التفتيش الرقمي
بقلم/ د أشرف نجيب الدريني
هل يحق لرجل الضبط القضائي أن يمد يده إلى هاتفك المحمول بمجرد استيقافك في الطريق؟ وهل يختلف الأمر إذا وُجدت دلائل جدية أو حالة تلبس بارتكاب جريمة؟ وهل الهاتف المحمول مجرد جهاز كأي أداة مادية يمكن إخضاعها للتفتيش، أم أنه مستودع أسرار وحياة كاملة يجب أن يحاط بأقصى درجات الحماية؟ هذه التساؤلات تمس كل إنسان يعيش عصره، يحمل حياته بين يديه في جهاز صغير، يخشى أن تمتد إليه سلطة بلا ضابط.
لقد صار الهاتف المحمول امتدادًا لذاتنا الإنسانية، لا مجرد أداة للاتصال. داخله تختلط الذكريات العائلية بالصور الخاصة، والمحادثات المهنية بالأسرار المالية، حتى بات كأنه مرآة للنفس البشرية وذاكرة حيّة لا تفارق صاحبها. ولهذا، فإن النقاش حول التفتيش الرقمي ليس خلافًا إجرائيًا محدودًا، بل صراع بين سلطان القانون وسلطان الإنسان، بين واجب الدولة في كشف الحقيقة، وحق الفرد في أن يحتفظ بكرامته وحرمة عالمه الخاص.
القانون بدوره لم يقف مكتوف الأيدي، فقد أدرك خطورة المسألة. ففي مصر كما في فرنسا، استقر الفقه والقضاء على أن تفتيش الهاتف المحمول لا يجوز إلا بإذن قضائي أو من النيابة العامة، إلا إذا قامت حالة تلبس لا تحتمل التأخير. أما المحكمة العليا الأمريكية، فقد حسمت الجدل في قضية Riley v. California حين اعتبرت أن تفتيش الهاتف دون إذن هو انتهاك جسيم للخصوصية، يعادل في خطورته اقتحام بيت الإنسان بلا مسوغ. هذه المقارنة تكشف إدراكًا عالميًا بأن الهاتف ليس مجرد شيء مادي، بل فضاء شخصي يضاهي قدسية المسكن.
وقد يظن البعض أن الأمر بسيط: مجرد استيقاف في الشارع يبرر الاطلاع على الهاتف. لكن الواقع يبرهن عكس ذلك. تخيل مأمور ضبط يوقف شخصًا بدعوى الاشتباه، ثم يطلب الاطلاع على رسائله الخاصة بحثًا عن دليل على تجارة محرمة. هنا نكون قد تجاوزنا الحد الفاصل بين إجراء وقائي مشروع وانتهاك فج للحرية الشخصية. فالقانون يفرق بوضوح بين الاستيقاف الذي لا يتعدى سؤال الهوية، وبين التفتيش الذي لا يبرره سوى إذن قضائي صريح أو حالة تلبس واضحة.
ومع ذلك، لا يمكن إنكار أن هناك حالات يصبح فيها التفتيش الرقمي ضرورة لكشف الحقيقة. في قضايا الابتزاز الإلكتروني مثلًا، حيث يقرر المجني عليه أن هاتف المتهم يحوي الرسائل محل الجريمة، هنا يكون إذن النيابة بالتفتيش مشروعًا وضروريًا، لأنه مقيد بهدف محدد ومرتبط بدليل جدي. هكذا يحافظ القانون على التوازن: لا يطلق يد السلطة بلا قيد، ولا يقيدها بما يعطل العدالة.
لكن المعضلة تكبر حين يتعلق الأمر بالأجهزة المهنية. فالصحفي الذي يحمل في هاتفه أسماء مصادره ومراسلاته لا يحمي نفسه فقط، بل يحمي حق المجتمع في المعرفة. والمحامي الذي يحتفظ على جهازه بملفات موكليه، لا يصون مصلحته الفردية فحسب، بل يحفظ ضمانات الدفاع. وهنا يصبح التفتيش أكثر حساسية، لأن أي مساس بهذه الأجهزة قد يعني المساس بحقوق الغير وحرياتهم الأساسية. لذلك تشترط بعض الأنظمة القضائية إذنًا محددًا بدقة، لا يترك مجالًا للتوسع أو التعسف، حتى يبقى التفتيش محصورًا في ما يرتبط مباشرة بالجريمة محل التحقيق.
وإذا كان هذا هو الحال مع الأفراد، فإن الصورة تزداد تعقيدًا مع أجهزة الشركات. فحاسوب الشركة أو خادمها الإلكتروني لا يخص موظفًا واحدًا، بل يتضمن بيانات مئات العملاء، وأسرارًا صناعية وتجارية، وملفات مالية تمس اقتصاديات كبرى. تفتيش هذه الأجهزة بلا ضوابط لا يهدد فقط حقوق الموظف أو الشركة، بل قد يهز الثقة في السوق والاقتصاد بأكمله. لذلك اتجهت التشريعات الحديثة إلى التفرقة بين التفتيش الموجه للفرد الطبيعي، وذلك الموجه للشخصية الاعتبارية، حيث تتطلب الحالة الأخيرة ضمانات أشد صرامة، تحدد نوع البيانات محل البحث، وتحظر الاطلاع على أسرار لا صلة لها بالتحقيق.
ويظل البعد الإنساني الأعمق حاضرًا عند الحديث عن البيانات الشخصية الحساسة، كالملفات الطبية، والمعلومات البيومترية، والتفاصيل المالية الخاصة. هذه ليست مجرد بيانات تقنية، بل أسرار تمس كرامة الإنسان وقد تحدد صورته في المجتمع، أو تعرضه للوصم والاستغلال والخطر. ولهذا ينظر إليها القانون على أنها مناطق محصنة، لا يجوز المساس بها إلا بإذن قضائي دقيق للغاية، يوازن بين خطورة الجريمة وحق الفرد في صون ذاته الرقمية.
في النهاية، إذا كنا قد بدأنا بتساؤلات تهز العقل والوجدان، فإن الإجابة التي تنبثق من مجمل التحليل واضحة: التفتيش الرقمي لا يجوز أن يكون امتدادًا ميكانيكيًا للتفتيش التقليدي، لأنه يتصل مباشرة بجوهر الكرامة الإنسانية. فهو لا يقتصر على كشف أدلة، بل قد يكشف حياة بأكملها. لذلك لا يملك مأمور الضبط القضائي أن يمد يده إلى هاتف أو حاسوب لمجرد استيقاف عابر. والأمر أشد صرامة حين يتعلق بالأجهزة المهنية أو أجهزة الشركات أو البيانات الحساسة. الهواتف المحمولة والحواسيب لم تعد مجرد أدوات، بل أصبحت أوطانًا صغيرة نحملها معنا. ومن يحمي هذه الأوطان الرقمية يحمي إنسانية الإنسان ذاتها. أما العدالة الجنائية التي تهدر هذا البعد الإنساني، فإنها تفقد روحها قبل أن تفقد مشروعيتها. والله من وراء القصد.