التطور القانوني لمبادئ الشريعة المسيحية في الأحوال الشخصية
(من قانون توحيد القضاء إلى مشروع القانون الموحد)
إعداد الدكتور/ نادر الصيرفي – المحامي بالاستئناف – والباحث في قوانين الأحوال الشخصية للمسيحيين – دكتوراه في قانون المرافعات المدنية والتجارية
تمهيد وتقسيم:
عقدت وزارة العدل يوم الاثنين الموافق 10/2/2025 بمقر الوزارة بالعاصمة الإدارية الجديدة أولى جلسات الحوار المجتمعي حول مشروع قانون الأحوال الشخصية للمسيحيين تحت رعاية السيد المستشار عدنان فنجري وزير العدل. وفي كلمته الافتتاحية أكد السيد المستشار وزير العدل أن مشروع القانون قد روعي فيه التوافق التام بين كافة الطوائف المسيحية في مصر على كل ما تضمنه من أحكام مع عدم المساس بالمسائل العقائدية للطوائف المعنية بالقانون ، وأن مشروع القانون جاء شاملا لكافة مسائل الأحوال الشخصية سواء الاجرائية أو الموضوعية منها بالنسبة لجميع الطوائف المسيحية.
وحيث أن المادة الثالثة المستحدثة من دستور مصر 2014 المعدل 2019 تنص على أن:
“مبادئ شرائع المصريين من المسيحيين واليهود المصدر الرئيسي للتشريعات المنظِّمة لأحوالهم الشخصية، وشئونهم الدينية، واختيار قياداتهم الروحية”.
وحيث أن المحكمة الدستورية العليا تتولى دون غيرها الرقابة القضائية على دستورية القوانين، واللوائح، وتفسير النصوص التشريعية، إعمالاً لنص المادة 192من ذات الدستور، ومن ثم يخضع قانون الأحوال الشخصية الموحد للمسيحيين – بعد بدء سريانه – للرقابة الدستورية من هذه الجهة.
والاشكالية الأساسية التي تواجه اصدار قانون الاسرة المسيحية الموحد، تنفيذاً للدستور، هي مدى استيعاب المشرع لفكرة مبادئ الشريعة المسيحية بوصفها المصدر الرئيسي للتشريعات المنظمة لهذا القانون.
وبمعنى أخر، أن الفلسفة التي يقوم عليها مشروع القانون، آنف البيان، هي الحلول الموضوعي والوظيفي للمبادئ الموحدة في الشريعة المسيحية، لتحل محل القواعد الموضوعية المتعددة للطوائف المتحدي الملة والمذهب التي قررتها القوانيين واللوائح، السارية، تطبيقاً لنص المادة 224 من الدستور التي تنص على أن: “كل ما قررته القوانين واللوائح من أحكام قبل صدور الدستور، يبقى نافذاً، ولا يجوز تعديلها، ولا إلغاؤها إلا وفقاً للقواعد، والإجراءات المقررة في الدستور.وتلتزم الدولة بإصدار القوانين المنفذة لأحكام هذا الدستور”.
وانطلاقاً مما سبق، نناقش مبادئ الشريعة المسيحية، على جميع مراحلها على النحو الآتي:
أولا: مرحلة الغاء المحاكم الملية.
ثانيا: مرحلة اصدار القانون رقم 1 لسنة 2000.
ثالثا: مرحلة استحداث المادة الثالثة من الدستور.
أولا: مرحلة الغاء المحاكم الملية:
نشرت الوقائع المصرية في 24 سبتمبر سنة 1955 – العدد 73 مكرر (ب) قانون رقم 462 لسنة 1955 بإلغاء المحاكم الشرعية والمحاكم الملية وإحالة الدعاوى التي تكون منظورة أمامها إلى المحاكم الوطنية.
وتنص المادة الأولى على:
“إلغاء المحاكم الشرعية والمحاكم الملية ابتداء من أول يناير سنة 1956 وتحال الدعاوى المنظورة أمامها لغاية 31 ديسمبر سنة 1955 إلى المحاكم الوطنية لاستمرار النظر فيها وفقًا لأحكام قانون المرافعات وبدون رسوم جديدة …”.
