التعديلات المقترحة لقانون المحكمة الدستورية العليا (2)

بقلم الأستاذ: محمد شعبان

ناقشنا في المقال السابق التعديلات المقترحة على قانون المحكمة الدستورية العليا والتي يُستهدف من ورائها منح المحكمة اختصاصاً جديداً، بالإضافة إلى الاختصاصات المقررة لها بمقتضى الدستور، وهو “الرقابة على دستورية قرارات المنظمات والهيئات الدولية وأحكام المحاكم وهيئات التحكيم الأجنبية المطلوب تنفيذها في مواجهة الدولة”، وسبق وأن تحدثنا عن فكرة الرقابة على دستورية قرارات المنظمات والهيئات الدولية، وبقي لنا أن نسلط الضوء على فكرة الرقابة على أحكام المحاكم وهيئات التحكيم الأجنبية المطلوب تنفيذها في مواجهة الدولة.

وبداية نود أن نستهل هذا المقال بإيضاح وجيز عن فكرة الأحكام الأجنبية، سواء تلك التي تصدرها محاكم دولية أو هيئات التحكيم الدولية، حتى يتسنى بعد ذلك تحليل فكرة الرقابة على دستورية هذه الأحكام، ومدى جدواها ومنطقية تقبلها من عدمه.

وفيما يخص أحكام المحاكم الدولية؛ فالجدير بالذكر أن ثمة محاكم تنشأ على الصعيد الدولي، وفي الغالب الأعم من الأحوال أن يكون التنظيم الحاكم لعمل هذه المحاكم مما يدخل في نطاق أحكام القانون الدولي العام، فينعقد لها الاختصاص بنظر بعض المنازعات ذات الطابع الدولي والتي في غالب الأحيان تنعقد الخصومة فيها بين الدول كأشخاص للقانون الدولي العام، وهذه المحاكم منها ما يكون جزءاً من هيئة الأمم المتحدة (كمحكمة العدل الدولية) والتي تعتبر بمثابة الهيئة القضائية الرئيسية لمنظمة الأمم المتحدة، ومنها ما يكون مستقلاً عن المنظمة، وإن كان من المتصور وجود علاقة تعاون فيما بينهما، تنظمها اتفاقيات خاصة كما هو الحال بالنسبة لـ (المحكمة الدولية لقانون البحار) والمنشأة بموجب اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار والكائن مقرها في هامبورج بألمانيا، و(المحكمة الجنائية الدولية) المنشأة بموجب نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية في يوليه 1998 والتي دخلت حيز النفاذ في يوليه 2002 ومقرها في لاهاي بهولندا.

وغير ذلك من بعض المحاكم الجنائية المتخصصة والتي قد يلجأ مجلس الأمن إلى تشكيلها ضمن أحد التدابير التي يتخذها على الصعيد الدولي لمواجهة الخروقات التي تقع في بعض الدول والتي ينتج عنها انتهاكات جسيمة بالقانون الدولي الإنساني، كالمحكمة الجنائية الدولية ليوغوسلافيا سابقاً والمحكمة الجنائية الدولية لرواندا.

وفي جميع الأحوال فإن قيام أي من هذه المحاكم بدورها في نظر المنازعات التي تختص بنظرها، مرهون بإقرار الدول الأطراف في الاتفاقيات المنشئة لهذه المحاكم بقبولها باختصاص المحكمة لنظر هذه المنازعات ذات الصلة، وذلك فيما عدا أحوال أخرى استثنائية مرتبطة ببعض المحاكم كالمحكمة الجنائية الدولية التي قد ينعقد لها الاختصاص بنظر الدعاوى الناشئة عن إحدى الجرائم المشار إليها في المادة (5) من النظام الأساسي متى أحيل إليها الطلب من مجلس الأمن متصرفاً بموجب الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة.

