التركية العثمانية وأنهار الدماء ! (16)
التركية العثمانية وأنهار الدماء ! (16)
نشر بجريدة الأهرام الاثنين 14/12/2020
بقلم: الأستاذ/ رجائي عطية نقيب المحامين
يبدو أن الخلافة التركية العثمانية أبت وهي تذوى إلى الرحيل ـ أبت إلاَّ أن تختم سجلها الدموي الأسود، بمشهد الختام الذي حمل أشد صفحات تاريخها الدموي بشاعةً وسوادًا، فيما عُرف بمذبحة أو مذابح الأرمن، أبدعت فيه تركيا العثمانية كل فنون الذبح والقتل والتصفية والإبادة الجماعية والتهجير القسري لشعب بأكمله، هو الشعب الأرمني، الذي وضعته الأقدار في بقعة من الأرض موزعة ما بين شرق تركيا، وهي الموطن الأصلي للأرمن، وجنوب روسيا، وغرب فارس، ونستطيع أن نقول إجمالاً إن « أرمينيا » هي موطن الأرمن، وإنها تقع في غربي آسيا.
وطوال مراحل التاريخ الغابر والقديم والحديث، تغيرت معالم وحدود أرمينيا ضيقًا واتساعًا، وتتابعت عليها موجات الهجرة التي دفعها للهجرة المذابح الشاملة، والجور والظلم، ومع هذه التغيرات، ظل العنصر الوحيد الثابت، هو شعب الأرمن، وتقول الروايات القديمة بأن «حايك» من سلالة نوح، أسس مملكة أرمينيا القديمة بمنطقة بحيرة فان، ثم صارت ساحة حروب بين الأشوريين والميديين والفرس، وأصبحت حوالى القرن السادس قبل الميلاد إيالة فارسية، وفتحها الإسكندر الأكبر في القرن الرابع قبل الميلاد، ثم حكمها سلوكس الأول. وصارت مملكة مستقلة إلى أن وقعت في قبضة الرومان، وكان من سوء حظ شعبها أن وقعت في حوزة الفرس بعد القرن الثالث الميلادي، فلاقى المسيحيون منهم صنوفًا وألوانًا من الجور والاضطهاد، إلى أن تحقق استقلالها الذاتي تحت حكم ملوك أرمن من سنة 885 م حتى سنة 1046 م، حين أعاد البيزنطيون فتحها، وكان من سوء حظ الأرمن أن تغلب السلاجقة الأتراك ـ الويل منهم ـ على البيزنطيين وطردوهم وحلوا محلهم لتبدأ أولى مشاهد التعذيب التركي، واضطر جانب من الأرمنيين إلى الارتحال غربًا، حيث أقاموا مملكة أرمينيا الصغرى في كيليكية، ثم تابعهم سوء الطالع فاجتاحهم تيمور لنك ووحوش المغول، حيث فتحوا عام 1386م أرمينيا الكبرى، فأعملوا في الأرمن القتل، وقتلوا أعدادًا كبيرة منهم، حتى طردهم الفرس، ليبدأ سوء حظهم يزداد إظلامًا وسوادًا، حين بدأ الأتراك العثمانيون فتح إقليمهم تدريجيًّا، حتى صارت أرمينيا كلها في أيديهم في القرن السادس عشر الميلادي، ثم ادعت فارس حق ملكية الجزء الشرقي من أرمينيا، واحتلتها، ولكن روسيا طردتهم من هذا الجزء في عام 1828م، ثم أعطى مؤتمر برلين المنعقد عام 1878 بعض الأراضي الأرمينية التابعة لتركيا إلى روسيا، ولكن رقعة كبيرة من هذا القطاع أعيدت إلى تركيا في عام 1921، وبعد أن كانت أجرت مذابح الأرمن وشنّوا عليهم حرب الإبادة والتهجير القسري ( 1894 ـ 1896 ) في عهد عبد الحميد الثاني، ثم في عهد تركيا الفتاة حين جرى في عام 1907 إسقاط عبد الحميد الثاني عن العرش ونفيه إلى مدينة « سالونيك اليونانية » والتي كانت آنذاك في عهدة أو رعوية الخلافة العثمانية حتى تحررت عام 1912، وبعد ثورة 1908، ساعد أعوان تركيا الفتاة على شرعنة مصادرة أراضي الأرمن، لإسباغ شرعية كاذبة على هذه المصادرة والاستيلاء على تلك الأراضي في عهد السلطان عبد الحميد، بل ومنحوا جوائز تشجيعية للأتراك الذين ينتقلون للسكن في مناطق الأرمن، وبعد القضاء على انتفاضة الموالين للسلطان عبد الحميد، بدأت حملات واسعة للتهجير القسري للأرمن، وتم في حملات التهجير وإعادة التسكين نقل أربعمائة ألف تركى إلى الأناضول، لتغيير الصبغة الإثنية والدينية في المنطقة، واضطر الأرمن إزاء حملات الإبادة والتهجير القسري والإحلال محل الذين أجبروا على الرحيل عبر مفازة صحراوية مهلكة، اضطروا للاستغاثة طلبًا للمساعدة الدولية لإنقاذهم مما يحيق بهم بلا رحمة من تركيا العثمانية من تقتيل وإبادة وترحيل، وبرغم أن غالبية الأرمن وقفوا في حرب البلقان التي دارت عام 1912 إلى جانب تركيا العثمانية، وبلغ عدد أفراد الوحدات الأرمينية في تلك الحرب ما يناهز عشرة آلاف جندي، لعبوا دورًا مهمًّا في القوات التركية العثمانية شهد به القنصل البريطاني في ذلك الوقت.
وخلال الحرب العالمية الأولى التي شبت عام 1914، صارت أرمينيا أرضًا للمعركة بين الأتراك العثمانيين والروس، وخشى الأتراك مساعدة روسيا للأرمن، فاستبقت تركيا إلى تكريس الإبادة والترحيل، لتجلى في عام 1915 الأرمن الذين عاشوا في أرمينيا التركية إلى الصحراء القاسية المهلكة التابعة الآن لسوريا.
وبدا أن الأرمن قد فُرض عليهم أن يستجيروا من الرمضاء بالنار، حين لجأوا مضطرين إلى روسيا البلشفية، وكان من سوء طالعهم أن صار جوزيف ستالين في عام 1929 الحاكم المطلق للاتحاد السوفييتي، فنشر الرعب في البلاد، ولم يسمح إلاَّ بالقليل للأقليات القومية في الاتحاد السوفييتي، ومنهم الأرمن، إلاَّ بقليل القليل للتعبير عن أنفسهم، في أرمينيا وغيرها.
وطوال سنوات الحرب العالمية الأولى، توالت حملات إبادة الأرمن في تركيا، وتوالت مشاهد فظيعة يقشعر لها الأبدان، وتئن منها الضمائر الحيّة، توالت تباعًا، وأضجت ضمير الإنسانية ولا تزال، اقترب عدد ضحاياها من الأرمن إلى ما يقرب من مليونين من القتلى الذين قُتلوا في تلك المذابح، وهو ما سيلى الحديث عنه في المقال القادم بمشيئة الله.