بينما تنص المادة السادسة على أن:
” تصدر الأحكام في المنازعات المتعلقة بالأحوال الشخصية والوقف، والتي كانت أصلًا من اختصاص المحاكم الشرعية، طبقًا لما هو مقرر في المادة 280 من لائحة ترتيب المحاكم المذكورة. أما بالنسبة للمنازعات المتعلقة بالأحوال الشخصية للمصريين غير المسلمين والمتحدي الطائفة والملة الذين لهم جهات قضائية ملية منظمة وقت صدور هذا القانون فتصدر الأحكام – في نطاق النظام العام – طبقًا لشريعتهم”.
وتنص المادة السابعة على أن:
“لا يؤثر في تطبيق الفقرة الثانية، من المادة المتقدمة، تغيير الطائفة أو الملة، بما يخرج أحد الخصوم عن وحدة طائفية إلى أخرى أثناء سير الدعوى، إلا إذا كان التغيير إلى الإسلام فتطبق الفقرة الأولى من المادة السادسة من هذا القانون”.
وحيث أن المقرر في قضاء المحكمة الدستورية العليا بالحكم الدعوى 74 لسنة 17 – دستورية – المحكمة الدستورية العليا – مرفوعة علنية رقم 74 لسنة 17 بتاريخ 01/03/1997 أن:
وحيث إن المجالس الملية هي التي كان لها اختصاص الفصل في مسائل الأحوال الشخصية لغير المسلمين، وكان تطبيقها لشرائعهم الدينية مقارناً لاختصاصها بالفصل في نزاعاتهم المتصلة بأحوالهم الشخصية ، فلا يكون قانونها الموضوعي إلا قانوناً دينياً. وظل هذا الاختصاص ثابتاً لهذه المجالس إلى أن صدر القانون رقم 462 لسنة 1955 بإلغاء المحاكم الشرعية والمحاكم الملية ، فقد قضى هذا القانون في مادته الأولى بأن تلغى المحاكم الشرعية والملية ابتداء من 1/1/1956، على أن تحال الدعاوى التي كانت منظورة أمامها حتى 31/12/1955 إلى المحاكم الوطنية لاستمرار نظرها وفقاً لأحكام قانون المرافعات.
القواعد الموضوعية للمسيحيين في شئون أحوالهم الشخصية ، لا تزال غير موحدة:
ولئن وحد هذا القانون بذلك جهة القضاء التي عهد إليها بالفصل في مسائل الأحوال الشخصية للمصريين جميعهم، فحصرها -وأيا كانت ديانتهم- في جهة القضاء الوطني ، إلا أن القواعد الموضوعية التي ينبغي تطبيقها على منازعاتهم في شئون أحوالهم الشخصية ، لا تزال غير موحدة ،رغم تشتتها وبعثرتها بين مظان وجودها وغموض بعضها أحياناً. ذلك أن الفقرة الأولى من المادة (6) من هذا القانون تقضى بأن تصدر الأحكام في منازعات الأحوال الشخصية التي كانت أصلاً من اختصاص المحاكم الشرعية طبقاً لما هو مقرر بنص المادة (280) من لائحة ترتيبها. وتنص فقرتها الثانية على أنه فيما يتعلق بالمنازعات المتعلقة بالأحوال الشخصية للمصريين غير المسلمين، الذين تتحد طائفتهم وملتهم، وتكون لهم جهات قضائية ملية منظمة وقت صدور هذا القانون، فإن الفصل فيها يتم -في نطاق النظام العام- طبقاً لشريعتهم.
القواعد الموضوعية الموحدة للمصريين جميعا: (المواريث – الوصايا – الأهلية)
وحيث إن ما تقدم مؤداه: أنه فيما عدا الدائرة المحدودة التي وحد المشرع في نطاقها القواعد الموضوعية في مسائل الأحوال الشخصية للمصريين جميعهم – كتلك التي تتعلق بمواريثهم ووصاياهم وأهليتهم- فإن المصريين غير المسلمين لا يحتكمون لغير شرائعهم الدينية بالشروط التي حددها القانون رقم 462 لسنة 1955 المشار إليه، بل أن المادة (7) من هذا القانون تنص على أن تغيير الطائفة أو الملة بما يخرج أحد الخصوم عن وحدة طائفية إلى أخرى أثناء سير الدعوى ، لا يؤثر في تطبيق الفقرة الثانية من المادة (6) من هذا القانون، مالم يكن التغيير إلى الإسلام.
