التقسيط البنكي للرسوم والغرامات القضائية
مقال للدكتور أحمد عبد الظاهر – أستاذ القانون الجنائي بجامعة القاهرة – المستشار القانوني بدائرة القضاء – أبو ظبي
درجت تشريعات الرسوم القضائية على تقرير مبدأ عدم قبول أي دعوى أو طعن أو طلب إلا بعد سداد الرسم المقرر قانوناً. فعلى سبيل المثال، وطبقاً للمادة الثالثة من القانون رقم 13 لسنة 2017 بشأن الرسوم القضائية في إمارة أبو ظبي، «مع مراعاة الأحكام الخاصة برسوم الدعاوى الجزائية الواردة في هذا القانون، لا يقبل قيد أي دعوى أو طعن أو طلب إلا بعد استيفاء الرسم المستحق كاملا ما لم يكن قد صدر قرار بالإعفاء أو تأجيل الرسم كليا أو جزئيا، ويفصل رئيس المحكمة المختصة في المنازعة حول قيمة الرسم بقرار نهائي غير قابل للطعن، وتحكم المحكمة بعدم قبول الدعوى إذا لم تسدد الرسوم المقررة والمحدد لها أجل للسداد». ومع ذلك، ومراعاة للحالة المادية والاقتصادية لبعض المتقاضين، تحرص تشريعات الرسوم القضائية على تقرير مكنة تأجيل سداد الرسوم أو الإعفاء منها. فعلى سبيل المثال، ووفقاً للمادة الثانية والعشرين من القانون رقم 13 لسنة 2017 بشأن الرسوم القضائية في إمارة أبو ظبي، «1. يجوز لرئيس المحكمة المختصة أو من يفوضه، تأجيل سداد الرسم أو جزء منه، لمدة محددة، وذلك بقرار مسبب في ضوء الضوابط التي يصدر بتحديدها قرار من رئيس دائرة القضاء – أبو ظبي. 2. يجوز للجنة مكونة من رئيس المحكمة المختصة وأقدم قاض فيها ورئيس مكتب إدارة الدعوى المختص، الإعفاء من الرسم كليا أو جزئيا، وذلك وفقا للمحددات التالية: أ. يقدم ذو الشأن طلبا إلى اللجنة يبين فيه الأسباب المبررة لطلبه مرفقا بالمستندات المؤيدة. ب. للجنة أن تجري التحقيقات اللازمة بنفسها أو بواسطة من تفوضه لذلك وأن تستمع إلى مقدم الطلب إذا وجدت ضرورة. ج. تفصل اللجنة في الطلب ضمن مهلة خمسة عشر يوما من تقديمه وتصدر قرارا بالقبول أو الرفض مع بيان الأسباب. د. لا يستفيد من الإعفاء من حل محل المعفى في الدعوى إلا إذا صدر قرار بإعفائه، كما لا يستفيد منه الخصم المحكوم عليه في الدعوى. هـ. ينقضي الإعفاء إذا ثبت قدره مقدم الطلب على دفع الرسوم أثناء نظر الدعوى. 3. يجوز لمدير إدارة التنفيذ أو من يفوضه تأجيل سداد الرسوم المتعلقة بالتنفيذ أو جزء منها بذات الشروط المشار إليها في البند (1) من هذه المادة، كما يجوز للجنة مشكلة من مدير إدارة التنفيذ وأقدم قاض ورئيس قسم فيها، الإعفاء من هذه الرسوم كليا أو جزئيا وفق الأحكام الواردة في البند (2) من هذه المادة. 4. يجوز للنائب العام أو من يفوضه تأجيل سداد الرسوم المتعلقة بالدعاوى الجزائية أو جزء منها، كما يجوز بقرار من النائب العام الإعفاء من هذه الرسوم كليا أو جزئيا. 5. لا يجوز الطعن في القرارات الصادرة في البنود (1) و(2) و(3) و(4) من هذه المادة». والبين من هذا النص أن تأجيل سداد الرسوم أو الإعفاء منها لابد وأن يستند إلى أسباب ومبررات تتعلق بالحالة المادية أو الاقتصادية للشخص المعني، وبحيث يتعين رفض طلب تأجيل سداد الرسم أو الاعفاء إذا لم يكن ثمة مبرر أو سبب يدعو لذلك.
