التغير المناخي والجريمة
بقلم/الدكتور أحمد عبد الظاهرــ أستاذ القانون الجنائي بجامعة القاهرة
في الفترة من السابع إلى الثامن عشر من شهر نوفمبر 2022م، وفي مدينة شرم الشيخ على ساحل البحر الأحمر، تستضيف جمهورية مصر العربية قمة الأمم المتحدة للمناخ (COP 27)، والتي يشارك فيها قادة العالم ومسؤولون رفيعو المستوى في الأمم المتحدة، كما يحضرها آلاف النشطاء المعنيون بالبيئة من دول العالم كافة، وذلك بالإضافة لممثلين عن شركات صناعية كبرى، خاصة شركات البترول، للحديث عن مشاركتهم في تقليل نسب التلوث التي يتسببون فيها.
وغني عن البيان أن مؤتمر الأمم المتحدة بشأن التغير المناخي هو قمة سنوية تحضرها 197 دولة، من أجل مناقشة ظاهرة التغير المناخي، والبحث فيما يجب أن تفعله الدول لمواجهة هذه المشكلة ومعالجتها أو على الأقل التخفيف من آثارها.
ويعد المؤتمر جزءاً من اتفاقية الأمم المتحدة الإطارية بشأن التغير المناخي، وهي معاهدة دولية وقعتها معظم دول العالم، بهدف الحد من تأثير النشاط البشري على المناخ. وهذا المؤتمر هو السابع والعشرون منذ دخول الاتفاقية حيز التنفيذ في الحادي والعشرين من مارس 1994م. ويتم اختيار الدولة المستضيفة للمؤتمر وفقا لنظام التناوب بين القارات المختلفة، حيث عقد المؤتمر الأول في مدينة برلين الألمانية سنة 1995م. وقد تقدمت مصر العام الماضي بطلب لاستضافة دورة هذا العام من المؤتمر، ووقع الاختيار عليها باعتبارها الدولة الأفريقية الوحيدة التي أبدت رغبتها في استضافته.
وتعقد الدورة القادمة للمؤتمر (COP 28) في دولة الإمارات العربية المتحدة العام المقبل. وجدير بالذكر في هذا الصدد أن كلمة (COP) هي اختصار لعبارة (Conference of the Parties)، أو مؤتمر الأطراف. وقد سبق أن تمت استضافة المؤتمر في منطقة الشرق الأوسط، حيث احتضنت المغرب الدورتين السابعة والثانية والعشرين للمؤتمر عامي 2001م و2016م، بينما استضافت قطر الدورة الثامنة عشر سنة 2012م.
وعند البحث في الآثار الضارة لظاهرة التغير المناخي، تبرز دائماً بعض الموضوعات، مثل ارتفاع درجات الحرارة (Global Warming) والتلوث (Pollution) والصحة (Health) والكوارث الطبيعية (Natural Disasters) والنزوح بسبب الكوارث الطبيعية (Displacement) والتنمية المستدامة (Sustainable Development). ويندر بالتالي الحديث عن الآثار الناجمة عن التغير المناخي على السلوك الإنساني، ولاسيما صور السلوك التي تقع تحت طائلة التجريم. وبعبارة أخرى، يندر الحديث عن الآثار الإجرامية لظاهرة التغير المناخي. ويصدق ذلك بوجه خاص على الفقه القانوني الناطق بلغة الضاد ومراكز البحوث الجنائية في العالم العربي.
والواقع أن للتغير المناخي بعض الآثار والانعكاسات على السلوك الإجرامي، سواء من حيث الكم أو من حيث الكيف. وقد اهتم علماء الإجرام منذ زمن بعيد بدراسة العلاقة بين الجريمة وبين البيئة الجغرافية.
والمقصود بالبيئة الجغرافية كعامل جغرافي هو بيان ما إذا كانت ثمة علاقة بين العناصر الطبيعية التي يعيش فيها الفرد من ناحية وبين الإجرام من ناحية أخرى. ويقصد بالبيئة الجغرافية في هذا الشأن كل عناصر البيئة الطبيعية التي لا دور للإنسان في وجودها، كالموقع الجغرافي والتضاريس ودرجة الحرارة وتقلبات الفصول وما إلى ذلك.