القواعد الموحدة للأقباط الأرثوذكس:
وحيث إن المشرع وقد أحال في شأن الأحوال الشخصية للمصريين غير المسلمين -وفى إطار القواعد الموضوعية التي تنظمها- إلى شرائعهم مستلزماً تطبيقها دون غيرها في كل ما يتصل بها، فإن المشرع يكون قد ارتقى بالقواعد التي تتضمنها هذه الشرائع، إلى مرتبة القواعد القانونية التي ينضبط بها المخاطبون بأحكامها، فلا يحيدون عنها في مختلف مظاهرة سلوكهم. ويندرج تحتها – وفى نطاق الأحوال الشخصية للأقباط الأرثوذكس – لائحتهم التي أقرها المجلس الملى العام بجلسته المنعقدة في 9 مايو 1938، والتي عمل بها اعتباراً من 8 يوليه 1938، إذ تعتبر القواعد التي احتوتها لائحتهم هذه – وعلى ما تنص عليه الفقرة الثانية من المادة (6) من القانون رقم 462 لسنة 1955 المشار اليه- شريعتهم التي تنظم أصلاً مسائل أحوالهم الشخصية ، بما مؤداه: خضوعها للرقابة الدستورية التي تتولاها هذه المحكمة .
وقالت محكمة النقض في الطعن 25 لسنة 38 ق جلسة 1 / 12 / 1971 مكتب فني 22 ج 3 أحوال شخصية ق 163 ص 972 جلسة أول ديسمبر سنة 1971 أن:
” تنص الفقرة الثانية من المادة السادسة من القانون رقم 462 لسنة 1955 بإلغاء المحاكم الشرعية والملية على أنه “أما بالنسبة للمنازعات المتعلقة بالأحوال الشخصية للمصريين غير المسلمين والمتحدي الطائفة والملة الذين لهم جهات قضائية ملية منظمة وقت صدور هذا القانون فتصدر الأحكام في نطاق النظام العام طبقاً لشريعتهم”
ترك المشرع الوضع على ما كان عليه بالنسبة للأحكام الموضوعية التي كان يطبقها القضاء الملى:
ولفظ “شريعتهم” هو لفظ عام لا يقتصر مدلوله على ما جاء في الكتب السماوية وحدها بل ينصرف إلى كل ما كانت تطبقه جهات القضاء الملي قبل إلغائها باعتباره شريعة نافذة، إذ لم يكن في ميسور المشرع حين ألغى هذه الجهات أن يضع القواعد الواجبة التطبيق في مسائل الأحوال الشخصية لغير المسلمين فاكتفى بتوحيد جهات القضاء تاركاً الوضع على ما كان عليه بالنسبة للأحكام الموضوعية التي يتعين على المحاكم تطبيقها وأحال إلى الشريعة التي كانت تطبق في تلك المسائل أمام جهات القضاء الملي”.
ثانيا: مرحلة اصدار القانون رقم 1 لسنة 2000:
الشريعة الإجرائية لكافة قوانين الأحوال الشخصية السارية هي القانون رقم 1 لسنة 2000 بإصدار قانون تنظيم بعض أوضاع وإجراءات التقاضي في مسائل الأحوال الشخصية المعدل بالقانون رقم 91 لسنة 2000م.
وتسرى أحكام هذا القانون على إجراءات التقاضي في مسائل الأحوال الشخصية والوقف ويطبق فيما لم يرد بشأنه نص خاص فيه أحكام فانون المرافعات المدنية والتجارية واحكام قانون الإثبات في المواد المدنية والتجارية واحكام القانون المدني في شأن إدارة وتصفية التركات.
وتنص المادة الثالثة – إصدار من القانون رقم 1 لسنة 2000 على أن:
“تصدر الأحكام طبقا لقوانين الأحوال الشخصية والوقف المعمول بها, ويعمل فيما لم يرد بشأنه نص في تلك القوانين بأرجح الأقوال من مذهب الإمام ابى حنيفة. مع ذلك تصدر الأحكام في المنازعات المتعلقة بالأحوال الشخصية بين المصريين غير المسلمين المتحدي الطائفة والملة الذين كانت لهم جهات قضائية مليئة منظمة حتى 31 ديسمبر سنة 1955- طبقا لشريعتهم – فيما لا يخالف النظام العام” .
