التجديد القانوني للخطاب الديني.. اللعان في عصر البصمة الوراثية
الدكتور أحمد عبد الظاهر، أستاذ القانون الجنائي بجامعة القاهرة ـ المستشار القانوني بدائرة القضاء – أبو ظبي
مقدمة
في الثالث من شهر يونيو 2023م، نشرت وسائل الإعلام العربية والأجنبية خبراً عن الممثل الأمريكي الشهير، آل باتشينو، البالغ من العمر 83 عاماً، عندما اكتشف حمل صديقته عارضة الأزياء ذات الأصول الكويتية، نور الفلاح، والتي تبلغ من العمر 29 عاماً فقط. فوفقاً لما نشر في وسائل الإعلام، فإن آل باتشينو كان متفاجئاً تماماً، مثله في ذلك مثل جمهوره العريض، بقدرته على جعل أي امرأة حامل، بسبب كبره في السن، فقام بإجراء فحص الحمض النووي، ليتأكد من أن الطفل له.
وبغض النظر عن مدى شرعية العلاقة الجنسية بين آل باتشينو وصديقته من الناحية الدينية، فإن مثل هذه الشكوك التي ثارت لدى آل باتشينو يمكن أن تنشأ في إطار علاقة شرعية نشأت من خلال عقد الزواج. فالشك تصرف إنساني لاسيما إذا كان هناك ما يدعمه. وقد عبر الشاعر الأمير عبد الله الفيصل بن عبد العزيز آل سعود عن هذا الشعور الإنساني أصدق تعبير، وذلك في قصيدته الموسومة «ثورة الشك». بل إن بعض الأشخاص قد يكون لديهم شك مرضي لا يدعمه شيء من الواقع. وقد يصل به الأمر إلى حد تصديق أن أحد الأبناء ليس من صلبه، وبحيث يصل به الأمر إلى حد الاعتقاد الجازم بانتفاء نسب هذا الابن له. فما هي الوسيلة الشرعية التي يملكها الزوج في مثل هذه الحالة.
وبالرجوع إلى موقع دار الإفتاء المصرية، نجد إحدى الفتاوى عن «شك الرجل في حمل زوجته المدخول بها مع بقاء بكارتها». وتتعلق هذه الفتوى بسؤال عن فتاةٌ تزوّجت من رجلٍ بعقد شرعيّ ودخل بها، ولم يُزِل بكارتها حتى اليوم الثاني من دخوله، ثم اصطحبها إلى طبيبة للكشف عليها، فأكدت له بكارَتَها واقتنع بذلك وعاشرها معاشرة الأزواج ستة أيام، ثم سافر إلى السودان ووعد بأخذها بعد عمل الترتيبات هناك، واتصل بها تليفونيًّا أربع مرات أسبوعًا بعد آخر، وسألها عن الحيض، فأجابته بالإيجاب، وقد عاد في الشهر الرابع من زواجها وطلب الطلاق، فرأى والدها أن يكشف عليها طبيبٌ ليحصل على شهادةٍ تثبت بكارتها تقترن بوثيقة الطلاق، فاتَّضحَ أنها حاملٌ، فجنّ جنون الزوج، وظن أنها أتت منكراً، وكبر في نفسه كيف كانت تخطره بحيضها، وبعد مشاورات اقتنع بالانتظار للوضع مع تحليل دم الوليد ليتأكد من نسبته إليه، وحضر في الشهر التاسع من دخوله بها، وأدخلها مستشفى خاصة، ووضع رقابةً عليها، ولم تلد في نهاية الشهر التاسع، فانقلب شكّه يقينًا بأن الجنين ليس منه، ومضى الشهر العاشر والطبيب يقول: إن الجنين في وضعه الطبيعي ومكتمل الصحة، وأصبح في حوضها، وينتظر ولادتها بين يوم وآخر وهي تشعر بآلام الوضع وما زالت بكراً.
وطلب السائل الإفادة عن الحكم الشرعي في الآتي:
1- حمل البِكر من زوجها قبل فضّ بكارتها.
2- نزول الحيض عليها وهي بكر حامل.
3- زيادة مدة الحمل عن تسعة أشهر، وما أقصاها شرعا؟
4- نسب الجنين للزوج.
5- إصراره على تطليقها منه وحملها على الاعتراف في الطلاق بتركها بكرًا وعدم الخلوة بها حتى تسقط تبعية الجنين له دفعاً للتشهير بها (وتسويء) سمعتها.