ومع ذلك، ينبغي النظر إلى الموضوع من زاوية أخرى، من خلال التركيز على ظاهرة التغير المناخي بوجه خاص، منظوراً إليها باعتبارها ثمرة النشاط الضار للإنسان والمجتمعات الصناعية على وجه الخصوص، وليست ظاهرة طبيعية لا شأن للإنسان في وجودها.
كذلك، ينبغي التركيز على العوامل البيئية لصيقة الصلة بظاهرة التغير المناخي، دون غيرها من العوامل البيئية الأخرى. ولا يجوز الاعتماد في هذا الصدد على الدراسات السابقة، والتي أجريت في قرون أو عصور سابقة على نشأة هذه الظاهرة المستحدثة، والتي بدأ الحديث عنها مع اتساع ثقب الأوزون.
فالأمر لا يتعلق فحسب بمجرد زيادة في درجات الحرارة، وإنما بأن هذه الزيادة مصطنعة أو غير طبيعية نتيجة تدخل ضار من الإنسان، الأمر الذي أورث خللاً بالتوازن البيئي وخلق ما يطلق عليه البعض «الفوضى المناخية» (راجع على سبيل المثال: مؤتمر المناخ 2022؛ «إشارة استغاثة» في مواجهة «وقائع الفوضى المناخية»، موقع بي بي سي عربي، 7 نوفمبر/ تشرين الثاني 2022م).
ومع تأكيدنا على ضرورة إجراء أبحاث حديثة في هذا الشأن، ربما يكون مفيداً الإشارة إلى أن بعض الدراسات السابقة ذات الصلة بالعلاقة بين المناخ والجريمة. وفي هذا الصدد، لا نجافي الحقيقة إذا قلنا إن عنصر الحرارة هو أكثر عناصر البيئة الطبيعية التي كانت محلاً للبحث والدراسة. ففي النصف الأول من القرن التاسع عشر، ذهبت المدرسة الجغرافية بزعامة العالم البلجيكي (Quetelet) إلى استخلاص علاقة ثابتة بين درجة الحرارة والظاهرة الإجرامية، صاغتها في صورة «القانون الحراري للإجرام» (Loi thermique de la délinquance).
ومضمون هذا القانون أن جرائم الدم، كالقتل والضرب المفضي إلى الموت، وجرائم الاعتداء على سلامة الجسم بوجه عام، تكثر في المناطق الحارة، بينما تكثر جرائم الاعتداء على الأموال في المناطق الباردة، وأنه بقدر ما نبعد عن خط الاستواء بقدر ما تزيد جرائم الأموال وبقدر ما تهبط جرائم الأشخاص. ويتفرع عن هذا القانون نتيجة أخرى حتمية، وهي أن تعاقب الفصول داخل البلد الواحد تقترن به ذات الملاحظات. إذ يكثر الإجرام العنيف صيفاً، والإجرام الماس بالأموال شتاءً.
وبالإضافة إلى العلاقة بين الإجرام من ناحية وبين درجة الحرارة من ناحية أخرى، أثبتت بعض الدراسات التي أجريت بشأن العلاقة بين عناصر المناخ وبين الظاهرة الإجرامية أنه كلما ارتفعت الرطوبة في إقليم معين، انخفضت فيه نسبة جرائم العنف. كذلك، أثبتت الدراسات أنه كلما ازدادت درجة الجفاف، برزت على نحو أوضح جرائم الحريق العمد والحريق بإهمال.