أما فيما يخص هيئات التحكيم الدولية؛ ففي الآونة الأخيرة تعاظم الدور الذي يلعبه (التحكيم) كأحد الوسائل الاختيارية التي يلجأ إليها الخصوم لفض ما عسى أن ينشأ فيما بينهم من منازعات بمناسبة تنفيذ اتفاق معين، وهو في الأساس وسيلة اختيارية وليس فيها نوع من الإجبار. وطالما لم تتوافق إرادة الأطراف المتنازعة على أن تكون تسوية المنازعات التي تثور بينهما عن طريق هذه الوسيلة، فلا يقبل من أحد الأطراف اللجوء إليها على نحو منفرد دون رغبة من الطرف الآخر.

والتحكيم الدولي الذي تكون دولة ما طرفاً فيه، قد يكون ذا صلة بمصالحها السيادية، وهي إذ تلجأ إليه فإنها ترجحه كأحد الوسائل السلمية لحل نزاع دولي ينشأ بينها وبين أحد أشخاص القانون الدولي الأخرى، ومن أمثلة ذلك: لجوء دولة طرف إلى التحكيم لفض المنازعات الناشئة عن تفسير أو تطبيق اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار والذي نظم أحكامه المرفق السابع من مرفقات الاتفاقية المذكورة، وهذا الطريق لا يجوز إجبار الدولة على الدخول فيه ما لم تعلن مسبقاً عن قبولها لإجراءاته، وهو ما فعلته جمهورية مصر العربية عند التوقيع على هذه الاتفاقية والتصديق عليها من رئيس الجمهورية، إذ أعلنت عن قبولها إجراء التحكيم المحدد طرائقه في الملحق السابع للاتفاقية، كإجراء لتسوية أي نزاع قد ينشأ بين مصر وأية دولة أخرى فيما يتعلق بتفسير أو تطبيق الاتفاقية.

كما أعلنت كذلك أنها تستثني من نطاق تطبيق هذا الإجراء المنازعات التي تعتبر استثناءات بموجب المادة (297) من الاتفاقية. وفي جانب آخر فقد استخدمت الدولة المصرية حقها كذلك في الإعلان عن عدم قبولها أي من الإجراءات المنصوص عليها في الفرع (2) من الجزء الخامس عشر من الاتفاقية ( وهو المتعلقة بوسائل فض المنازعات سواء عن طريق التحكيم أو التوفيق أو عن طريق المحكمة الدولية) فيما يتعلق بجميع فئات المنازعات المحددة في المادة 298 الفقرة “1” (أ) و (ب) و (ج) من الاتفاقية، وهو الإعلان الذي جاء استجابة لضرورات السيادة المصرية ومتوافقاً مع نظامها القانوني الداخلي والذي يأبى تعريضه للخطر بالقبول بهذه الوسائل لفض أي نزاع، وهو حق مكفول للدولة الطرف بمقتضى الاتفاقية.

وثمة نوع آخر من التحكيم الدولي والذي تمثل فيه الدولة بوصفها خصم في مواجهة أحد أشخاص القانون الخاص، وهو ما يصطلح على تسميته بـ(التحكيم التجاري الدولي) والذي يلجأ إليه عادة المستثمرون كأحد الوسائل القضائية التي تحقق لهم الإنصاف والحماية القضائية لاستثماراتهم التي عبروا بها إلى الحدود واستوطنوا بها على إقليم الدولة التي منحتهم حق الدخول إلى إقليمها وفتحت أمامهم المجال للاستثمار وتعهدت للحكومة التابعين لها -على المستوى الدولي ومن خلال اتفاقيات دولية ومعاهدات وقعت وصادقت عليها- بحماية استثماراتهم ودرء أية مخاطر تحدق برؤوس أموالهم، وكفالة فرص متكافئة لهم دون أي تمييز ضدهم أو معاملة تعسفية من شأنها أن تلحق أية أضرار تمس استثماراتهم أو مشروعاتهم.