ورداً على هذا السؤال، وفي الفتوى رقم (5452)، الصادرة بتاريخ الخامس من شهر أكتوبر سنة 1961م، أجاب المفتي فضيلة الشيخ أحمد محمد عبد العال هريدي بالآتي:
أولاً: ظاهر من السؤال أن الزوج بعد أن تأكد من بكارة زوجته عاشرها معاشرة الأزواج، أي: دخل بها واستمر معها ستة أيام، فلا محلّ للحديث في هذه الحالة في حملِ البكر قبل فض بكارتها على أنه من الجائز، ويقع كثيراً أن تحمل البكرُ؛ لأن مدارَ الحمل على وصول الحيوان المنوي إلى بيت الرحم والتقائه بالبويضة، وهذا الحيوان من الدقة بحيث ينفذ من غشاء البكارة إلى داخل الرحم، ويؤدي إلى الحمل مع بقاء هذا الغشاء سليماً، وقد يحصل الجماع أحياناً مع بقاء البكارة قائمة من الوجهة الطبية.
ثانياً: قد ترى الحامل الدمّ ولكنه ليس دم الحيض المعروف، وإنما يسمى في عرف الفقه دم استحاضة، ولا يتعلق بهذا الدم حكم، ولا يترتب عليه شيءٌ من الآثار الشرعية.
ثالثاً: اختلف الفقهاء في تحديد أقصى مدة الحمل، وقد أوصله بعضهم إلى أربع سنوات، ومذهب الحنفية أن أقصى مدة الحمل سنتان، وقد جاء في المذكرة التفسيرية للمرسوم بقانون رقم 25 لسنة 1929 ببعض أحكام الأحوال الشخصية أن وزارة العدل رأت عند وضع هذا القانون أخذ رأي الأطباء في المدة التي يمكثها الحمل، فأفاد الطبيب الشرعي بأنه يرى أنه عند التشريع يعتبر أقصى مدة الحمل 365 يوما حتى يشمل جميع الأحوال النادرة، وعلى هذا الأساس ورد نص المادة 15 من هذا القانون.
رابعاً: الزوجية هنا قائمة بين الزوجين، وفي هذه الحالة لا يرتبط ثبوت نسب المولود بين الزوجين بأقصى مدة الحمل، وإنما يرتبط بالفراش فما دام الفراش قائمًا باتصال الزوجية الصحيحة يثبت النسبُ من الزوجِ أقرّ بالنسب أو سكت.
خامساً: للزوج أن يطلّق زوجته إذا أراد، وليس له أن يحملها على الإقرارِ بغير الواقع، ولمن يدّعي من الزوجين شيئاً [عليه] أن يقدّم الدليل على دعواه أمام القضاء.
وكما هو واضح من هذه الفتوى أن السؤال قد أشار على استحياء إلى «تحليل دم الوليد»، للتأكد من نسبته إلى الأب. فلم يكن تحليل البصمة الوراثية (DNA) قد ظهر في تاريخ صدور الفتوى سالفة الذكر. بيان ذلك أن التطورات العلمية الحاصلة منذ بداية الثمانينات من القرن الماضي قد سمحت باستخدام الحمض النووي كمادة لتحديد هوية الفرد. إذ قدم جيفري جلاسبرج أول براءة اختراع متعلقة بالاستخدام المباشر لاختلاف الحمض النووي من أجل الأدلة الجنائية في عام 1983، بناءً على عمل قام به بينما كان في جامعة روكفلر عام 1981م. وفي المملكة المتحدة، طور عالم الوراثة السير أليك جيفريز بشكل مستقل عملية البصمة الوراثية بداية من أواخر عام 1984م، وذلك أثناء عمله في قسم علم الوراثة في جامعة ليستر.
ومن ثم، يثور التساؤل عما إذا كان جائزاً الاستعانة بتحليل البصمة الوراثية للتأكد من نسب الوليد. قد يسارع البعض للرد على ذلك بأن اللجوء إلى تحليل البصمة الوراثية غير جائز لنفي النسب، ويجوز فحسب لإثبات النسب. وفي اعتقادنا أن هذا القول على اطلاقه غير مقبول، ونرى من الأنسب القول بجواز بل وجوب اللجوء إلى تحليل البصمة الوراثية طالما كان اللعان جائزاً، بشرط موافقة الأم على ذلك. وتوضيحاً لذلك، نرى من الملائم إلقاء الضوء على اللعان في خطة التشريعات العربية. وفي هذا الصدد، وبالنظر لأن تاريخ ظهور تحليل البصمة الوراثية يعود إلى سنوات الثمانينات من القرن الماضي، وتحديداً في العام 1983م، لذا يبدو من المستساغ التمييز بين طائفتين من تشريعات الأحوال الشخصية في الدول العربية، هما: التشريعات السابقة على ظهور تحليل البصمة الوراثية أو على الأكثر صدرت معاصرة لهذا التاريخ، والتشريعات اللاحقة على ظهور تحليل البصمة الوراثية. ورغم أن القانون المصري لم ينظم أحكام اللعان، وسنفرد له جزءاً منفصلاً للحديث عنه، فإن هذا القانون يندرج ضمن التشريعات السابقة على ظهور تحليل البصمة الوراثية.