وأشارت دراسات أخرى إلى وجود علاقة عكسية بين السلوك الإجرامي وبين الضغط البارومتري وهطول الأمطار. إذ تظهر الدراسات التي أجريت في هذا الصدد أنه كلما انخفض الضغط البارومتري، ارتفعت جرائم العنف، وكلما ازداد معدل هطول الأمطار، هبطت جرائم العنف. وتبرز بعض الدراسات أن جرائم الاعتداء المسلح تميل إلى الهبوط، كلما كانت الرياح معتدلة (راجع بالتفصيل في هذا الشأن: د. أحمد عوض بلال، علم الإجرام، النظرية العامة والتطبيقات، دار النهضة العربية، القاهرة، الطبعة الأولى، د. ت، ص 346 وما بعدها).
وفيما يتعلق بالإرهاب على وجه الخصوص، وفي كلمته أمام مجلس الأمن بجلسته المنعقدة يوم الخميس الموافق التاسع من ديسمبر 2021م، قال الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو جوتيريش، إن التدهور البيئي يمكّن الجماعات المسلحة من بسط نفوذها والتلاعب بالموارد لصالحها، مشيراً إلى أن مبادرات منع الصراع يجب أن تأخذ في الاعتبار مخاطر تغير المناخ.
وفي كلمته خلال جلسة مجلس الأمن التي انعقدت حول «السلم والأمن في سياق الإرهاب وتغير المناخ»، عدد أنطونيو جوتيريش بعض الأمثلة التي استغلت خلالها الجماعات الإرهابية الوضع العام للبنية التحتية الهشة، من أجل تعزيز قبضتها على جميع مناحي حياة السكان في تلك المناطق. وقال إنه في العراق وسوريا، استغل تنظيم داعش الإرهابي نقص المياه وسيطر على البنية التحتية للمياه، لفرض إرادته على المجتمعات. بينما في الصومال، يوفر إنتاج الفحم مصدر دخل لحركة الشباب.
واستطرد الأمين العام للأمم المتحدة، قائلاً إن «تغير المناخ ليس مصدر كل العلل، ولكن له تأثير مضاعف وهو عامل يؤدي إلى تفاقم عدم الاستقرار والصراع والإرهاب». ومن ثم، حث الأمين العام للأمم المتحدة أعضاء مجلس الأمن على معالجة هذه التحديات بطريقة متكاملة لخلق «دائرة إيجابية من السلام والصمود والتنمية المستدامة».
وذكّر أنطونيو جوتيريش أن المناطق الأكثر عرضة لتغير المناخ حالياً تعاني أيضاً إلى حد كبير من انعدام الأمن والفقر وضعف الحكم وآفة الإرهاب. وشدد الأمين العام للأمم المتحدة على أن «تأثيرات المناخ تزيد من حدة النزاعات وتؤدي إلى تفاقم الهشاشة … عندما يترك فقدان سبل العيش السكان في حالة من اليأس، فإن الوعود بالحماية والدخل والعدالة – التي يخفي الإرهابيون وراءها أحياناً خططهم الحقيقية – تصبح أكثر جاذبية». وللتدليل على صحة هذا القول، وعلى سبيل المثال، ذكر أنطونيو جوتيرش أنه في منطقة حوض بحيرة تشاد، تمكنت جماعة بوكو حرام من اكتساب مجندين جدد، لاسيما من المجتمعات المحلية التي خاب أملها بسبب الافتقار إلى الفرص الاقتصادية والوصول إلى الموارد الأساسية. وسلط الأمين العام للأمم المتحدة الضوء على أهمية «الأجندة الجديدة للسلام» التي اقترحها مؤخراً، والتي أتت ضمن التقرير التاريخي المعنون «خطتنا المشتركة»، والذي يقدم رؤية متعددة الأبعاد للأمن العالمي.
هذه الآثار المخيفة للتغير المناخي تجعل من وفاء الدول الصناعية الكبرى بالتزاماتها نحو مساعدة الدول الفقيرة بمائة مليار دولار سنوياً لمكافحة التغير المناخي أمراً ضرورياً وحاجة ملحة لا تحتمل التأخير. والمأمول هو أن تفي الدول الصناعية بهذا الالتزام قبل فوات الأوان. حفظ الله البشرية من كل مكروه وسوء.