التفكير فريضة إسلامية
التفكير فريضة إسلامية
نشر بجريدة الشروق الخميس 29 / 4 / 2021
بقلم: الأستاذ/ رجائي عطية نقيب المحامين
على قدر ما كتبت كثيرًا عن الأستاذ العقاد، وصروح مدينته ولعل الأدق مدائنه، اختص كتابه « التفكير فريضة إسلامية » بمنزلة كبرى عندي. متعةً واستزادة ومرجعية لا يشبع الباحث عن الاستنارة في الإسلام من الرجوع إليه والنهل منه.
ولولا أنى مقيد بعنوان الكتاب وموضوعه، لفضّلت أن يكون عنوان حديثي اليوم:
« التفكير: الفريضة الإسلامية الغائبة ».. فقد غاب التفكير عن فصائل كثيرة منتمية للإسلام، أو بالأحرى تحسب أنها منتمية إليه، ظنًّا منها بأن الدين مجرد عنوان وشكل، وطقوس ومناسك، وأداء بلا روح ولا فهم للعبادات.
من حظ هذا الكتاب أن أخرجه الأستاذ العقاد في نهاية عمره، بعد أن استوى له كل ما أراد من إبحاره في بحور بلا شطآن، وإلمامه لما لم يتح إلاَّ للأفذاذ الذين على شاكلته. في عام 1961 قبل سنتين ونصف من وفاة الأستاذ في مارس 1964، وهو العام الذي أخرج فيه أيضًا درته عن الإنسان في القرآن وفي مذاهب الفكر.. وقد أصدر المؤتمر الإسلامي أولى طبعات « التفكير فريضة إسلامية » عن طريق دار القلم، ونشرته أيضًا دار الهلال ضمن مطبوعاتها بذلك العام (1961)، ثم في طبعة أخرى جديدة، وأعادت دار نهضة مصر نشره سنة 2000، وأعيد نشره بالمجلد /5 المجموعة الكاملة لمؤلفات العقاد ـ بيروت 1980.
فارق هائل بين هذا المؤلف، وبين أي كتاب آخر ـ أيًّا كان ـ تصدى للحديث عن مكانة العقل والتفكير في الإسلام، بل وتكاد ترى بعض العلماء يؤخر ساقًا قبل أن يقدّم ساقًا في كتابته عن الإسلام والعقل، لأنه يحسب أن تقديم العقل يمس أولوية وقداسة النص، بينما النص ذاته في حاجة إلى تفكير لحسن فهمه وسبر جوانبه وغاياته.
دخل الأستاذ العقاد إلى لب القضية مباشرة، فنوّه بأنه من بين مزايا القرآن الكثيرة مزية واضحة فيه ثابتة بنصوص الآيات القرآنية، ثبوتًا تؤيده الدلالات الواضحة المباشرة للألفاظ.
وتلك هي مزية التنويه بالعقل، وبكل ملكة من ملكاته، والتعويل عليه.
ففي كتب الأديان الكبرى إشارات صريحة أو ضمنية إلى العقل أو إلى التمييز، ولكنها تأتى عرضًا غير موظفة في نظرية متكاملة.
أما القرآن الحكيم، فإنه لا يذكر العقل إلاّ في مقام التعظيم والتنبيه إلى وجوب العمل به والرجوع إليه.
وظائف العقل
ولم تأت هذه الإشارات عرضًا، أو مقتضبة في سياق آية، بل هى تأتى في كل موضع مؤكدة جازمة باللفظ والدلالة، وتتكرر في كل معرض للأمر والنهى، حاثةً المؤمن على تحكيم عقله، ولائمة له على إهماله أو تعطيله أو قبول الحجر عليه.
وخطاب القرآن الحكيم للعقل، اتجه إلى كل وظيفة من وظائفه يتسع لها العقل الإنساني.. العقل الوازع، والعقل المدرك، والعقل المفكر أو الحكيم، والعقل الرشيد.
فالعقل في مدلول لفظه العام ملكة يناط بها « الوازع » الأخلاقي أو المنع عن المحظور والمنكر..
ومن خصائص العقل ـ ملكة « الإدراك » التي يناط بها الفهم والتصور..
ومن خصائصه أنه يتأمل فيما يدركه ويقلبه على وجوهه، ويستخرج منه بواطنه وأسراره، ويبنى عليها نتائجه وأحكامه.. وجملة هذه الخاصية تجمعها ملكة « الحكم » وتتصل بها ملكة « الحكمة ».
ومن أعلى خصائص العقل الإنساني « الرشد »، ووظيفة الرشد فوق وظيفة العقل الوازع والعقل المدرك والعقل الحكيم.. لأنها استيعاب واستيفاء لجميع هذه الوظائف.
