التركية العثمانية وأنهار الدماء (4)

التركية العثمانية وأنهار الدماء (4)

نشر بجريدة الأهرام الاثنين 21/9/2020

بقلم: أ. رجائي عطية

كانت علاقاته العائلية، مع عشق السلطة، المنحدر الذى فارق به السلطان سليمان القانوني مراتب العظمة والعظماء إلى درك غريب هانت فـيه أرواح الأبناء، وسالت دماؤهم على يديه !

من محظيته الأثيرة الشركسية «وردة الربيع» أنجب طفله النجيب «مصطفى» الذي ظهر نبوغه وشق طريقه إلى المناصب الكبرى والتبعات الهامة، وكالعادة أيضًا فتر وتوارى حب السلطـان القانونـي لـوردة الربيـع حيـن انشـدت عواطفـه تجــاه «خوريم» أو الضاحكة أو «روكسيلانا» الأسيرة الروسية التي سرعان ما كسبت قلب السلطان وانتزعته من المحظية الشركسية، وسيطرت عليه حتى وقع السلطان ثملاً بجمال «روكسيلانا» ومرحها وإغوائها وخداعها ! ولكن إلام قاده ذلك، قاده إلى قتل ابنه مصطفى أمام نظره، دون أن يفلح استعطافه في إثناء الأب عن هذه الجريمة البشعة، على ما سوف نرى !

وتكررت في بلاط السلطان سليمان الصورة التي ملأت بلاط معظم الملوك والأباطرة.. تدبر المحظية الجديدة لملك أبنائها ، والطريق المعتاد إيغار صدر الأب  سليمان القانوني على ابنه مصطفى ساعده الأيمن والمنتظر أن يتولى عرش أبيه، ولا يفوتها أن تصاهر لتقوية شوكتها رستم باشا الوزير الأكبر فتزوجه ابنتها، ويلتفون حول السلطان يلقون في روعه أن مصطفى يدبر الملك لنفسه، ويصطنع الأسباب لتوسيع شعبيته حتى ينتزع العرش من أبيه، وأنه يحرض الانكشارية على عزله وتنصيبه كما فعل السلطان سليم الأول مع أبيه السلطان بايزيد الثاني، فتتمكن الشكوك من السلطان المنهوك ، فيزمع قتل ابنه ، وينتقل بنفسه إلى «إرجلى» حيث يدعو فلذة كبده إلى خيمته في 12 شوال 960 هـ / 21 سبتمبر 1553م ، ويقتله بيده طبقًا لرواية وول ديورانت في «قصة الحضارة»، أو يتابع قتله على مرأى ومسمع منه طبقًا لرواية الأستاذ محمد بك فريد ، دون أن تجدى صرخات واستعطافات الابن إلى أبيه أن ينقذه أو يعدل عن قتله !

كيف ساغ للسلطان الأب أن يقتل أكبر وأعز أبنائه بيده أو على مرأى ومسمع منه ؟!

لا شك أن حماية الملك رجحت لديه على محبة الابن، فهانت روحه وأسال دماءه بيديه ! فهل توقفت بقتله أنهار الدم التي سالت على جدار السلطة ؟! يحكى التاريخ أن «بايزيد» ابن سليمان القانوني خشي على نفسه من أطماع أخيه سليم ابن روكسيلانا، ووجد أو تعلل بأن مصيره المحتوم سوف يكون الذبح، فشق عصا الطاعة وأعد جيشًا يتحدى به أباه السلطان سليمان، فلما انهزم فر إلى فارس، ولكن الشاه الفارسي سلمه لقاء رشوة كبيرة، فماذا كان مصيره؟! قُتِلَ شنقًا سنة 1561م، ولحق به أبناؤه الخمسة الذين ذُبِحوا محافظة على أمن العرش !.. يقول وول ديورانت إنه يُروى أن السلطان المتألـم (!!!) علـى قتـل ولديه ثم أحفاده الخمسة ـ قد توجه إلى الله بالشكـر والحمـد علـى مصـرع هذه الذرية (المزعجة !!) التي كانت تهدد عرشه، وأنه يستطيع الآن أن يعيش في رغدٍ وأمن وسلام !!!

