التركية العثمانية وأنهار الدماء ! (الأخيرة)

التركية العثمانية وأنهار الدماء ! (الأخيرة)

نشر بجريدة الأهرام الاثنين 11/1/2021

بقلم: الأستاذ/ رجائي عطية نقيب المحامين

ما سلف من شهادات شهود عيان على مذابح الأرمن، مجرد مثال، وهناك شهادات أخرى لا حصر لها، في موش وبيتليس وسيفاز وديار بكر ويوزغات وأضنة، وفي غيرها.

تحولت مدن كاملة إلى مقابر، بينما كل التعساء الذين لم يصبهم الموت بعد، يعانون معاناة تقشعر لها الأبدان، وكان غريبًا ولا يزال أن تصدر الحكومة التركية العثمانية بيانًا في 4 يونيو 1915، تزعم فيها ــ والزعم يسير ــ أنه لا وجود لمذابح للأرمن في كل أرجاء الإمبراطورية العثمانية !

بل وتسربت أنباء في منتصف سبتمبر من ذلك العام، بأنه قد تقرر إبادة الأرمن في تركيا بشكل كامل، وأن من عساه يقاوم تنفيذ هذا القرار، يتم إعفاؤه من منصبه، ولا استثناء في هذه الإبادة الجماعية للنساء أو الأطفال أو الشيوخ أو المعاقين.

وفي اطار هذه التراجيديا المأساوية، سنت الحكومة التركية العثمانية قانونًا في سبتمبر 1915، بشأن ممتلكات وقروض وأقساط الأشخاص المنقولين (أي الأرمن!!!) إلى أماكن أخرى، وكان هذا الدكريتو الهمايونى يعنى بوضوح تقنين سلب ونهب كل ممتلكات الأرمن الجاري طردهم جبرًا تحت مسمى أنهم منقولون !!!

ولم يمض عام على هذا الطرد المقرون بالنهب وحصد الأرواح، إلاَّ وأصدرت دولة الخلافة التركية العثمانية، في أغسطس 1916، مرسومًا همايونيًا آخر ييطل دستور 1863، الذي كان ينظم الحياة الداخلية للطائفة الأرمنية.

وعرف في هذه الإبادة الجماعية، ما سمى بمعسكرات التجميع، التي يتجمع فيها من بقى حيًّـا من القوافل المرحلة كرهًا وسط الصحراء السورية، وهى معسكرات كانت تبيح السلب والنهب والاغتصاب، وتهيئ للإبادة التي صممت عليها دولة الخلافة العلية.

يروى أحد شهود العيان، الانطباع المرعب الذي تركته فيه رحلته التي مرت وسط تلك المعسكرات الأرمنية المتناثرة على طول الفرات ما بين مسكنه ودير الزور؛ ضمت هذه المعسكرات معظم هؤلاء التعساء الذين تم انتزاعهم من ديارهم ووطنهم الأصلي وشُتتوا عن عائلاتهم هذا الشتات، ونهب كل ما لديهم خلال رحلة الترحيـل الجماعـي، كانـوا يمكثون مكدسين كالبهائم في الهواء الطلق دون أدنى مأوى وبلا ملبس ولا غذاء إلاَّ حد الكفاف. معرضين لكل العوامل الجوية وكل التقلبات المناخية من شمس الصحراء الحارقة صيفًا إلى الرياح والأمطار والصقيـع ليلاً، منهكون من جراء الحرمان الشديد والمسيرات الطويلة المنهكة وأبشع أنواع التعذيب والمضايقات المستمرة والموت الذي يهددهم !

إن من تبقوا من الأمة الأرمنية المبعثرين على ضفاف نهر الفرات يتألفون من عجائز ونساء وأطفال. أما الشباب والرجال أصحاب الأعمار المتوسطة الذين لم يكن قد تم ذبحهم بعد، فإنهم كانوا متفرقين في أنحاء الإمبراطورية وطرقها يكسرون الأحجار من اجل الوفاء باحتياجات الجيش. البنات الصغار غالبًا كن لا تزلن أطفالاً بِتْن غنيمة للأتراك والأكراد. حيث تم سبيهن على طول الطريق أثناء سيرهن إلى المنفي، وإن سنحت الفرصة اغتصبن أو بيعوا إذا لم يتم ذبحهن على أيادى الجندرمة الذين كانوا يقودون القوافل. كثير منهن تم إلقاؤهن في الحريم حيث صرن خادمات لجلاديهم. مثلما كانت الصورة التي رسمها دانتى لأبواب الجحيم.