وفريضة التفكير في القرآن الحكيم تشمل العقل الإنساني بكل ما احتواه من هذه الوظائف بكل خصائصها ومدلولاتها، وتخاطب كل خاصية من هذه الخصائص.
* * *
فمن خطاب إلى العقل عامة، ومنه ما ينطوي على العقل الوازع:
- قوله تعالى: « إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللّهُ مِنَ السَّمَاء مِن مَّاء فَأَحْيَا بِهِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَآبَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخِّرِ بَيْنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ».
- ومنه: « وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَلَهُ اخْتِلافُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ ».
- ومنه ما يخاطب العقل وينطوي على العقل الوازع كقوله تعالى في سورة الملك:
« وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ ».
- وفي سورة الأنعام: « وَلاَ تَقْرَبُواْ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ».
- ومنه، بيانًا لأسباب الشقاق والتدابر بين الأمم: « تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَ يَعْقِلُونَ ».
وهذا عدا الآيات الكثيرة التي تبتدئ بالزجر وتنتهى إلى التذكير بالعقل، لأنه خير مرجع للهداية في ضمير الإنسان، كقوله تعالى: « أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ ».
وتتكرر في آيات كثيرة عبارات: أفلا تعقلون، ذلك بأنهم قوم لا يعقلون.
وفي غير هذه السور الكريمة تنبيه إلى العقل في مثل هذا السياق يدل عليه ما تقدم في هذه الآيات.
العقل المدرك
وهذا الخطاب المتكرر الذي رأيناه للعقل الوازع، والذي حرصت على إيراد كل ما أورده الأستاذ العقاد من آيات قرآنية تدليلاً على هذا الخطاب، وبيانًا لحجته، يضارعه الخطاب القرآني للعقل المدرك أو العقل الذي يقوم به الفهم والوعى، وهما أعم وأعمق ـ فيما يقول ـ من مجرد الإدراك . وكـل خطـاب في القرآن إلى « ذوى الألباب » ـ خطاب إلى « اللب » وهو جوف وجوهر العقل، وهو معدن الإدراك والفهم في ذهن الإنسان. ومن هذا الخطاب في القرآن الحكيم، ما تردد في الكثير من آياته قبل: « وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ، فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ، أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الألْبَابِ، فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لاَّوْلِي الأَلْبَابِ، يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ، وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ ».
ويتضح من هذه الآيات ـ فيما يورد الأستاذ العقاد ـ أن وظيفة « اللب » الذي يخاطبه القرآن الحكيم ـ هي وظيفة عقلية تحيط بالعقل الوازع وبالعقل المدرك، والعقل الذي يتلقى الحكمة ويتعظ بالذكر والذكرى، ويتجه إلى أناس من العقلاء لهم نصيب من الفهم والوعى أوفر من نصيب العقل الذي كفَّ صاحبه عن السوء، فإنه لا يرتقى إلى منزلة الرسوخ في العلم والتمييز بين الحسن والأحسن على نحو ما نرى في سياق الآيات..
العقل المفكر أو الحكيم
والعقل المفكر أو الحكيم، هو الذي يستخلص من تفكيره زبدة الرأى والروية، ويعبر عنه القرآن الحكيم بكلمات متعددة تشترك في المعنى أحيانًا، وينفرد بعضها بمعناه في أحيان أخرى تبعًا للسياق. فنرى حقًّا على الفكر والنظر والبصر والتدبر والاعتبار والذكر والعلم وسائر هذه الملكات الذهنية التي قد تتفق أحيانًا في المدلول، ولكنها قد لا تستفاد من كلمة واحدة تغنى عن أخرى تسهم في البيان. ومن هذا الخطاب المتكرر في الآيات القرآنية..
« وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبيِّنُ اللّهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ » ( البقرة 219 ).
وعلى هذه الدعوة إلى إعمال الفكر، عشرات الآيات الكريمة، ترى منها: أفلا تتفكرون، لآيةٌ لقوم يتفكرون، أو لم يتفكروا في أنفسهم، أنظر كيف نصرّف الآيات لعلهم يفقهون، أفلا ينظرون، أفلا تبصرون، أفلا يتدبرون، فاعتبروا يا أولى الأبصار، لعلهم يتذكرون، إنما يتذكر ألوا الألباب، قد فصلنا الآيات لقوم يعلمون، ما يذكر إلاَّ ألوا الألباب.
من الآيات ما تحدث عن الفكر ـ أو التفقه، أو التدبر، أو الذكر والتذكر، أو العلم ومن يعلمون، وعن البيان والراسخين في العلم، وإحصاء هذا يطول.