تعدد الشرائع الموضوعية للمسيحيين السارية حتى الآن:
-لائحة الأحوال الشخصية للأقباط الإنجيليّين الوطنيين 1902.
-قانون رقم 27 لسنة 1905 بشأن الأرمن الكاثوليك.
-لائحة الزواج والطلاق والبائنة الخاصة بطائفة الروم الأرثوذكس (1937).
-قرار المجلس الملي العام لسنة 1938 بشأن لائحة الأحوال الشخصية للأقباط الأرثوذكسيين (معدلة 2008).
-شريعة الكاثوليك للأحوال الشخصية للطوائف الشرقية 1949 (نظام سر الزواج).
-قانون اصول المحاكمات في محاكم الكنيسة الشرقية الكاثوليكية لسنة 1950.
-اللائحة الداخلية للمجلس الإنجيلي العام 1991.
-قانون الأحوال الشخصية للسريان الأرثوذكس لسنة 2003.
تطبيق الشريعة المسيحية لا يقدح في تطبيق الشريعة الإسلامية:
تطبيق الشريعة المسيحية لا يقدح في تطبيق الشريعة الإسلامية، ويأتي ذلك على عدة تطبيقات:
أولا: حالة اختلاف الدين:
إذا تم الزواج وفقاً للشريعة المسيحية، ثم أشهر الزوج اسلامه، ينشأ له الحق في إيقاع يمين الطلاق عليها، واثبات الطلاق أمام المحكمة المختصة بدعوى ترفع بالإجراءات المعتادة، إن شاء.
وأما إذا امتنع عن إيقاع الطلاق واثباته، فللزوجة طلب الخلع. وفى هذه الحالة لا يجوز للزوجة طلب الطلاق بسبب اختلاف الدين، لأن الشريعة الإسلامية هي القانون الواجب التطبيق، طبقاً لنص المادة 10 من القانون المدني.
أما إذا اشهرت الزوجة اسلامها، يعتبر عقد زواجها موقوف شرعاً وقانوناً، فلا يجوز لها طلب التطليق للخلع، بل يتعين عليها أن ترفع دعوى تفريق لإباء الزوج الإسلام. وفى هذه الحالة يعرض القاضي الإسلام على الزوج ثلاث مرات، وفقاً لا رجح الأقوال في مذهب الامام ابى حنيفة. أو التربص لحين إسلام الزوج، إن شاءت.
وقد دفع الدكتور نادر الصيرفي المحامي أمام محكمة أسرة بولاق الدكرور بعدم دستورية عرض الإسلام على الزوج المسيحي، أمام محكمة أسرة بولاق الدكرور.
ثانيا: حالة اختلاف الملة والطائفة:
إذا اختلف الزوجان في الملة أو الطائفة، قبل بعد الزواج وقبل رفع الدعوى وانعقاد الخصومة فيها، فيجوز للزوج إيقاع الطلاق واثباته، على النحو المتقدم. إلا أنه لا يجوز له تعدد الزواجات. وإذا قام بالزواج، فللزوجة الخيار أما رفع دعوى طلاق للزنا أو دعوى بطلان لعقد الزواج الجديد.
وقد دفع الدكتور نادر الصيرفي المحامي بعدم دستورية إيقاع الزوج المسيحي الطلاق على زوجته بالإرادة المنفردة، أمام محكمة أسرة القاهرة الجديدة.
ويجوز للزوجة طلب الخلع، إذا اختلفت مع زوجها في الملة أو الطائفة.
ثالثا: حالة اتحاد الملة والطائفة:
الأصل هو تطبيق الشريعة الإسلامية على جميع المصريين أياً كانت ديانتهم، وأما الشريعة المسيحية الخاصة، فلا يجوز تطبيقها إلا بتوافر شروط وانتفاء موانع.