وكانت جمهورية مصر العربية من بين الدول التي اهتمت بالانضمام إلى الاتفاقيات الدولية من هذا النوع لحث الاستثمار الأجنبي على العبور إلى أراضيها من خلال كفالة العديد من الضمانات والحوافز التي تشجع المستثمرين الأجانب للدفع باستثماراتهم وأموالهم إلى مصر، وضخها في الاقتصاد الوطني لزيادة معدلات التنمية ودفع حركة الإنتاج. ومن بين الاتفاقيات الدولية التي وافقت جمهورية مصر العربية على الانضمام إليها “الاتفاقية الدولية الخاصة بتسوية المنازعات الناشئة عن الاستثمارات بين الدول ورعايا الدول الأخرى” والمبرمة في مدينة واشنطن في 18 مارس سنة 1965 وجاء قرار الانضمام إليها بموجب القرار الجمهوري رقم 90 لسنة 1971 والمنشور بالجريدة الرسمية العدد 45 في 11 نوفمبر سنة 1971. وبموجب هذه الاتفاقية جرى إنشاء المركز الدولي لفض المنازعات الناشئة عن الاستثمار( icsid ) والواقع مقره الرئيسي بالمكتب الرئيسي للبنك الدولي للإنشاء والتعمير، وجعلت له اختصاصاً بنظر أية منازعات قانونية تنشأ مباشرة عن استثمار بين دولة طرف وبين مواطن من دولة أخرى طرف بشرط موافقة طرفي النزاع كتابة على تقديمها للمركز.

وبناء على انضمام مصر إلى هذه الاتفاقية، فقد دخلت مصر في العديد من الاتفاقيات الدولية الأخرى التي أبرمت من أجل تشجيع الاستثمار الأجنبي، وقد انصبت هذه الاتفاقيات على كفالة الحماية وتشجيع الاستثمارات بين حكومتها وحكومات دول أخرى؛ ومن هذه الاتفاقيات اتفاقية تشجيع وحماية الاستثمارات بين حكومة جمهورية مصر العربية واليابان التي وافق عليها رئيس الجمهورية بالقرار رقم 186 لسنة 1977، واتفاقية تشجيع وحماية الاستثمارات المتبادلة بين حكومتي جمهورية مصر العربية وجمهورية الصين الشعبية التي وافق عليها رئيس الجمهورية بالقرار رقم 320 لسنة 1995، واتفاقية تشجيع وحماية الاستثمارات بين حكومة جمهورية مصر العربية وحكومة كندا التي وافق عليها رئيس الجمهورية بالقرار رقم 164 لسنة 1997، و اتفاقية تشجيع وحماية وضمان الاستثمارات بين حكومتي جمهورية مصر العربية ودولة الإمارات العربية المتحدة التي وافق عليها رئيس الجمهورية بموجب القرار الجمهوري رقم 221 لسنة 1998، واتفاقية تشجيع وحماية الاستثمارات بين حكومتي جمهورية مصر العربية وجمهورية كوريا الديمقراطية الشعبية والتي وافق عليها رئيس الجمهورية بموجب القرار الجمهوري رقم 148 لسنة 1999، واتفاقية تشجيع وحماية الاستثمارات المتبادلة بين حكومتي جمهورية مصر العربية ودولة الكويت والتي وافق عليها رئيس الجمهورية بالقرار الجمهوري رقم 306 لسنة 2001، واتفاقية تشجيع وحماية الاستثمارات بين حكومتي جمهورية مصر العربية وجمهورية فنلندا والتي وافق عليها رئيس الجمهورية بموجب القرار الجمهوري رقم 145 لسنة 2004 .

وجميع هذه الاتفاقيات – وغيرها الكثير – قد ورد فيها النص على أحقية المستثمر – من رعايا أحد الأطراف مصرياً كان أو أجنبياً – متى قام نزاع بينه وبين حكومة الدولة الطرف الآخر، ولم يتسن تسويته في إطار من التسوية الودية، أن يطلب تسوية النزاع الذي ينشأ بينه وبين الحكومة الدولة الطرف الآخر عن طريق التحكيم بالمركز الدولي لتسوية منازعات الاستثمار (icsid) وهو ما يعد إقراراً مسبقاً من الدولة المصرية بقبولها وموافقتها على عرض أية منازعات فيما بينها وبين المستثمرين – من رعايا الدول الأطراف في الاتفاقيات الموقع عليها – على التحكيم من خلال المركز الدولي لتسوية منازعات الاستثمار.

