التحكيم.. «أهميته ومزاياه ـ اتفاقه وشروط صحته ـ هيئة التحكيم وكيفية اختيارها ـ إجراءاته وبطلان الحكم»
علي عبدالجواد
يعد التحكيم نظام أو طريق خاص للفصل في المنازعات بين الأفراد والجماعات سواء كانت مدنية أو تجارية عقدية كانت أو غير عقدية، فالتحكيم قوامه الخروج عن طرق التقاضي العادية، فهو يعتمد أساسًا على حرية أطراف النـزاع في اختيار قضاتهم بدلًا من الاعتماد على التنظيم القضائي للبلد التي يقيمون بها، وتسمى “هيئة التحكيم” وتتكون من محكم واحد أو أكثر حسبما يتفق الأطراف بمشارطة التحكيم أو في الوثيقة المنظمة للعلاقة التي يتناولها التحكيم.
وقد اختلف الفقهاء حول طبيعته فأضفى عليه البعض الطبيعة القضائية انطلاقًا من طبيعة عمل المحكم التي تتماثل مع عمل القاضي، بينما ذهب البعض إلى تبنى الطبيعة العقدية للتحكيم استنادًا إلى أن أساس التحكيم هو اتفاق الأطراف، بينما ذهب الرأي الراجح إلى اعتبار التحكيم ليس اتفاقا محضًا ولا قضاءً محضًا، فهو في أوله اتفاق وفي وسطه إجراء وفي آخره حكم .
أهمية ومزايا التحكيم
يتميز التحكيم بمرونته فهو يسمح للمتنازعين بتشكيله على النحو المناسب لهم ويمكن الأطراف من اختيار المحكمين الذين يتولوا عملية التحكيم بأنفسهم ،كما أن المحكم لديه قدر كبير من المرونة ومساحة معقولة من الحرية في الوصول للحكم العادل دون التقيد بنظام رسمي شكلي أو نظام قانوني يكبله .
كما يتميز التحكيم من ناحية أخرى بسرعته فلا يخفي أن أشد العيوب التي عانى منها القضاء هو البطء الناتج عن تراكم القضايا المعروضة على القاضي فأصبح من غير الميسور على القضاء أن يفصل في المنازعات بين الأفراد في وقت قصير بعد أن تعقدت شئون الحياة وكثرت مشاكلها وأصبح لا يفصل في الدعاوى القضائية إلا بعد مدد تصل إلى عدة سنوات مما يؤدى إلى بطء الفصل في النـزاع عن طريق اللجوء إلى القضاء الذي لا يفصل فيه إلا إذا جاء دوره وبعد أن ينال من التأجيلات مالا يتفق مع مصلحة الأطراف ،وحتى لو حقق القضاء العدالة فهي عدالة بطيئة قد لا يصل إليها صاحب الحق إلا بعد مدة طويلة ،فالعدل البطيء هو نوع من الظلم لذلك فان السرعة التي يتميز بها التحكيم تعتبر من أهم ايجابياته فقوانين التحكيم ولوائحه ومواثيقه عادة ما تحدد مدة يجب ألا يتجاوزها المحكم عند إصدار قراره.
فضلا عن أن نظام التحكيم يتميز بالبساطة والسهولة والتخلص من الشكليات القضائية حيث يتفادى الطرفين من خلاله تعدد درجات التقاضي فالدعوى أمام القضاء تمر بمراحل متتالية بين المحكمة الابتدائية ثم الاستئنافية ثم محكمة النقض وربما استخدمت إشكالات التنفيذ كوسيلة لتعطيل تنفيذ أحكام القضاء والتي قد تستغرق هي الأخرى بضع سنين .
كما أن التحكيم هو أنسب الطرق لحل المنازعات التي تثيرها العلاقات ذات الطابع الدولي فوجود العنصر الأجنبي في العلاقة يؤدى إلى احتياج أطرافها إلى جهة محايدة لحل ما تثيره من منازعات ويكون التوصل إلى محكم محايد أو على الأقل ينتمي إلى دولة أخرى غير الدول التي ينتمي إليها الأطراف بمثابة طوق النجاة الذي يحظى بقبول الطرفين .