وترتيباً على ذلك، لا يجوز تطبيق الشريعة المسيحية في المسائل التي وحد فيها المشرع قوانين الأحوال الشخصية من الناحية الموضوعية، كالمواريث والوصايا والأهلية. أو المسائل التي وحد فيها القضاء بعض المسائل الموضوعية في الأحوال الشخصية، كتوحيد سن الحضانة.
إلا أنه يجوز تطبيق الشريعة المسيحية في النفقات، فيجوز للزوج المعسر رفع دعوى نفقة ضد زوجته. كما أن تقدير النفقة في الشريعة المسيحية لا يتوقف على معيار يسار الزوج وحده، بل حاجة الزوجة او يسارها. ويختلف معنى الاحتباس في الشريعة المسيحية عن الشريعة الإسلامية. ففي الشريعة الإسلامية يكتفى لاستحقاق الزوجة للنفقة عدم الحصول على حكم نشوز. بينما الراجح فقهاً أنه يجوز للزوج المسيحي كف نفقة زوجته ولو لم يحصل ضدها على حكم نشوز. وذلك لأن مواد النفقات قد تضمنت بعض حالات الطاعة في الشريعة المسيحية، بخلاف قواعد الطاعة في ذات الشريعة. ومن ثم يستصحب القاضي هذه المواد ويرفض دعوى النفقة إذا ابت الزوجة السفر مع الزوج، على سبيل المثال. وهو فرض غير متصور إذ كانت الشريعة المسيحية القانون الواجب التطبيق.
وعلى خلاف ذلك، يجوز للزوج انذار الزوجة بالطاعة وفقاً للقواعد العامة، لأن الشريعة المسيحية لم تتضممن قواعد خاصة للأثبات في هذا الشأن.
والمقرر – في قضاء هذه محكمة النقض – أن المشرع فرق في الإثبات بين الدليل وإجراءات الدليل في مسائل الأحوال الشخصية والوقف،
فأخضع إجراءات الإثبات كبيان الوقائع وكيفية التحقيق وسماع الشهود وغير ذلك من الإجراءات الشكلية لقانون المرافعات،
أما قواعد الإثبات المتصلة بذات الدليل كبيان الشروط الموضوعية اللازمة لصحته وبيان قوته وأثره القانوني فقد أبقاها المشرع على حالها خاضعة لأحكام الشرعية الإسلامية.
(الطعن 175 لسنة 63 ق جلسة 26 / 5 / 1997 مكتب فني 48 ج 1 أحوال شخصية ق 158 ص 807)
ثالثا: مرحلة استحداث المادة الثالثة من الدستور:
نصت المادة الثالثة من الدستور على أن : ” مبادى شرائع المصريين المسيحيين واليهود….”.
المقصود بمبادئ الشريعة المسيحية الموحدة وظيفياً:
وينصرف مصطلح ” مبادئ شرائع ” المصريين إلى المسيحيين واليهود . ولذلك وردت بصيغة الجمع.
والبديهي أنه ليس المقصود “بمبادئ الشريعة المسيحية” تقرير ذات الوضع الذى قرره المشرع منذ الغاء المحاكم الملية ، الذى يقوم على تعدد القواعد الموضوعية للطوائف المتحدي الملة والمذهب. ومن ثم فقد قرر النص الدستوري قيد على المشرع بإيراد قواعد موضوعية موحدة تسرى على جميع المسيحيين المصريين بصرف النظر عن ملتهم أو طائفتهم، ودون الاعتداد بما إذا كانت تلك الطائفة من الطوائف التي كانت قائمة أم لا وقت الغاء المحاكم الملية، ودون اعتبار لمسألة الدينونة بالطلاق أو غيرها من المسائل الخاصة بكل طائفة.
يبنى على ذلك أنه، يتوجب على المشرع أن يكون قانون الأحوال المسيحيين موحداً بمعنى الكلمة، ليس فقط من الناحية العضوية، بل من الناحية الوظيفية أيضاً، بحيث تشمل القاعدة العامة والاستثناء المقرر عليها – – بفرض قيامه- على جميع المسيحيين المصريين المخاطبين بالقانون، لا فرق بين أرثوذكسي أو إنجيلي أو كاثوليكي.