وعلى هذا النحو، نرى من الملائم تقسيم خطة الدراسة في هذا البحث إلى أربعة مطالب، كما يلي:
المطلب الأول: ماهية اللعان والسند الشرعي له.
المطلب الثاني: اللعان في التشريعات السابقة على ظهور البصمة الوراثية.
المطلب الثالث: اللعان في التشريعات اللاحقة على ظهور البصمة الوراثية.
المطلب الرابع: التشريعات العربية الخالية من حكم اللعان.
المطلب الأول
ماهية اللعان والسند الشرعي له
اللعان يكون عند قذف الزوج زوجته بالزنا أو الحمل أثناء العلاقة الزوجية، ولم يكن له أربعة شهود، ليثبت قوله. واللعان خاص بالزوج. أما إذا كان القذف أو الرمي بالزنا من غيره، ولو كانوا من أقرب الأقربين إلى الزوج، فلابد أن يثبت بأربعة شهود. فإذا كان ذلك متعذراً بالنسبة لهم، فإن الرمي بالزنا يتوافر به حد القذف المعاقب عليه بالرجم ثمانين جلدة.
وصور اللعان أن يشهد الزوج الملاعن أربع شهادات بالله بصدقه فيما اتهم زوجته به ثم يردفها بالخامسة بأن تكون لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين. ويتوجب على المرأة الملاعنة أن تلاعن أو يثبت عليها قول الزوج، وإن لاعنت فإنها تشهد أربع شهادات بالله بأنه من الكاذبين وفي الخامسة تدعو أن يكون غضب الله عليها إن كان من الصادقين. فإن تحقق اللعان، تثبت الحرمة المؤبدة بين المتلاعنين، سواء كان بينهما ولد أم لا.
وفيما يتعلق بالسند الشرعي للعان، فإنه قد جاء في الآيات السادسة والسابعة والثامنة والتاسعة من سورة النور، حيث يقول سبحانه وتعالى: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَداءُ إِلاَّ أَنْفُسُهُمْ فَشَهادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهاداتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (6) وَالْخامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كانَ مِنَ الْكاذِبِينَ (7) وَيَدْرَؤُا عَنْهَا الْعَذابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهاداتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكاذِبِينَ (8) وَالْخامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْها إِنْ كانَ مِنَ الصَّادِقِينَ.
المطلب الثاني
اللعان في التشريعات السابقة على ظهور البصمة الوراثية
لما كان تاريخ ظهور تحليل البصمة الوراثية يعود إلى سنوات الثمانينات من القرن الماضي، لذا يبدو من المستساغ أن تخلو التشريعات السابقة أو المعاصرة لظهور البصمة الوراثية من أدنى إشارة إلى جواز اللجوء إلى تحليل البصمة الوراثية في حالة اللعان. ولعل أبرز مثال على ذلك يكمن في القانون الكويتي رقم (51) لسنة 1984 في شأن الأحوال الشخصية. فوفقاً للمادة (176) من هذا القانون، وتحت عنوان «نفي النسب (اللعان)»، «في الأحوال التي يثبت فيها نسب الولد بالفراش في زواج صحيح قائم أو منحل، أو بالدخول في زواج فاسد أو بشبهة، يجوز للرجل أن ينفي عنه نسب الولد خلال سبعة أيام من وقت الولادة أو العلم بها، بشرط ألا يكون قد اعترف بالنسب صراحةً أو ضمناً». وتحدد المادة (177) من القانون ذاته المدة التي يجوز خلالها اللجوء إلى اللعان، بنصها على أن «يجب أن تتخذ إجراءات دعوى اللعان خلال خمسة عشر يوماً من وقت الولادة، أو العلم بها». أما الأثر المترتب على اللعان، فقد ورد في المادة (178) من القانون ذاته، بنصها على أنه «إذا جرى اللعان بين الرجل والمرأة، نفى القاضي نسب الولد عن الرجل، ولا تجب نفقته عليه، ولا يرث أحدهما الآخر. وألحق الولد بأمه». ويعالج المشرع الكويتي الحكم القانوني في حالة اعتراف الرجل بما يفيد كذبه في الاتهام. إذ تنص المادة (179) من القانون سالف الذكر على أنه «إذا اعترف الرجل بما يفيد كذبه في الاتهام، ونفي النسب، لزمه نسب الولد، ولو بعد الحكم بنفيه، وجاز له أن يتزوج المرأة». وهكذا، يبدو متصوراً أن يكون الرجل كاذباً في اتهامه، وأن يكون اللجوء إلى اللعان من قبله عملاً لا يجد له أساساً في الواقع، وقد يكون هدف الزوج من ورائه هو الإساءة إلى زوجته دون وجه حق. أما التكييف القانوني والشرعي للعان، فقد ورد النص عليه في المادة (180) من القانون ذاته، بنصها على أن «الفرقة باللعان فسخ».