مساوىء التحكيم
َفإذا كانت هذه هي بعض مزايا التحكيم فلا يمكن إنكار ماله من مثالب أو إخفائها فالتحكيم يوصف عادة بأنه طريق مكلف مادياً و يرجع ذلك إلى تصاعد رسوم التحكيم ومكافآت المحكمين في بعض مراكز التحكيم ،إلا أنه يراعى أن هذا العيب يجب ألا يقدر بمعزل عن العامل الزمني إذا تم إنهاء النـزاع خلال مدة قصيرة أو حتى مدة محددة قد يكون له قيمة كبيرة في ذاته ،كما أن حصول صاحب الحق على حقه عن طريق القضاء بعد مضى سنوات من إثارة النـزاع المصحوب بنـزيف مادي قد تكون حصيلته أكثر كلفة من نفقات التحكيم المرتفعة والتي تنهى النـزاع سريعًا.
كما يعتبر من مساوئ التحكيم أيضا في نظر البعض عدم موضوعية بعض المحكمين وهو ما يمكن تلافيه بحسن اختيار المحكم وهى مسألة تقع أساساً على عاتق الأطراف ويمكن أن تعاونهم في هذا بعض مؤسسات ومراكز التحكيم غير المنحازة كما يمكن علاج هذه المسألة باتخاذ إجراءات الرد التي تقررها مختلف قوانين التحكيم وهو ما أخذ به القانون المصري .
نبذة عن قانون التحكيم المصري
تماشيًا مع الاتجاه الدولي نحو التحكيم وتخفيف العبء عن القضاء الرسمي في الدولة وبعد انضمام مصر إلى اتفاقية نيويورك لسنة 1958 و سعياً وراء تشجيع الاستثمار اتجه المشرع المصري لإصدار القانون رقم 27 لسنة 1994 بشان التحكيم، وقد احتوى هذا القانون على 58 مادة تنظم عملية التحكيم بدايةً من الاتفاق على التحكيم وحتى تنفيذ حكم هيئة التحكيم
اتفاق التحكيم وشروط صحته
التحكيم هو طريق إلزامي بالنسبة لمن اختاره وتكون البداية هي اتفاق التحكيم والذي يعد حجر الزاوية في عملية التحكيم، فاتفاق التحكيم كغيره من سائر العقود التي لا تنعقد إلا بالرضاء وبتوافر الأهلية ، فضلا عن ضرورة صياغته كتابيًا وإلا كان باطلًا طبقا لنص المادة 12 تحكيم .ولا يلزم في هذا الشأن إبرام عقد تحكيم منفصلاً بل يمكن أن يأخذ الاتفاق صورة شرط تحكيم يتضمنه أي عقد من العقود ،فاتفاق التحكيم قد يرد كبند من بنود العقد المبرم بين الأطراف أو في ورقة ملحقة به تنص على التجائهم إلى التحكيم دون القضاء بشأن ما قد ينشب مستقبلًا حول العقد المبرم بينهم من منازعات ويسمى هذا الاتفاق “شرط التحكيم” وقد يتم الاتفاق على الالتجاء إلى التحكيم بعد أن يثور النـزاع فعلًا ويسمى هذا الاتفاق في هذه الحالة”مشارطة التحكيم”، وفي جميع الأحوال يجب أن يصاغ اتفاق التحكيم بشكل لا لبس فيه حتى لا يؤدى هذا إلى استحالة إعمال اتفاق التحكيم ، و لا فرق بين الصورتين من حيث إلزام من ارتبط وفقا لأيهما بالمضي في طريق التحكيم عند إثارة النـزاع .ولم يشترط قانون التحكيم المصري بيانات معينة يتعين أن يتضمنها اتفاق التحكيم فيما عدا ما نصت عليه المادة رقم 10 في فقرتها الثانية من ضرورة أن تشمل مشارطة التحكيم على المسائل التي يشملها التحكيم وإلا كان الاتفاق باطلا إذ يأتي تحريرها بعد قيام النـزاع فعلاً ومن ثم ينبغي تعين موضوع النـزاع حتى تتحدد ولاية المحكمين ويتسنى فيما بعد مراقبة مدى التزامهم حدود ولايتهم، أما شرط التحكيم فإنه لا يتصور بطبيعة الحال أن يتضمن هذا البيان لأن النـزاع لم يكن قد بدأ بعد .
(نقض مدني 26 مارس 1981 مجموعة النقض لسنة 32 صفحة953).