وأما القول أو الفعل بغير ذلك تضحى الإحالة الدستورية إلى مبادئ الشريعة المسيحية لغواً، بحيث يبقى الوضع الإجرائي على ما كان عليه منذ الغاء المحاكم الملية، مع استبدال كلمة “لائحة” بكلمة “قانون”. الأمر الذى لا يقدح في اعتبار الشريعة الإسلامية القانون الواجب التطبيق، قولاً واحداً.
شريعة عقد الزواج والطلاق:
المنطق القانوني السليم يقودنا إلى الأخذ بمذهب الزواج المختلط بين المسيحيين، طالما أن القانون موحد.
بيد أنه لا يمكن التسليم بذات النظر بالنسبة للطلاق. لأنه من المتصور أن تجرى مراسيم الزواج في كنيسة أي من الزوجين، ثم يقوم أحدهم بتغيير ملته، إعمالاً لمبدأ حرية العقيدة التي كفلتها جميع الدساتير المصرية، فلا يجوز التعويل على شريعة عقد الزواج. وهو ذات ما أخذ به القانون المدني المصري في المادة رقم 13 التي تنص على أن: “
(١) يسرى قانون الدولة التي ينتمي إليها الزوج وقت انعقاد الزواج على الآثار التي يرتبها عقد الزواج، بما في ذلك من أثر بالنسبة إلى المال.
(٢) اما الطلاق فيسرى عليه قانون الدولة التي ينتمي إليها الزوج وقت الطلاق. ويسرى على التطليق والانفصال قانون الدولة التي ينتمي إليها الزوج وقت رفع الدعوى.”
ولا يقصد من ذلك، أن قانون الأحوال الشخصية للمسيحيين هو قانون مدنى لا ديني، ولا يفيد ذلك أن ليس جميع مواد أو أسباب الطلاق ليست مدنية ولو تم قصرها على علة الزنا.
ومع ذلك تعرف أسباب الطلاق المدنية في المعنى المقصود في مشروع القانون الأسرة المسيحية الموحد بالأسباب التي لا تلتزم الكنيسة حال توافرها بالتصريح بالزواج الثاني، وهى مسألة مقبولة من حيث المبدأ ، لأن الأصل هو عدم صحة الزام القانون الرئاسة الدينية بالزواج، شريطة أن تكون لها لائحة داخلية رسمية تنظم قواعد الزواج الثاني لو لم ينظم القانون تلك المسألة. وإلا كان القرار الكنسي مشوباً بالتعسف وعدم الحياد. ومن ثم يخضع لرقابة القضاء.
أهمية استصحاب أسباب الطلاق الملغاة:
والمستفاد من ذلك، أن مبادئ الشريعة المسيحية لا تحول دون افراد نصوص او حالات موسعة لأسباب التطليق (المدنية)، ومن ذلك أسباب الطلاق في لائحة 1938 التي كان يطبقها المجالس الملية حتى تم تعديلها عام 2008 بقرار من رئيس المجلس الملى.
وكان الباب الثاني : في الطلاق في الفصل الأول: في أسباب الطلاق ينص على أن:
المادة 51
اذا خرج أحد الزوجين عن الدين المسيحي وأنقطع الأمل من رجوعه إليه جاز الطلاق بناء على طلب الزوج الآخر.
المادة 52 ملغاة. (في 2008) وكان النص الأصلي للمادة
إذا غاب أحد الزوجين خمس سنوات متوالية بحيث لا يعلم مقره ولا تعلم حياته من وفاته وصدر حكم بإثبات غيبته جاز للزوج الآخر أن يطلب الطلاق.
المادة 53 ملغاة. (في 2008) وكان النص الأصلي للمادة
الحكم على أحد الزوجين بعقوبة الأشغال الشاقة أو السجن أو الحبس لمدة سبع سنوات فأكثر يسوغ للزوج الآخر طلب الطلاق.
المادة 54 ملغاة. (في 2008) النص الأصلي للمادة
إذا أصيب أحد الزوجين بجنون مطبق أو بمرض معد يخشى منه على سلامة الآخر يجوز للزوج الآخر أن يطلب الطلاق إذا كان قد مضى ثلاث سنوات على الجنون أو المرض وثبت أنه غير قابل للشفاء.