وفي الإطار ذاته، وفي دولة الكويت أيضاً، ورغم أن قانون الأحوال الشخصية الجعفرية قد صدر بموجب القانون رقم 124 لسنة 2019م، أي في تاريخ لاحق على ظهور تحليل البصمة الوراثية، فإن هذا القانون قد ورد بدوره خلواً من الإشارة إلى تحليل البصمة الوراثية. بل إن هذا القانون ينص فحسب على أثر اللعان على الإرث، معتبراً إياه من موانع الإرث. إذ تحدد المادة (380) من هذا القانون موانع الإرث، مقررة أن اللعان من بين هذه الموانع. وتفصيلاً لهذا الحكم، وفيما يتعلق بالعلاقة بين الزوجين على وجه التحديد، تنص المادة (400) على أن «لا توارث بين الزوجين المتلاعنين». وفيما يتعلق بأثر اللعان على التوارث بين الأب وابنه، تنص المادة (401) على أن «لا توارث بين الأب وابنه الذي لاعن عليه بعد نفيه عنه إلا إذا أقر الأب به بعد إجراء عملية الملاعنة واستكمال شروطها، فيرث الابن من الأب ولا يرث الأب من الابن». وفيما يتعلق بالعلاقة بين الابن وأقارب أبيه الملاعن، وأثر اعتراف الأب بابنه بعد الملاعنة على ميراثه منهم، تنص المادة (402) على أنه «لو اعترف الأب بابنه بعد الملاعنة فلا يرث الابن أقارب أبيه الملاعن كجده وجدته لأبيه أو أعمامه وأبنائهم، ولا يرثه أقارب أبيه حتى لو وافقهم في إقرار أبيه ووافقوه». ولكن، وخلافاً لكل الحالات السابقة، وفيما يتعلق بالعلاقة بين الولد وأمه، وبالنظر لأن هذه اللعان لا يترتب عليه نفي النسب من هذه الناحية، فإن المادة (403) من قانون الأحوال الشخصية الجعفرية تنص على أن «لا يمنع اللعان عن التوارث بين الولد وأمه، وكذا بينه وبين أقاربه من قبل الأم».