وهو ما تكتمل معه ولاية المركز في الفصل في المنازعات التحكيمية المعروضة عليه، والتي متى صدر في أي منها حكم صار ملزماً لأطرافه، بما لا يجوز معه استئنافه بأي طريقة إلا في الحالات الواردة في هذه الاتفاقية، حيث نصت المادة (54) من الاتفاقية الدولية الخاصة بتسوية المنازعات الناشئة عن الاستثمارات على أن ” تعترف الدولة المتعاقدة بالحكم الذى صدر بناء على أحكام هذه الاتفاقية وتضمن تنفيذ الالتزامات المالية التي يفرضها الحكم كما لو كان حكما نهائيا صادرا من محكمة محلية .. ” وهو التزام دولي لا يُقبل معه نقض حجية هذا الحكم بمعرفة القضاء الداخلي للدولة الطرف في الاتفاقية وعلى نحو مخالف لما جاء بأحكامها.

ومن جماع ما تقدم؛ يتضح أن الأحكام القضائية التي قد تصدر من المحاكم الدولية أو من هيئات التحكيم الدولية في مواجهة جمهورية مصر العربية، يتوقف صدورها على قبول الدولة المصرية من حيث الأصل لاختصاص هذه المحاكم أو الهيئات لنظر النزاع والفصل فيه، وهو ما يفترض أن الحكومة تنيب عنها من يمثلها في هذا النزاع، والذي يتداول وتمثُل فيه الحكومة بمن ينوب عنها قانوناً، وتقدم الدفاع القانوني اللازم الذي تدفع به الادعاءات المساقة من خصومها، ومن ثم فإذا ما صدر الحكم بعد ذلك، فإنه يصدر بعد استنفاد طريق التقاضي الذي قبلت به الحكومة ورضيت به وفق مشيئتها الحرة، بما لا يقبل معه منها بعد ذلك النكول عن الوفاء بما عسى أن يقضى به من التزامات، بأي حجة كانت ولو بطريق استصدار حكم ناقض لحجية حكم التحكيم من جهة قضائها الداخلي.

والجدير بالذكر أن الأحكام الصادرة من هيئات التحكيم في قضايا التحكيم التجاري الدولي نص المشرع المصري في القانون رقم 27 لسنة 1994 في شأن التحكيم في المواد المدنية والتجارية، على إمكانية الطعن عليها بطريق دعوى البطلان الأصلية؛ حيث نصت المادة (52/2) على جواز رفع دعوى بطلان حكم التحكيم وفقاً للإجراءات المبينة في المادتين (53) و (54) من القانون المشار إليه، وقد حددت الفقرة الأولى من المادة (53) الحالات التي يجوز معها رفع دعوى البطلان، ونصت فقرتها الثانية على حق المحكمة التي تنظر دعوى البطلان أن تقضي -من تلقاء نفسها- ببطلان حكم التحكيم إذا تضمن ما يخالف النظام العام في جمهورية مصر العربية. وقد بينت المادة (54) الإجراءات التي تتبع لرفع دعوى البطلان والمحكمة المختصة بنظرها وهي ” محكمة استئناف القاهرة “. وعلى الرغم من النص على جواز إقامة دعوى بطلان لحكم التحكيم، إلا أن المشرع لم يجعل من إقامتها سبباً من شأنه إيقاف تنفيذ الحكم، مع جواز أن تأمر المحكمة المختصة بوقف التنفيذ متى طلب إليها ذلك من المدعي ورأت في الطلب من الجدية ما يستدعي الأمر بوقف التنفيذ.