وبهذه الصفة الإلزامية يختلف التحكيم عن غيره من الصور كالصلح أو التوفيق حيث أن الاتفاق على مبدأ التحكيم يقيد الأطراف فلا يملك أيهما أن يعدل عنه ،فمن أقدم عليه لا يملك التراجع عنه فيُلزم بالسير فيه حتى نهايته ،أما الاتفاق على مبدأ الصلح أو التوفيق فلا يلزمهما إذ يملك أيهما الالتجاء إلى القضاء لحل النـزاع رغم الاتفاق دون تثريب عليه وذلك عكس مبدأ التحكيم إذ يمتنع على الأطراف الذين اتفقوا عليه اللجوء إلى القضاء فقد نصت المادة 13 من قانون التحكيم المصري على أنه “يجب على المحكمة التي يرفع إليها نـزاع يوجد بشأنه اتفاق تحكيم أن تحكم بعدم قبول الدعوى إذا دفع المدعى عليه بذلك قبل إبدائه أي طلب أو دفاع في الدعوى” ولكن لا يعنى هذا إقصاء القضاء تماماً عن الفصل في النـزاع فلا يحول اتفاق التحكيم من احتفاظ القضاء بإصدار قراراته فيما يطلب منه من تدابير وقتية أو تحفظية تتعلق به سواء قبل البدء في إجراءات التحكيم أو أثناء السير فيها وهو ما نصت عليه المادة 14 من قانون التحكيم المصري
هيئة التحكيم وكيفية اختيارها
ومتى اتفق الأطراف على حل نـزاعهم بالتحكيم فإن قيام النـزاع يؤدى بالضرورة إلى قيام خصومة التحكيم وتبدأ بتشكيل هيئة التحكيم وهى مسألة دقيقة إذا يتوقف عليها نجاح التحكيم أو فشله ،وقد نظم قانون التحكيم المصري هذا الاختيار بالمواد 15، 16، 17 فقد نص على أن هيئة المحكمين تتشكل باتفاق الطرفين من محكم واحد أو أكثر فإذا لم يوجد اتفاق على عددهم كان العدد ثلاثة وفي حالة تعددهم فيجب أن يكون عددهم وتراً حتى يمكن الترجيح عند الاختلاف في الرأي وإلا كان التحكيم باطلاً ،ولا يشترط أن يكون المحكم من جنسية معينة إلا إذا اتفقا طرفي التحكيم على ذلك .ويتم اختيار المحكمين باتفاق الأطراف فإذا اتفقوا على أن هيئة التحكيم تتشكل من محكم واحد فيتم اختياره بالاتفاق فيما بينهما فإذا لم يتفقوا تولت المحكمة المختصة أصلاً بنظر النـزاع باختياره بناء على طلب أحد الطرفين ،أما إذا اتفقوا على أن تكون هيئة التحكيم مشكلة من ثلاثة محكمين اختار كل طرف محكما ثم يتفق المحكمان على اختيار المحكم الثالث فإذا لم يعين أحد الطرفين محكمه خلال ثلاثين يوما التالية لتسلمه طلباً بذلك من الطرف الأخر او إذا لم يتفق المحكمان المعينان على اختيار المحكم الثالث خلال الثلاثين يوماً التالية لتاريخ تعين أخرهما تولت المحكمة سالفة الذكر باختياره بناء على طلب أحد الطرفين ويكون قرارها هذا نهائي لا يقبل الطعن عليه بأي طريق من طرق الطعن ، ويتولى هذا المحكم الثالث رئاسة هيئة التحكيم باعتباره أكثر المحكمين حياداً.
إجراءات التحكيم
فالأصل في التحكيم كما ذكرنا هو إعفاء هيئة التحكيم من التقيد بالقواعد الإجرائية التي يتقيد بها القاضي فالأساس في التحكيم هو اتفاق الأطراف الذي يحدد قدر المرونة التي يتمتع بها المحكم فقد يقيدونه بنظام إجرائي معين وقد يكتفوا بالاتفاق على مبدأ التحكيم دون أن يحددوا النظام الإجرائي ،وقد أجاز المشرع المصري لطرفي التحكيم الاتفاق على إخضاع التحكيم لما يرونه من إجراءات سواء طبقا للقانون المصري أو طبقا للإجراءات التي تتبعها أي منظمة أو هيئة تحكيم سواء في مصر أو خارجها إلا أنه يجب دائما مراعاة عدم مخالفة هذه الإجراءات النظام العام للقانون الذي يجرى التحكيم على ضوئه أو للبلد المطلوب التنفيذ فيها ،ولطرفي التحكيم تحديد مكان التحكيم سواء داخل مصر أو في خارجها وكذلك لغة التحكيم ،وتبدأ إجراءات التحكيم من اليوم الذي يتسلم فيه المدعى عليه طلب التحكيم من المدعى الذي يعلن فيه رغبته في الالتجاء إلى التحكيم ما لم يتفق الطرفان على موعد آخر.