ومن ناحية أخرى، وفيما يتعلق بالغرامات الجنائية، درجت تشريعات الإجراءات الجنائية على تخويل النيابة العامة سلطة تأجيل وتقسيط دفع المبالغ المستحقة للحكومة. فعلى سبيل المثال، وتحت عنوان «تأجيل وتقسيط دفع المبالغ المستحقة للحكومة»، ووفقاً للمادة 313 من قانون الإجراءات الجزائية، الصادر بالمرسوم بقانون اتحادي رقم (38) لسنة 2022م، «1. للنيابة العامة أن تمنح المحكوم عليه عند الاقتضاء وبناءً على طلبه أجلاً لدفع المبالغ المستحقة للحكومة والغرامات وغيرها من العقوبات المالية، أو أن تأذن له بدفعها على أقساط بشرط ألا تزيد المدة على سنتين. 2. يجوز للنيابة العامة الرجوع في الأمر الصادر منها إذا وجد ما يدعو لذلك». وبالإضافة إلى ذلك، وفي حالة عجز المحكوم عليه بالغرامة عن السداد، تخول التشريعات الجنائية الإجرائية للنيابة العامة مكنة اللجوء إلى الإكراه البدني. فعلى سبيل المثال، وتحت عنوان «الإكراه البدني»، ووفقاً للمادة 314 من قانون الإجراءات الجزائية لدولة الإمارات العربية المتحدة، الصادر بالمرسوم بقانون اتحادي رقم (38) لسنة 2022م، «يجوز الإكراه البدني لتحصيل الغرامات وغيرها من العقوبات المالية ويكون هذا الإكراه بحبس المحكوم عليه، وتُقدر مدته باعتبار يوم واحد عن كل (100) مائة درهم أو أقل، ولا يجوز أن تزيد مدة الإكراه على (6) ستة أشهر، وذلك مع مراعاة أحكام البنود التالية:
- 1. إذا كانت الغرامات وغيرها من العقوبات المالية المحكوم بها لا تجاوز (20,000) عشرين ألف درهم، فلا يجوز أن تزيد مدة الإكراه البدني على (60) ستين يوماً.
- 2. إذا كانت الغرامات وغيرها من العقوبات المالية المحكوم بها تجاوز (20,000) عشرين ألف درهم ولا تجاوز (50,000) خمسين ألف درهم، تكون مدة الإكراه البدني (120) مائة وعشرين يوماً.
- إذا كانت الغرامات وغيرها من العقوبات المالية المحكوم بها تجاوز (50,000) خمسين ألف درهم تكون مدة الإكراه البدني (180) مائة وثمانين يوماً». ومن خلال قراءة هذا النص، يبدو سائغاً القول إن مكنة تأجيل سداد الغرامة أو تقسيطها مرهونة بتوافر المقتضى الداع إلى ذلك، كأن يكون المحكوم عليه بالغرامة غير قادر على دفعها عند مطالبته بدفعها، وطالباً بالتالي تأجيل دفعها، أو غير قادر على دفعها كاملة، وبحيث يطلب تقسيطها على دفعات».
وبالإضافة إلى الرسوم القضائية والغرامات القضائية، فإن المتقاضي يحتاج في الغالب إلى المعونة والمشورة من أحد المحامين. وقد يكون غير قادر على سداد أتعاب المحامي أو غير قادر على سدادها في الوقت الحالي أو غير قادر على سدادها دفعة واحدة، وبحيث يكون تقسيط هذه الأتعاب أملاً ومطلباً بالنسبة له. وفي المقابل، فإن سداد أتعاب المحامي كاملة له وبشكل فوري وآني هو أحد حقوقه المشروعة.