المطلب الثالث
اللعان في التشريعات اللاحقة على ظهور البصمة الوراثية
إذا كان مستساغاً أن تخلو تشريعات الأحوال الشخصية السابقة على ظهور تحليل البصمة الوراثية من أدنى إشارة إلى هذه الوسيلة من وسائل إثبات النسب، فإن الأمر يبدو مختلفاً أو على الأقل ينبغي أن يكون مختلفاً فيما يتعلق بالتشريعات اللاحقة على ظهور البصمة الوراثية. وهكذا، وباستقراء العديد من تشريعات الأحوال الشخصية العربية اللاحقة على نهاية العقد التاسع من القرن الماضي، نجدها تشير بشكل واضح وصريح إلى الاستعانة بالطرق العلمية لنفي النسب، وذلك بمناسبة بيان أحكام اللعان. ففي الإمارات العربية المتحدة، على سبيل المثال، وطبقاً للمادة الخامسة والأربعين من القانون الاتحادي رقم (28) لسنة 2005م في شأن الأحوال الشخصية، «يحرم على الرجل التزوج بمن لاعنها بعد تمام اللعان». وتحدد المادة السادسة والتسعون من القانون ذاته آلية اللجوء إلى اللعان والتكييف القانوني له وأثره على العلاقة الزوجية، بنصها على أن «اللعان لا يكون إلا أمام المحكمة ويتم وفق القواعد المقررة شرعاً. الفرقة باللعان فرقة مؤبدة». وتحدد المادة السابعة والتسعون المدة التي تجوز خلالها الملاعنة، والأثر القانوني المترتب عليه، والحكم القانوني في حالة امتناع الزوجة عن اللعان أو عن الحضور، والحكم القانوني في حالة تكذيب الرجل نفسه بعد سبق اللجوء إلى اللعان، بنصها على أن «1 -للرجل أن ينفي عنه نسب الولد باللعان خلال سبعة أيام من تاريخ العلم بالولادة شريطة ألا يكون قد اعترف بأبوته له صراحةً أو ضمنًا، وتقدم دعوى اللعان خلال ثلاثين يومًا من تاريخ العلم بالولادة. 2 -إذا كان اللعان لنفي النسب وحكم القاضي به انتفى النسب. 3- إذا حلف الزوج أيمان اللعان وامتنعت الزوجة عنها أو امتنعت عن الحضور أو غابت وتعذر إبلاغها حكم القاضي بنفي النسب. 4 -يثبت نسب الولد المنفي باللعان بعد الحكم بنفيه إذا أكذب الرجل نفسه». أما البند الخامس من المادة ذاتها، فيخول «للمحكمة الاستعانة بالطرق العلمية لنفي النسب بشرط ألا يكون قد تم ثبوته قبل ذلك». وفيما يتعلق بأثر الملاعنة على الإرث، وبالنظر لأن اللعان لا يؤثر على نسب الطفل لأمه، لذا فإن المادة (358) تنص على أن «يرث ولد الزنا من أمه وقرابتها، وترثه أمه وقرابتها، وكذلك ولد اللعان».
وعلى هذا النحو، يجيز قانون الأحوال الشخصية الاتحادي لدولة الإمارات العربية المتحدة للمحكمة أن تستعين بالطرق العلمية لنفي النسب، بشرط ألا يكون قد تم ثبوته قبل ذلك. وتعليقاً على هذا النص، ورد في المذكرة الإيضاحية أنه «أجاز القانون للمحكمة اللجوء إلى الطرق العلمية لنفي النسب لكن قيد هذا الجواز بألا يكون النسب قد ثبت قبل ذلك بطرق الثبوت ومع مراعاة الفقرات السابقة من ذات المادة. ويبدو لنا أن المشرع قد جعل الاستعانة بالطرق العلمية قيداً على ترتيب أثر اللعان، بحيث يبقى النسب قائماً متى ثبت بالطرق العلمية نسب الطفل لأبيه الملاعن، وبحيث لا ينتفي النسب لمجرد الملاعنة.
وفي الإطار ذاته، وفي المملكة العربية السعودية، وطبقاً للمادة الثالثة والسبعين من المرسوم الملكي رقم (م/ 73) وتاريخ 6/ 8/ 1443هـ بالموافقة على نظام الأحوال الشخصية، «في الأحوال التي يثبت فيها نسب الولد بالولادة في عقد الزواج، فليس للرجل أن ينفي نسب الولد إليه إلا باللعان من خلال التقدم بدعوى، إذا توافر الشرطان الآتیان:
1- أن يتم تقديم الدعوى خلال (خمسة عشر) يوماً من تاريخ علمه بالولادة.
2- ألا يتقدم النفي إقرار بأبوته صراحةً أو ضمناً». والبين من هذا النص أن اللعان هو السبب الوحيد لنفي نسب الولد في حالة الزواج الصحيح أو الفراش، ويكون ذلك من خلال التقدم بدعوى، متى تم ذلك خلال خمسة عشر يوماً من تاريخ علم الأب بالولادة، وبشرط ألا يكون قد سبق ذلك النفي إقرار صريح أو ضمني بالأبوة.
وثمة إجراء يتعين على المحكمة اللجوء إليه قبل النظر في دعوى اللعان، وهو أن يتم فحص الحمض النووي، إذا وافقت المرأة على إجرائه. إذ تنص المادة الرابعة والسبعون من نظام الأحوال الشخصية السعودي على أنه «1- إذا رفعت دعوى لعان لنفي نسب الولد، فتنظر المحكمة فيها بعد إجراء فحص الحمض النووي بناءً على أمر المحكمة، إذا وافقت المرأة على إجرائه. 2- إذا لم توافق المرأة على إجراء فحص الحمض النووي، فتستكمل المحكمة النظر في دعوى اللعان بدونه. 3- يكون اللعان لنفي نسب الولد أمام المحكمة وفق الصيغة المقررة شرعاً، وإذا حلف الرجل أيمان اللعان وامتنعت المرأة عن أدائه، فتحكم المحكمة من دون أيمانها».