حكم التحكيم وإنهاء الإجراءات
راعى المشرع المصري تماشيا مع الفلسفة والغاية من التحكيم من ضرورة سرعة الفصل في النـزاع فقرر بأنه يجب على هيئة التحكيم إصدار الحكم المنهي للخصومة كلها خلال الميعاد الذي اتفق عليه الطرفان ومتى تحدد هذا الميعاد فلا يجوز تعديله إلا باتفاق الطرفين ،فإذا لم يوجد اتفاق بين الخصمين على تحديد مدة يجب أن يصدر خلالها الحكم وجب على هيئة التحكيم أن تصدر حكمها خلال اثني عشر شهراً من تاريخ بدأ إجراءات التحكيم إلا أنه يجوز لهيئة المحكمين سواء وجد اتفاق على المدة أم لا أن تمد مدة التحكيم بحيث لا تزيد فترة المد عن ستة أشهر فقط ، فتقوم هيئة المحكمين بإصدار حكمها المنهي للخصومة محل التحكيم بعد انتهاء المرافعة وإبداء الخصوم لطلباتهم الختامية و بعد دخول الخصومة مرحلة المداولة والتشاور بين المحكمين إذا تعددوا أو مرحلة تكوين الرأي إذا كان المحكم فرداً وهذا ما نصت عليه المادة 40 من قانون التحكيم ،وفي حالة تعددهم يصدر الحكم بأغلبية الآراء بعد اشتراكهم جميعاً في المداولة السرية ويصدر حكم التحكيم كتابةً وموقعاً من المحكم ،أما إذا تعددوا فيكتفي بتوقيع أغلبية المحكمين بشرط أن يثبت في الحكم أسباب عدم توقيع الأقلية . كما يجب أن يكون حكم مسبباً ما لم يتفق طرفي التحكيم على غير ذلك أو كان القانون واجب التطبيق على إجراءات التحكيم لا يشترط ذكر أسباب الحكم
بطلان حكم التحكيم
وازن المشرع المصري بين ضرورة سرعة الفصل في النـزاع بالتحكيم وبين ضرورة إصلاح ما قد يشوب الأحكام من أخطاء فقرر الاستغناء عن طرق الطعن المقررة بالنسبة لأحكام القضاء المنصوص عليها في قانون المرافعات و قرر الاقتصار على رفع دعوى ببطلان حكم التحكيم وقد حدد الأسباب التي يمكن أن تبنى عليها دعوى البطلان تحديداً حصرياً وهى إذا لم يوجد اتفاق تحكيم أو كان هذا الاتفاق باطلاً أو قابل للإبطال أو سقط بانتهاء مدته ،أو إذا كان أحد طرفي التحكيم فاقد الأهلية أو ناقصها وقت إبرامه ،أو إذا تعذر على أحد طرفي التحكيم تقديم دفاعه بسبب عدم إعلانه إعلاناً صحيحاً بتعين محكم أو بإجراءات التحكيم أو لأي سبب أخر خارج عن إرادته ، أو إذا استبعد حكم التحكيم تطبيق القانون الذي اتفق الأطراف على تطبيقه ،أو إذا تم تشكيل هيئة التحكيم على وجه مخالف للقانون أو لاتفاق الطرفين ،أو إذا فصل حكم التحكيم في مسائل لا يشملها اتفاق التحكيم أو جاوز حدود هذا الاتفاق ،أو إذا وقع بطلان في إجراءات التحكيم أثر في الحكم ، أو إذا صدر حكم التحكيم مخالفاً للنظام العام في مصر ، وترفع دعوى البطلان خلال التسعين يوماً التالية لتاريخ إعلان حكم التحكيم للمحكوم عليه ،وتختص بها محكمة الدرجة الثانية التي تتبعها المحكمة المختصة أصلا بنظر النـزاع ،أما إذا كانت دعوى البطلان متعلقة بتحكيم تجارى دولي سواء جرى في مصر أو في خارجها فتختص محكمة استئناف القاهرة بنظر دعوى البطلان أو أي محكمة استئناف.