ولكل ما سبق، بدأت بعض النظم القضائية وبعض شركات ومكاتب المحاماة الكبرى مؤخراً التفكير في الاستفادة من الخدمات التي توفرها بعض البنوك والمصارف وشركات التمويل، من خلال التقسيط البنكي لقيمة بعض السلع والخدمات التي يحتاج إليها العميل. وإذا كانت الشركات والمؤسسات التجارية الكبيرة تستفيد من هذه الميزة، فإن الجهات الحكومية وشركات ومكاتب المحاماة ينبغي أن تعمد بدورها إلى الخروج من عباءة الحلول التقليدية إلى عباءة أوسع وأشمل، من خلال الاستفادة بالتطورات والمستجدات الحاصلة في المنظومة الاقتصادية والمصرفية.
وهكذا، وفي إمارة أبو ظبي، وبتاريخ الخامس من شهر نوفمبر 2024م، صدر قرار رئيس دائرة القضاء رقم (64) لسنة 2024 بشأن تقسيط الرسوم القضائية ورسوم الخدمات العدلية وأتعاب المحاماة. وتحدد المادة الأولى منه أهداف القرار، بنصها على أن «يهدف هذا القرار إلى ما يلي:
- 1. ريادة إمارة أبو ظبي ومحاكمها في توفير أول خدمة من نوعها في المنطقة لتقديم حلول تمويلية مبتكرة وميسرة بالتعاون مع البنوك والمصارف وشركات «الشراء الآن الدفع لاحقا» (BNPL) لتقسيط الرسوم القضائية ورسوم الخدمات العدلية وأتعاب المحاماة.
- 2. ضمان حق الأفراد والمتقاضين في الوصول إلى الخدمات العدلية، عبر إزالة الحواجز المالية التي قد تحول دون لجوء الأفراد أو الشركات إلى القضاء أو الحصول على الخدمات القانونية اللازمة.
- 3. تطوير آلية تمويل دفع أتعاب المحاماة.
- 4. الحفاظ على مدخرات المتقاضين والسيولة المالية للشركات.
- 5. دعم دوران رأس المال في السوق بشكل عام.
- 6. تسهيل دفع أتعاب المحاماة وأمانة الخبراء، الأمر الذي قد يشكل عائقاً أمام شريحة كبيرة من المجتمع.
- توفير حلول مبتكرة تدعم تنافسية إمارة أبو ظبي على الصعيد الاقتصادي والتشريعي».
وتحدد الـمادة الثانية منه آلية تطبيق القرار، بنصها على أن «يتم تنفيذ هذا القرار بالشراكة مع البنوك والمصارف وشركات التمويل، حيث يُمكن للمتقاضين أو المستفيدين من خدمات دائرة القضاء الاستفادة من خدمة الدفع اللاحق، وبما يتيح للمستخدم أو المتقاضي الحصول على الخدمة مع إمكانية دفع الرسم أو الأتعاب الخاصة بالخدمة بالتقسيط».
أما الـمادة الثالثة من القرار، فتتضمن قائمة «الخدمات المستفيدة من آلية الدفع اللاحق»، بنصها على أن «تشمل الخدمات التي يُمكن دفع رسومها عبر الآلية المنصوص عليها في هذا القرار ما يلي:
رسوم التقاضي: كافة الرسوم المتعلقة بدائرة القضاء، سواء المحاكم أو النيابة أو الحلول البديلة.
أتعاب المحاماة: بالتعاون مع مكاتب المحاماة التي ترغب في توفير هذه الخدمة.
أتعاب ورسوم الخبراء: تشمل رسوم إجراءات الخبرة.
رسوم الخدمات العدلية: تشمل رسوم الكاتب العدل والتوثيقات والخدمات العدلية الأخرى المقدمة من الدائرة.
تقسيط مبالغ التنفيذ: دفع الرسوم المتعلقة بتنفيذ الأحكام القضائية.
رسوم الاشتراك في خدمات دائرة القضاء: مثل العضوية في سجل المحامين والخبراء والكاتب العدل وغيرها من الرسوم الإدارية».