ولا يترتب على اللعان نفي النسب إلا إذا كان فحص الحمض النووي نافياً للنسب بين الزوج والوليد أو لم توافق المرأة على إجراء الفحص النووي. فوفقاً للمادة الخامسة والسبعين من نظام الأحوال الشخصية السعودي، «يترتب على اللعان – مع مراعاة نتيجة فحص الحمض النووي وفقاً لأحكام المادة (الرابعة والسبعين) من هذا النظام- انتفاء نسب الولد، ويثبت نسب الولد ولو بعد الحكم بنفيه إذا أكذب الرجل نفسه، ولا يقبل منه نفيه بعد ذلك».
ومتى تحقق اللعان بين الزوجين، تحصل الفرقة بينهما. إذ تنص المادة السادسة والسبعون من نظام الأحوال الشخصية السعودي على أن «تحصل الفرقة بين الزوجين في أي من الحالات الآتية: … 5- اللعان بين الزوجين».
وفي الإطار ذاته، وفي مملكة البحرين، يقرر قانون الأسرة، الصادر بالقانون رقم (19) لسنة 2017م، عرض الزوجين لتحليل البصمة الوراثية قبل إجراء الملاعنة لنفي النسب. بيان ذلك أن المادة السادسة والسبعين من قانون الأسرة، الصادر بالقانون رقم (19) لسنة 2017م، تقرر الأصل العام في جواز الملاعنة كسبب لنفي النسب، بنصها على أنه «في الأحوال التي يثبت فيها نسب الولد بالفراش في زواج صحيح، يجوز للرجل أن ينفي عنه نسب الولد بالملاعنة حسب الشروط المعتبرة شرعاً في اللعان، بشرط ألا يكون قد اعترف بالنسب صراحة أو ضمناً». وهكذا، يستفاد من هذا النص أن اللجوء إلى اللعان مشروط بألا يكون الرجل قد اعترف بالنسب صراحة أو ضمناً. ومتى تحقق هذا الشرط، ولجأ الزوج إلى الملاعنة، يتعين على المحكمة عرض الزوجين لتحليل البصمة الوراثية قبل إجراء الملاعنة. إذ تنص المادة السابعة والسبعون من قانون الأسرة البحريني على أن «يتم عرض الزوجين لتحليل البصمة الوراثية قبل إجراء الملاعنة لنفي النسب». ونرى أن نفي النسب لا يمكن أن يتم بمجرد الملاعنة. إذ ينبغي أن يكون تحليل البصمة الوراثية من شأنه انتفاء النسب بين الرجل والوليد. أما إذا كان تحليل البصمة الوراثية قد أتى في اتجاه وجود تطابق في البصمة الوراثية بينهما، فلا يسوغ التعويل على الملاعنة بمفردها في هذه الحالة، لتقرير انتفاء النسب. وهذا هو الرأي الذي نعتقد بوجوب العمل به، وذلك على الرغم من عدم النص على حكم هذه الحالة. إذ وردت المادة الثامنة والسبعين من قانون الأسرة البحريني خلواً من هذا التفصيل والبيان في الحكم، بنصها على أنه «إذا وقع اللعان، حكم القاضي بنفي نسب الولد عن الرجل، ولا تترتب عليه الآثار الشرعية». وفي رأينا أنه نسب الولد عن الرجل لا ينتفي إذا جاء تحليل البصمة الوراثية مؤيداً ومثبتاً للنسب. أما العلاقة الزوجية، فيمكن أن تتقرر الفرقة بين الزوجين بمجرد الملاعنة، أياً كانت نتيجة تحليل البصمة الوراثية. ولذلك، حسناً فعل المشرع البحريني بترتيب هذا الأثر للملاعنة فيما يتعلق بعقد الزوج، بحيث يُفسخ العقد باللعان، أياً كانت نتيجة فحص الحمض النووي أو البصمة الوراثية. إذ تنص المادة (115) من قانون الأسرة البحريني على أن «أ- يفسخ عقد الزواج إذا طرأ عليه ما يمنع استمراره شرعاً. ب- الفرقة باللعان فسخ».