ويجوز أيضاً للزوجة أن تطلب الطلاق لإصابة زوجها بمرض العنة إذا مضى على إصابته به ثلاث سنوات وثبت أنه غير قابل للشفاء وكانت الزوجة في سن يخشى فيه عليها من الفتنة.
المادة 55 ملغاة. (في 2008) وكان النص الأصلي للمادة
إذا اعتدى أحد الزوجين على حياة الآخر أو اعتاد إيذاءه إيذاءً جسيما يعرض صحته للخطر جاز للزوج المجني عليه أن يطلب الطلاق.
المادة 56 ملغاة. (في 2008) وكان النص الأصلي للمادة
إذا ساء سلوك أحد الزوجين وفسد أخلاقه وانغمس في حمأة الرذيلة ولم يجد في إصلاحه توبيخ الرئيس الديني ونصائحه فللزوج الآخر أن يطلب الطلاق.
المادة 57 ملغاة. (في 2008) وكان النص الأصلي للمادة
يجوز أيضاً طلب الطلاق إذا أساء أحد الزوجين معاشرة الآخر أو أخل بواجباته نحوه إخلالاً جسيماً مما أدى إلى استحكام النفور بينهما وانتهى الأمر بافتراقهما عن بعضهما واستمرت الفرقة ثلاث سنوات متوالية.
المادة 58 ملغاة. (في 2008) وكان النص الأصلي للمادة
كذلك يجوز الطلاق إذا ترهبن الزوجان أو ترهبن أحدهما برضاء الآخر.
تفعيل قواعد المواريث السارية:
إلا أن المشرع في مشروع القانون قد أخذ باتجاه مغاير بالنسبة للمواريث، إذا ابقى ونقل ذات المواد من لائحة 1938 قبل تعديلها، ومن ذلك قاعدة المساواة بين الذكر والانثى وقواعد الحجب. بحيث أنه إذا لم يكن للمتوفى سوى بنت واحدة تحجب جميع الورثة بعد استيفاء نصيب الزوجية.
وينص الفصل الثالث من لائحة 1938 السارية على أن: “
المادة 244
فالتركة تؤول شرعا إلى أقرب أقارب المتوفى مع زوجة بحيث أن كل طبقة تحجب الطبقة التي بعدها.
فطبقة البنوة تحجب طبقة الأبوة وطبقة الأبوة تحجب طبقة الأخوة وهذه تحجب طبقة الأجداد وهكذا على أن كل طبقة من هذه الطبقات استحقت الإرث تأخذ ما بقى من التركة بعد استيفاء الفرض المقرر لزوج المورث اذا كان له زوج على قيد الحياة أما اذا كان الزوج قد توفى من قبل فتأخذ التركة كلها
المادة 245
الطبقة الأولى – الفروع
فروع المورث مقدمون على غيرهم من الأقارب في الميراث فيأخذون كل التركة أو ما بقى منها بعد استيفاء نصيب الزوج أو الزوجة.
فاذا تعددت الفروع وكانوا من درجة واحدة قسمت التركة فيما بينهم أنصبة متساوية لا فرق في ذلك بين الذكر والأنثى…”.
لا أثر للمادة الثالثة من الدستور على قوانين الأحوال الشخصية السارية:
جميع مواد الدستور غير قابلة للتطبيق المباشر في ذاتها. ومن الثابت قانوناً أن القاضي يطبق القانون وأما الدستور فهو يمثل الاطار العام الذى يتعين على البرلمان الالتزام به.
تطبيقاً لنص المادة 224 من الدستور التي تنص على أن:
“كل ما قررته القوانين واللوائح من أحكام قبل صدور الدستور، يبقى نافذاً، ولا يجوز تعديلها، ولا إلغاؤها إلا وفقاً للقواعد، والإجراءات المقررة في الدستور.
وتلتزم الدولة بإصدار القوانين المنفذة لأحكام هذا الدستور”.
وقد أكدت محكمة النقض في حكمها بالطعن رقم ٣ لسنة ٧٤ قضائية ـ دائرة الأحوال الشخصية – جلسة ٢٠١٧/٠٢/١٤، أن المقرر في قضاء محكمة النقض أن أحكام الشريعة الإسلامية والتقنيات المستمدة منها تسرى على جميع المصريين مسلمين أو غير مسلمين في شأن المواريث ومنها تعيين الورثة وتحديد أنصبتهم.