هذا وبمناسبة الذكرى المئوية للمذابح الأرمنية، عنيت مجلة « أريك » ـ مارس 2017، بعرض كتاب « المذابح في أرمينيا » ـ للكاتب المحامي السوري « فائز الغصين ».

يحدثنا رئيس التحرير « الدكتور محمد رفعت الإمام » ــ عن هذا الكتاب  الذي يراه أول كتاب يوثق الإبادة الأرمنية.

منذ قرن بالتمام والكمال، صدر بالقاهرة ذلك الكتاب الذي يُعد أول وثيقة شاملة تُؤرخ للإبادة الأرمنية التي اقترفها النظام التركي العثماني إبان الحرب العالمية الأولى (1914 ـ 1918 ).

أفصح الغصين صراحة أنه استمد معلومات كثيرة من كبار الموظفين وعموم الموظفين والضباط وضباط الصف الأتراك والأكراد وعشائر العرب علاوة علـى مشاهداته، مؤكدًا أن المذابح قد اقتُرِفت بأوامر رسمية مباشرة !

وفي السياق السردي للأحداث، ذكر الغصين سببًا مهمًا دفع الأتراك لإفناء الأرمن، خلاصته أن الأرمن « أقدر وأعلم وأكيس من الأتراك ». وإزاء هذا التفوق، شعر الاتحاديون بالضآلة، فآثروا التخلص من أقرانهم المتميزين. وحســب تعبيـر الغصين : «… ولما رأى الاتحاديون أنهم ضعفاء في العلم… آثروا العودة إلى ما كان عليه أجدادهم التتار من تخريب البلاد وإهلاك العباد بدون ذنب ولا سبب، ولم يقتصر رد الفعل التركي العثماني إزاء «التفوق الأرمنى » على الذكور فقط، ولكنه امتد أيضًا إلى الإنـاث والأطفال.

لم يرتكب الأرمن أي أفعال تُخوّل للأتراك اجتثاثهم بهذا الاجتثاث الفظيع الذي لم تُقدم عليه أمة حتى في أشنع القرون المظلمة. فما الذي ساق رجال الحكومة التركية إلى قتل أمة بأسرها » ؟!

أجاب الغصين بأن وراء « إهلاك الأرمن وإتلافهم » على أيدى جماعة الاتحاد والترقي الحاكمة في دولة الخلافة العثمانية، أنهم حينما قبضوا على « أزمة الحكم وذاقوا حلاوة الرئاسة، وجدوا أن خير وسيلة تجعلهم في سعة من العيش ورفاهية من الحياة وتُمكن الأتراك دون غيرهم من حكم الأمم العثمانية هي الحكم الاستبدادي. هنا أدرك الاتحاديون أن الأرمن يُمثلون عقبةً كأداء أمام طموحاتهم؛ إذ إنهم سينكرون عليهم الاستبداد وسيُحاربونه، أدرك الاتحاديون أن الأمة الأرمنية قد استأثرت بالصناعات على جميع الأمم العثمانية، وهي أرقى بعلمها وجمعياتها، وسيكونون أكثرية مع الوقت ضمن ضباط الجيش، وخافوا عاقبة الأمر، وعرفوا ما هم عليه من الضعف، وأنهم لا يقدرون على مجاراة الأرمن في ميادين العلم والرقى. فلم يجدوا واسطة للخلاص منهم إلاّ بإهلاكهم، وقد وجدوا الحرب العظمى أحسن فرصة للتخلص منهم، فأقدموا على هذه الجريمة الفظيعة النكراء والتي شفت عن وحشية نطقت بها صفحات التاريخ الطويل الدال على دموية مستقرة في النسيج، دعت الأخ إلى قتل إخوته، والابن إلى قتل أبيه، وسطرت صفحات دامية لأنهار دماء أُريقت في تلك الدولة العلية !!

فصول هذه المأساة لا تنتهى، مما يجدر معه أن نختم الحديث فيها قبل أن نتناول الضلع الثاني لهذا الإهدار للدماء، وهو ما أطلق عليه « الخلافة » والتي لا تمت بصلة إلى خلافة الراشدين، الذين لم تعقبهم على الإطلاق خلافة، وإنما كان صراعًا دمويًّا على السلطة، أما الخلافة، فسوف نرى أنها ليست أصلاً من أصول الحكم في الإسلام.

 

زر الذهاب إلى الأعلى