وخلافاً لقوانين الإمارات والسعودية والبحرين، فإن تشريعات الأحوال الشخصية في كل من قطر وسلطنة عمان تجيز اللعان، دون أن تقرر اللجوء إلى فحص البصمة الوراثية، وذلك على الرغم من حداثة صدور قانون الأحوال الشخصية في هاتين الدولتين. ففي دولة قطر، وطبقاً للمادة السادسة والتسعين من قانون الأسرة، الصادر بالقانون رقم (22) لسنة 2006م، «يترتب على الملاعنة بنفي الحمل وفقًا لأحكام المادة (151) من هذا القانون، نفي نسب الولد عن الملاعن، ويثبت نسب الولد ولو بعد الحكم بنفيه، إذا كذب الرجل نفسه». وتحدد المادة (151) من القانون ذاته كيفية الملاعنة، بنصها على أن «اللعان هو أن يشهد الرجل أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين فيما رمى به زوجته من الزنا أو نفي الولد، والخامسة أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين، وتشهد المرأة أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين فيما رماها به من الزنا أو نفي الولد، والخامسة أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين». ومتى تم اللعان، تحقق أثره في إنهاء العلاقة الزوجية بالتفريق بين الزوجين فرقة مؤبدة، ويكون ذلك بقرار من القاضي. إذ تنص المادة (152) من قانون الأسرة القطري على أن «يفرق القاضي بين الزوجين بعد تمام اللعان فرقةً مؤبدة». أما فيما يتعلق بأثر اللعان على الإرث، وبالنظر لأن نسب الطفل لأمه يبقى قائماً، لذا فإن المادة (297) من قانون الأسرة القطري تنص على أن «يرث ولد الزنا، وولد اللعان من أمه وقرابتها، وترثه أمه وقرابتها».
وبدوره، فإن قانون الأحوال الشخصية العماني، الصادر بالمرسوم السلطاني رقم 32/ 97، قد ورد خلواً من أدنى إشارة إلى تحليل البصمة الوراثية، وذلك على الرغم من صدوره بعد أكثر من عشر سنوات على ظهور هذا التطور العلمي المهم. بيان ذلك أن المادة الثامنة والسبعين من قانون الأحوال الشخصية العماني تحدد صيغة اللعان، بنصها على أن «اللعان أن يقسم الرجل أربع مرات بالله أنه صادق فيما رمى زوجته به من الزنا والخامسة أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين وتقسم المرأة أربع مرات بالله أنه لمن الكاذبين والخامسة أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين». وتحدد المادة التاسعة والسبعون المدة التي يجوز خلالها اللجوء إلى اللعان، وهي شهر من تاريخ الولادة أو العلم بها، حيث تخول هذه المادة «أ– للرجل أن ينفي عنه نسب الولد باللعان خلال شهر من تاريخ الولادة أو العلم بها، شريطة أن لا يكون قد اعترف بأبوته له صراحة أو ضمناً وتقدم دعوى اللعان خلال شهرين من ذلك التاريخ. ب– يترتب على اللعان نفي نسب الولد عن الرجل، ويثبت نسب الولد ولو بعد الحكم بنفيه إذا أكذب الرجل نفسه». ومتى تحقق اللعان، ترتب عليه فسخ عقد الزواج. إذ تنص المادة (118) من قانون الأحوال الشخصية العماني على أن «أ– يفسخ عقد الزواج إذا اشتمل على مانع يتنافى ومقتضياته، أو طرأ عليه ما يمنع استمراره شرعاً. ب– الفرقة باللعان فسخ». ورغم انفساخ عقد الزواج بالملاعنة، وبالنظر لبقاء علاقة النسب بين الطفل وأمه، فإن ولد اللعان يرث أمه وقرابتها، شأنه في ذلك شأن ولد الزنا. فوفقاً للمادة (277) من قانون الأحوال الشخصية العماني، «يرث ولد الزنى من أمه وقرابتها، وترثه أمه وقرابتها، وكذلك ولد اللعان».