وتحدد المادة الرابعة من القرار آلية السداد، بنصها على أن «1. يقوم البنك أو المصرف أو شركة التمويل بدفع كامل مبلغ الخدمة لدائرة القضاء أو الأتعاب للمحامي نيابة عن الشخص وذلك بنظام اﻟ (BNPL). 2. يقوم البنك أو المصرف أو شركة التمويل بتحصيل المبلغ من خلال الأقساط الشهرية. يمكن أن تكون هذه الأقساط بدون فوائد أو بفائدة بسيطة، على مدار (12) شهراً أو أقل حسب اتفاق العميل مع البنك أو المصرف أو شركة التمويل.
- 3. تُحصّل دائرة القضاء أو المحامي على المبلغ كاملاً من البنك أو المصرف أو شركة التمويل دون التأثير السلبي على السيولة النقدية للأفراد أو السوق.
- 4. في حالة تخلف العميل الخدمة عن السداد يحق للبنك أو المصرف أو شركة التمويل اللجوء مباشرة إلى محكمة التنفيذ واعتبار الدين سندا تنفيذيا، دون الحاجة لقيد دعوى أمام المحكمة بذلك».
وتحت عنوان «الشراكات»، تنص الـمادة الخامسة من القرار على أن «تبرم الدائرة اتفاقيات شراكة مع البنوك والمصارف وشركات التمويل لتوفير آلية تمويل ميسرة لتكاليف الدعوى من رسوم قضائية أو أتعاب المحاماة والخبرة».
والواقع أن الجهات الحكومية الإدارية كانت أسبق في الاستفادة من آلية التقسيط البنكي للرسوم والغرامات الإدارية. إذ أصدرت دائرة بلدية دبي القرار الإداري رقم (424) لسنة 2019 بشأن تقسيط الرسوم والغرامات المستحقة للدائرة. وبناءً على هذا القرار، قامت الدائرة بتوفير خدمة تقسيط الرسوم والغرامات المستحقة لها عبر موقع بلدية دبي الالكتروني من خلال خيارات التقسيط المتاحة، وهي:
– التقسيط من خلال بنك الإمارات دبي الوطني لمدة 12 شهراً لتسديد الرسوم والغرامات دون فوائد، على أن تكون قيمة المستحقات خمسمائة درهم وما فوق.
– التقسيط من خلال مصرف الإمارات الإسلامي لمدة 24 شهراً لتسديد الرسوم والغرامات دون فوائد، على أن تكون قيمة المستحقات خمسمائة درهم فما فوق.
وبدورها، وفي السادس عشر من شهر أكتوبر 2024م، أعلنت هيئة الطرق والمواصلات في إمارة دبي عن إمكانية تقسيط رسوم خدماتها على أربعة أقساط شهرية، وبحيث يمكن للمتعاملين سداد رسوم خدماتها عبر نظام «تابي»، لتتيح لمتعامليها «تجريبيا» تقسيط المبالغ على فترة تصل إلى 4 أشهر. وأوضحت الهيئة أنه يمكن تقسيط رسوم جميع الخدمات المتاحة عبر الأكشاك الذكية، بما فيها المخالفات المرورية، لافتة إلى أن الأكشاك الذكية منتشرة في أكثر من واحد وعشرين موقعاً مختلفاً، منها مبنى الهيئة الرئيسي، ومراكز إسعاد المتعاملين ومراكز مزودي الخدمات الرئيسية، وعدد من المواقع الحيوية في إمارة دبي.
ونرى من الملائم أن تعمل وزارة العدل وغيرها من الجهات الحكومية المصرية ونقابة المحامين على تدشين مبادرة مماثلة، بما يقود إلى تدعيم وتعزيز نشاط مكاتب المحامين وتيسير استيفاء الرسوم القضائية والإدارية بما يؤدي إلى تعزيز قدرة الحكومة على إدارة وتشغيل المرافق العامة، ويقود في الوقت ذاته إلى تخفيف العبء عن كاهل المتعاملين. والله من وراء القصد…