قد بلغ سليمان القانوني أعلى المراتب وطار صيته في البلدان، ولكنه ذبح نصف ذريته، وأمر بذبح وزير مبدع دون إنذار أو محاكمة.. كانت أخطاؤه أيضًا أخطاء ملوك، انضمت إلى مشاهد كثيرة سابقة ولاحقة سُفكت فيها الدماء وسالت أنهارًا على جدار السلطة في الدولة العلية التركية العثمانية !

تولى الحكم من بعده السلطان الغازي سليم خان الثاني، ابن «روكسيلانا» المحظية الروسية ، ولم يكن على كفاءة أبيه ، أو مؤهلاً لمتابعة فتوحاته، لولا وجود الوزير الطويل محمد باشا صقللي  صاحب الكفاءات المتعددة ، فحفظ قوام الدولة إلى أن توفى سليم الثاني، وتولى من بعده أكبر أولاده السلطان الغازي «مراد خان الثالث» ثاني عشر سلاطين العثمانيين، وبدأت سلطنته في شعبان 982 هـ/ ديسمبر 1574م ، وبدأ أعماله بتحريم شرب الخمر، ثم ما لبث أن أباحها لثورة الانكشارية ، ثم قتل « إخوته الخمسة » ليأمن على ملكه من المنازعة وانشغل بعدها بمحاربة العجم .

لم تكن مذبحة قتل «الإخوة الخمسة» التي قارفها «مراد خان الثالث»، لم تكن هي أفدح مذابح قتل الإخوة، فقد فاقه خلفه السلطان الغازي «محمد خان الثالث»، فما كاد يتولى السلطة في 20 يناير 1599 م، وهو ابن صفية، المحظية الإيطالية المصطفاة، حتى قام بخنق إخوته التسعة عشر، قام بخنقهم قبل دفن أبيه، ودفنهم معًا تجاه «أيا صوفيا»، ولم يحفظ له أثر غير هذه المذبحة البشعة التي تغيا بها حفظ الملك، ونسى حتمية الموت الذي عاجله وهو لما يزل في السابعة والثلاثين، فمات في 16 ديسمبر 1603م، ليخلفه ابنه أحمد.

آلت السلطة من بعده «بالميراث»، السّنة المتبعة في دولة الخلافة التركية العثمانية العلية، إلى ابنه السلطان الغازي (كلهم غزاه) «أحمد خان الأول» تولاها ولم يتجاوز الرابعة عشرة إلاَّ بقليل ، ولكنه لم يأمر بقتل أخيه «مصطفى»، واكتفى بحجزه بين الخدم والجواري، واتسم عهده بعقد معاهدة رأى الأستاذ محمد فريد أنها كانت فاتحة الانحطاط وأول المعاهدات المشئومة التي ختمت بمعاهدة برلين الشهيرة .

وإذ عاجلته المنية في 22 نوفمبر 1617م، وهو لما يزل فى الثامنة والعشرين من عمره، وسن ولده الأكبر عثمان لم يتجاوز الثالثة عشرة، خالف العادة المتبعة منذ «عثمان الأول» بتنصيب أكبر الأبناء، وأوصى بالملك بعده لأخيه مصطفى . السلطان الغازي «مصطفى خان الأول» الذي لا علم له بأمور المملكة وشئون الحكم، ولكن حفظت له أثيرة عدم المضي في العادة المستقبحة بقتل الإخوة، فلم يقتل إخوته، إلاَّ أنه لم يلبث بالحكم إلاَّ نحو ثلاثة أشهر، فعزله أرباب الأغراض وفى مقدمتهم المفتي (كالعادة) بمساعدة الانكشارية، وأقاموا مكانه السلطان «عثمان خان الثاني» (1027 هـ/ 1618م)، لتستمر سلسلة القتل وإراقة الدماء وإزهاق الأرواح، ولكن القتيل هذه المرة كان السلطان نفسه !!!

زر الذهاب إلى الأعلى