المطلب الرابع
التشريعات العربية الخالية من حكم اللعان
تخلو تشريعات الأحوال الشخصية في بعض الدول العربية من أحكام اللعان. ولعل أبرز مثال على ذلك يكمن في التنظيم القانوني للأحوال الشخصية في جمهورية مصر العربية. إذ لم ينظم القانون المصري أحكام اللعان. ومع ذلك، يبدو أن المشرع المصري يسلم بتطبيق أحكام اللعان كما وردت في الفقه الإسلامي. ودليلنا في ذلك هو المادة السابعة والأربعين من قانون المواريث المصري رقم 77 لسنة 1943م، بنصها على أنه «مع مراعاة المدة المبينة بالفقرة الأخيرة من المادة 43 يرث ولد الزنا وولد اللعان من الأم وقرابتها، وترثهما الأم وقرابتها». ويبدو أن هذا النظر هو ما رجح لدى محكمة النقض المصرية، حيث طبق القضاء أحكام اللعان استقاءً من احكام الشريعة الغراء. ففي أحد أحكامها، وبمناسبة نظر الطعن رقم 628 لسنة 71 قضائية، قضت محكمة النقض المصرية بأن «المقرر – في قضاء محكمة النقض – أن من الأصول المقررة في فقه الشريعة الإسلامية أنه يشترط في الرجل والمرأة معاً لإجراء اللعان أن يكونا من أهل الشهادة على المسلم وذلك بأن يكون كل من الزوجين مسلماً بالغاً حراً قادراً على النطق غير محدود في قذف، وعلى هذا لو كان الزوج مسلماً والزوجة كتابية لا يقام اللعان بينهما بما يدل على أن المناط في إجراء اللعان بين الزوجين أن يكون كل منهما مسلماً، وهو ما لم يتوفر في الدعوى إذ إن الثابت بأوراقها أن الزوج مسلم والزوجة مسيحية. لما كان ذلك، وكان الحكم المطعون فيه استند في قضائه برفض الدعوى إلى أن الزوج الطاعن لم يلاعن المطعون ضدها رغم كونه مسلماً وفاته أنه يلزم لإجراء اللعان أن يكون الطرفان الزوج والزوجة مسلمين فإنه يكون مشوباً بالخطأ في تطبيق القانون».
وفي حكم آخر، وبمناسبة الطعن رقم 311 لسنة 74 قضائية، قضت محكمة النقض المصرية بأن «من الأصول المقررة في فقه الشريعة الاسلامية أن النسب يثبت بالفراش وفى حال قيام الزوجية الصحيحة إذا أتى الولد لستة أشهر على الأقل من وقت الزواج وكان يتصور الحمل من الزوج بأن كان مراهقاً أو بالغاً ثبت نسب الولد من الزوج بالفراش دون حاجة إلى إقرار أو بينه. وإذا نفاه الزوج فلا ينتفي إلا بشرطين أولهما. أن يكون نفيه وقت الولادة، وثانيهما أن يلاعن امرأته فإذا تم اللعان بينهما مستوفياً لشروطه فرق القاضي بينهما ونفى الولد عن أبيه وألحقه بأمه، والأصل في النسب الاحتياط في ثبوته ما أمكن فهو يثبت مع الشك وينبني على الاحتمالات النادرة التي يمكن تصورها بأي وجه حملاً لحال المرأة على الصلاح وإحياء للولد. لما كان ذلك وكان المطعون ضده لم ينكر قيام الزوجية بينه وبين الطاعنة بتاريخ 25/ 2/ 1999م وأنها قد أتت بصغيرتها …… بتاريخ 20/ 10/ 1999 أي بعد ما يزيد على سبعة أشهر من وقت زواجها وكان يتصور الحمل منه ولم يقم بنفي نسب المولودة إليه عقب ولادتها مباشرة ولم يلاعن امرأته، ومن ثم فلا ينتفي نسبها منه وإذ خالف الحكم المطعون فيه هذا النظر وقضى بتأييد الحكم المستأنف فيما قضى به من نفى نسب الصغيرة إليه فإنه يكون قد خالف القانون وأخطأ في تطبيقه».
وهكذا، فإن أحكام القضاء المصري تسير في اتجاه تطبيق أحكام اللعان استقاءً من أحكام الشريعة الغراء، وذلك على الرغم من عدم وجود تنظيم تشريعي للملاعنة في القانون المصري. ورغم أن الكتابات الفقهية الشرعية تخلو من الإشارة إلى اللجوء إلى الوسائل العلمية قبل الملاعنة، ويبدو ذلك مفهوماً بالنظر لحداثة ظهور تحليل البصمة الوراثية والحمض النووي، فإن الأمل معقود في التجديد القضائي للخطاب الديني، من خلال عرض الزوجين على تحليل البصمة الوراثية قبل الملاعنة، متى وافقت المرأة على ذلك.