى شأن الأعمال ذاتها أيا كان القائمون بها ، وما تنص عليه المادة 36 من الدستور الايطالى من أن لكل عامل الحق فى أجر يكون متناسباً مع الأعمال التى يزاولها فى كمها ونوعها وكافياً لأن يوفر للعمال وعائلاتهم وجوداً حراً كريماً وما ينص عليه البند 4 من المادة 38 من الدستور الرومانى من أن للمرأة أجراً مماثلاً للرجل عن الأعمال عينها وما تنص عليه المادة 95 من الدستور التركى من أن تتخذ الدولة التدابير اللازمة التى تكفل بها حصول العمال على أجر يكون منصفا ومناسباً للأعمال التى ينجزونها. ”
[القضية رقم 30 – لسنة 16 – تاريخ الجلسة 6 / 4 / 1996] – [الحكم بعدم الدستورية]5 – تطبيقات للمادة الخامسة من القانون 14/2025
5.5- حول المساواة الرافعة والعله التشريعية من قوانين وقرارات ضم وصرف العلاوات: –
تتنوع المساواة إلى أنواع عديدة منها ما يسمى بالمساواة الرافعة، والمساواة الخافضة، المساواة القانونية، المساواة الفعلية، المساواة الحسابية، المساواة المطلقة، المساواة النسبية،. إلخ
المساواة الرافعة: هي تلك التي تتضمن من الإجراءات ما يسعى إلى ارتقاء الفئات الضعيفة اقتصاديًا و اجتماعيًا كي ترتفع هذه الفئات إلى مستوى يشبه أو يقترب من مستوى الفئات القوية اقتصاديًا واجتماعيًا، و لاشك أن هذا النوع من المساواة هو من الأمور المنشودة والمرغوب فيها، إذ أنها تحقق مساعدة الضعفاء على رفع مستوى معيشتهم دون المساس بميسوري الحال أو الأغنياء، إذ أن تكلفة رفع المستويات لن تكون على حسابهم بأي شكل و إنما تتكفل بها الدولة. ومن ثم فإن هذا النوع من المساواة هي من الأمور صعبة المنال لأنها تستلزم جهودًا وأموالاً تتكبدها السلطات العامة و قد لا تساعد ظروف موازنة الدولة على تنفيذ إجراءاتها.
(إطلالة عامة حول الحماية الدستورية لمبدأي المساواة وتكافؤ الفرص –
الكاتب: المستشار الدكتور عبدالعزيز محمد سالمان – نائب رئيس المحكمة الدستورية العليا- المتاح على الرابط الإلكتروني :
” https://manshurat.org/content/tll-m-hwl-lhmy-ldstwry-lmbdy-lmsw-wtkfw-lfrs “)
6- توصيات
لضمان التطبيق الفعال للمادة الخامسة وتحقيق أهدافها على النحو الذي يتوافق مع أفضل الممارسات الدولية، أوصي بالآتي:
- تعزيز آليات التنفيذ: يجب أن تُصاحب المادة حملات توعية واسعة النطاق تستهدف أصحاب العمل والعمال على حد سواء، وذلك بالتعاون مع منظمة العمل الدولية والمنظمات غير الحكومية المعنية.
- تعزيز الحوار الاجتماعي: حثّ منظمات العمال وأصحاب العمل على إدراج بنود واضحة في الاتفاقات الجماعية تحظر جميع أشكال التمييز وتوضح آليات التظلم.
- إعداد تقارير دورية: أن تلتزم مصر بإدراج معلومات مفصلة عن تطبيق هذه المادة وتأثيرها في تقاريرها الدورية المقدمة إلى آليات الأمم المتحدة ومنظمة العمل الدولية، مما يعزز الشفافية والمساءلة.
7 – خلاصة
في الختام، تُعتبر المادة الخامسة من قانون العمل الجديد إنجازًا تشريعيًا يستحق الإشادة، فهي تُقدم إطارًا قانونيًا قويًا لحماية المساواة وتكافؤ الفرص في سوق العمل المصرية.
هذا النص لا يعكس فقط التزام الدولة بمكافحة التمييز، بل يُرسخ أيضًا مكانتها كشريك فاعل في المجتمع الدولي للعمل. إن الطريق إلى تحقيق العدالة الكاملة يمر عبر جسر من التشريعات المتطورة والتطبيق الفعال، وهذه المادة هي بداية واعدة لهذا المسار.
تُعد المادة الخامسة من قانون العمل الجديد تتويجًا لجهود طويلة في سبيل حماية حقوق العمال، وهي تُثبت أن التشريع الفعال هو الذي ينهل من المبادئ الدستورية الراسخة.
إن هذا النص يُمثل مثالًا قويًا على كيفية تحول المبادئ الفلسفية إلى قواعد عملية، ويُعزز من شرعية النظام القانوني بأكمله. إن قوته لا تكمن في صياغته فحسب، بل في كونه تعبيرًا صادقًا عن الإرادة الدستورية للمجتمع المصري في تحقيق العدالة والكرامة لكل فرد.