وبناء عليه؛ فان التساؤل المعروض والذي يطرح نفسه على بساط البحث: يتعلق بالقيمة القانونية للتشريع المقترح والذي يعقد الاختصاص للمحكمة الدستورية العليا بنظر الطلب المقدم من رئيس مجلس الوزراء بعدم الاعتداد بالحكم الصادر من محكمة دولية أو هيئة تحكيم دولية على سند من مخالفة أحكام الدستور؟ فإذا كان المشرع قد منح الحكومة الحق في مخاصمة الحكم بطريق دعوى البطلان وعن طريق القضاء الطبيعي المتمثل في “محكمة استئناف القاهرة ” والتي يجوز الطعن في أحكامها أمام محكمة النقض، فما الداعي لعقد اختصاص جديد للمحكمة الدستورية العليا بإقحامها في مسائل ليست من اختصاصها بدعوى بحث المسألة الدستورية للحكم الصادر من الهيئة التحكيمية؟ وإذا كانت الحكومة بحاجة ماسة إلى إقحام المحكمة الدستورية في الأمر لتقصي حقيقة دستورية أو عدم دستورية الحكم المراد تنفيذه في مواجهة الدولة، أفلم يكن من الجائز لمن ينوب عنها (هيئة قضايا الدولة) الدفع بعدم دستورية النص المتعلق باتفاق التحكيم في الاتفاقية الدولية بعد أن صارت قانوناً من قوانين الدولة، متى رؤي أن هذا النص خالف نصاً من نصوص الدستور؟ وإذا كان الأمر في مكنتها فما الداعي لإثارة القلاقل القانونية وإثارة الجدل الذي يستدعي القلق في الأوساط الدولية بما يؤثر بالسلب على الجهود المبذولة من الدولة لجذب الاستثمارات الأجنبية لدفع عجلة التنمية؟

فالدولة في الآونة الأخيرة بذلت – ومازالت تبذل – قصارى جهدها من أجل ترسيخ الثقة في اقتصادها الوطني، وفي الأنظمة القانونية الحاكمة له والتي عكفت على إعادة النظر فيها وتنقيتها بما يتواكب مع التطورات الاقتصادية المتلاحقة على الصعيدين الدولي والوطني، بما يسهم في تعظيم الفرص المتاحة لزيادة فرص التنافسية له، وبما يسهم كذلك في تهيئة المناخ الجاذب للاستثمار الأجنبي، بما يسهم في زيادة معدلات النمو ويكفل تحقيق أهداف التنمية المستدامة، أفبعد كل هذا المجهود تفاجئنا الحكومة بمشروع قانون من شأنه أن يجهض كل هذه الجهود ويعرقلها ويزيد من الطين بلة، في ظل إخفاق الحكومة في استعراض الغايات التي تستهدفها من وراء السعي لاستصدار هذا القانون، سيما وانها لم تستطع التبرير له في مذكرتها الإيضاحية لمشروع القانون المقدم إلى مجلس النواب بأكثر من العبارات المقتضبة التي عبرت بها عن الغاية من الدفع به وهي ( حماية الأمن القومي الاقتصادي !!!)

فأي أمن قومي ترغب الحكومة بالدفاع عنه؟ فهل من شأن حكم المحكمة الدستورية العليا بعدم الاعتداد بحكم صادر عن هيئات التحكيم – بفرض صدوره جدلاً- أن يمنع الصادر لصالحهم هذا الحكم من تنفيذه؟!! فإذا كانت دعوى بطلان حكم التحكيم – من الأساس – ليس من شأنها أن تحول دون الصادر لصالحه الحكم والسعي لتنفيذه في أي بلد آخر غير مصر( ولنا في قضية كروم الوي وقضية وجيه سياج وقضية الخرافي ضد الدولة الليبية أسوة ) فكيف يعقل أن يحول حكم صادر من المحكمة الدستورية العليا دون الصادر لصالحه الحكم والتنفيذ؟!!.