وقد حسمت محكمة النقض هذه الإشكالية وقررت الدائرة المدنية لمحكمة النقض في الطعن رقم 3944 لسنة 91 ق جلسة 25 يونيو سنة 2024 أن:
– تطبق أحكام الشريعة الإسلامية على المصريين مسلمين وغير مسلمين بشأن مسائل المواريث وتحديد انصبتهم.
– أحكام المواريث تستند إلى نصوص شرعية قطعية الثبوت والدلالة وبينها القرآن الكريم بيانًا مُحكمًا وتطبق على المسلمين وغير المسلمين. ويدخل في نطاقها تعيين الورثة وتحديد أنصبتهم في الإرث وانتقال التركة إليهم.
– أحكام المواريث تعتبر متعلقة بالنظام العام لصلتها الوثيقة بالدعائم القانونية والاجتماعية المستقرة في ضمير المجتمع بما يمتنع معه التحايل عليها أو تبديلها مهما اختلف الزمان والمكان، ومن ثم يكون لذوي الشأن إثارة ما قد يخالف هذه الأحكام سواء أكان ذلك في صورة دعوى مبتدأه أم في صورة دفع”.
الرأي الراجح في مشروع قانون الأحوال الشخصية الموحد للمسيحيين:
-الأساس الدستوري لمشروع القانون الموحد هي مبادئ الشريعة المسيحية.
-الأساس الفني لمشروع قانون الأحوال الشخصية الموحد يقوم على فكرة الحلول الوظيفي للقواعد الموضوعية من قواعد الطوائف متحدى الملة والمذهب الخاصة، لتصبح محلها مبادئ الشريعة المسيحية كمصدر رئيسي للتشريع.
– لا تحول الشريعة الإسلامية بوصفها المصدر الرئيسي للتشريع أو فكرة النظام العام دون تطبيق الشريعة المسيحية في كل ما يتعلق بأحوالهم الشخصية. إلا أن اعمال الشريعة المسيحية في الأحوال الشخصية للمسيحيين مرهون برغبة المشرع.
-إذا اتجه المشرع للتمييز في القاعدة الموضوعية والاستثناءات المقررة عليها، إن وجدت، على أساس موضوعي، لا يضحى القانون موحداً في هذه المسألة، ومن ثم يتعين تطبيق الشريعة الإسلامية، ولو نص القانون على أن شريعة عقد الزواج تحكم الطلاق، لتعارض الفكرة مع مبدأ حرية العقيدة.
-المخاطب بقانون الأحوال الشخصية الموحد للمسيحيين، هم جميع المسيحيين المصريين، والمعيار في ذلك هو ضابط خانة الديانة في بطاقة الرقم القومي.
-من البديهي أن تتم مراسيم الزواج في طائفة أحد الزوجين، حال اختلافهم في الملة وقت زواجهما. إلا أن ذلك لا يفيد حظر الزواج المسيحي المختلط أو انتماء الزوجين للطائفة التي تتم المراسيم الدينية وفقاً لشريعتها.
-لا عيب في أن يأخذ المشرع بشريعة أحد الطوائف في مسألة معينة، ويعتبرها القاعدة الموحدة على جميع الطوائف، ولو كان من شأن ذلك مخالفة جوهر العقيدة لأحد الطوائف.
-الرأي المختار هو تعميم البنود الموضوعية في لائحة الأقباط الأرثوذكس الصادرة عام 1938 في مسائل المواريث والوصايا والطلاق والتبني وإلى آخره على جميع المخاطبين بالقانون. ولا يتعارض ذلك مع السلطة التقديرية لجميع الكنائس في منح أو منع تصاريح الزواج وفقاً للوائح داخلية معتمدة من الجهات الرسمية وتخضع لرقابة القضاء.
-من غير الملائم أن تقسم حالات الطلاق إلى حالات مدنية وغير مدنية، فجميع أسباب الطلاق تعد مدنية. ويجوز أضافة أسباب الطلاق المستحدثة في لائحة الاقباط الأرثوذكس عام 2008 ضمن أسباب الطلاق الموحدة.