فأحكام المحكمين تتمتع بحماية دولية تضمن تنفيذها داخل أقاليم الدول الأعضاء بالاتفاقية الخاصة بأحكام المحكمين الأجنبية وتنفيذها والتي أقرها مؤتمر الأمم المتحدة الخاص بالتحكيم التجاري الدولي المنعقد في نيويورك في الفترة من 20 مايو – 10 يونيه سنة 1958 وقد انضمت مصر إلى هذه الاتفاقية بموجب قرار رئيس الجمهورية رقم 171 لسنة 1959 وقد نشرت هذه الاتفاقية بموجب قرار وزير الخارجية رقم 30 لسنة 1959 بالوقائع المصرية ونصت المادة الثالثة من هذه الاتفاقية على أن “تعترف كل من الدول المتعاقدة بحجية حكم التحكيم وتأمر بتنفيذه طبقاً لقواعد المرافعات المتبعة في الإقليم المطلوب إليه التنفيذ وطبقاً للشروط المنصوص عليها في المواد التالية “. وإن كانت المادة الخامسة منها في فقرتها (1/هـ) قد أجازت رفض الاعتراف وتنفيذ الحكم من الخصم الذي يحتج عليه بالحكم متى ” قدم ما يدل على أن الحكم لم يصبح ملزماً للخصوم أو ألغته أو أوقفته السلطة المختصة في البلد التي فيها أو بموجب قانونها صدر الحكم”. فإن هذا الحكم هو عينه الذي أورده المشرع في قانون التحكيم في المواد المتقدم ذكرها، وهو ما يتأكد معه عدم جدوى المشروع المقترح وعدم اتفاقه مع المنطق القانوني والذي يأبى الازدواجية في التنظيم القانوني للمسألة الواحدة.

ونخلص مما سبق جميعه أنه؛ إذا كانت الأحكام الصادرة من المحاكم الدولية وفقاً لأحكام القانون الدولي العام ( كمحكمة العدل الدولية مثلاً ) تتمتع بحجية وقوتها الملزمة بما لا يجوز معه للدولة أن تتنصل منها وإلا تعرضت للجزاء الدولي، وكانت الأحكام الصادرة من هيئات التحكيم الدولية في المنازعات ذات الصلة بالتجارة الدولية أو غير ذلك من منازعات، تتمتع هي الأخرى بحجية وقوة ملزمة تتيح للطرف الصادر لصالحه حكم التحكيم أن ينفذه في مواجهة الدولة على إقليم أي دولة أخرى من الدول الأطراف في الاتفاقية الخاصة بأحكام المحكمين الأجنبية، فكيف يتأتى بعد ذلك استصدار قانون يمنح جهة قضاء داخلي في الدولة سلطة الرقابة على هذه الأحكام ويمنحها كذلك سلطة تعطيلها والحكم بعدم الاعتداد بها بدعوى مخالفة الحكم للدستور؟! أوليس من شأن ذلك أن يعرض رعايا الدولة المصرية أصحاب الاستثمارات في الدول التي يحصل رعاياها على تلك الأحكام لمغبة المعاملة بالمثل، وهو ما يهدر مصالحهم التي سعوا للدفاع عنها من خلال الحصول على أحكام من هيئات التحكيم الدولية لتعويضهم عما قد يكون ألم بهم من خسائر على إقليم الدول التي يستثمرون فيها أموالهم؟

كل تلك التساؤلات والتحليلات يضعها – كاتب هذه السطور- على بساط المناقشة أمام نواب الشعب الذين سيعرض عليهم المشروع المقترح، لعل ما قدمه وأجهد نفسه في تحليله ومناقشته، وما قدمه غيره من أساتذته وعلماء القانون وشراحه، من تحليلات قانونية للمشروع المقترح، ينال من الاهتمام بالقدر الذي يستدعي الحكومة إعادة النظر في مشروعها بالقانون المقدم لمجلس النواب، أو يجعل نواب الشعب ينتفضون في مواجهة هذا المشروع الذي يحمل – وبلا شك – المخاطر الجسيمة للمصالح المصرية، بما يجعل من إقراره بمثابة معول هدم للجهود المبذولة على الصعيد الوطني لتدعيم خطة الدولة في جذب الاستثمار الاجنبي وتعظيم الاستفادة من فرصه لتحقيق أهداف خطة الدولة للتنمية المستدامة.

والله من وراء القصد.

 التعديلات المقترحة لقانون المحكمة الدستورية العليا (1)

زر الذهاب إلى الأعلى