البيعة التي وقى الله شرها !
من تراب الطريق (1101)
البيعة التي وقى الله شرها !
نشر بجريدة المال الأربعاء 19/5/2021
بقلم: الأستاذ/ رجائي عطية نقيب المحامين
رأينا كيف أن « البيعة » على الخلافة، كادت أن تشعل حربًا بين المهاجرين والأنصار، وتلك لو حدثت لما قام للإسلام شأنٌ بعدها، فالمهاجرون والأنصار جناحا الدعوة الإسلامية، وركناها الركينان، فلا أحد يمكن أن ينكر فضل الأنصار، فبهم أمْن الإسلام وانطلق إلى العالم بعد أن كان والمسلمون مخنوقين في مكة وطواغيت الشرك فيها، ولا أحد يمكن أن ينكر فضل المهاجرين، فهم منشأ الدعوة، وعلى أكتافهم ومعاناتهم قانت، ثم إن الفضل بين هؤلاء وأولاء يمكن أن يكون بدوره موضوع خلاف.. مَنْ مِنْ المهاجرين أولى بالخلافة، ومَنْ مِنْ الأنصار ــ إذا قبل المهاجرون ــ أولى بالخلافة. رأينا الجواب على هذا السؤال فيما شجر وعُرف في تاريخ المسلمين بالفتنة الكبرى.
لذلك قيل بحق، إن مبايعة أبى بكر كانت الحل الذي حفظ الإسلام من شر هذه البيعة، والذي لا شك فيه أن مكانة أبو بكر وسنه وفضله ومناقبه، كانت على رأس أسباب فض الفتنة التي أوشكت على الاضطرام، ولكن الذي لا مراء فيه أيضًا أن موقف أبى عبيدة
بن الجراح، وعمر بن الخطاب، كان سببًا قويًّا في مرور البيعة بسلام.. ليس فقط لأنهما نَحَّيَا نفسيهما، وإنما أيضًا لما في هذا التنحي من إقرار وشهادة لأبى بكر بالأسبقية والريادة، مما حدا أن تمضي البيعة بسلامٍ وقى اللهُ المسلمين من شرها.
تحدث الرواة بما جرى في ذلك اليوم بسقيفة بنى ساعدة، ذلك أنه وقد ارتفعت الأصوات، وكثر اللغط، وأشفق عمر بن الخطاب من الاختلاف، سارع فقال لأبى بكر: « ابسط يدك أبايعُك، فبسط يده فبايعه عمر وهو يقول: « ألم يأمرك النبي بأن تصلى أنت بالمسلمين ! فأنت خليفته، ونحن نبايعك فنبايع خير من أحب رسول الله منا ». مست هذه الكلمات قلوب المهاجرين من المسلمين، فلما بايع عمر وبايع أبو عبيدة، بايع المهاجرون ثم بايع الأنصار، وجلس أبو بكر بالغد من ذلك اليوم على المنبر بالمسجد النبوي حيث بايعه من لم يحضروا السقيفة بأمس. وأورد ابن عساكر في تاريخ دمشق ـ رواية عن الحافظ عن أبى بكر أنه قال ( يوم سقيفة ) لأبى عبيدة: « هلم أبايعك فإن رسول الله عليه الصلاة والسلام
يقول: إنك أمين هذه الأمة، فقال أبو عبيدة: « ما كنت لأتقدم رجلًا أمره رسول الله عليه الصلاة والسلام أن يؤمّنا فأمّنا حتى قبض ».
وقيل في بعض الروايات، إن على بن أبى طالب أبطأ في البيعة، وقيل إن أبا عبيدة بن الجراح توجه إلى على فأدار معه حديثًا لينًا رقيقًا لم يغفل فيه مكانة علىّ ودينه وسابقته ونسبه وصهره وفضله، وأن دوره قادم، وقيل إن عليًا أكبر وفادته، وأبدى أنه لن يرى منه إلاَّ ما يسر، ولن يرى أبو بكر إلاَّ ما يرضيه.
ومع أن هذه الرواية تتفق مع ما عرف عن أبى عبيدة من نصح ورفق ودماثة ولين، وما عرف عن الإمام على من فضائل، إلاَّ أن الدكتور طه حسين يتشكك في كتابه: « الشيخان » في رواية من قالوا إن عليا أبطأ في البيعة، وأبدى الدكتور العميد أن ما يرجحه، ويوشك أن يقطع به، أن عليَّا والعباس كانا مشغولين بتجهيز النبي عليه الصلاة والسلام حين بويع لأبى بكر، ويرى الدكتور طه حسين أن الرواة خلطوا بين واقعتين مختلفتين ميقاتًا وظرفًا: الأولى بيعة علىّ لأبى بكر، ويرى الأستاذ العميد أن عليًا لم يبطئ فيها. أما الواقعة الثانية التي وقع الخلط بسببها، فهي ما كان من مغاضبة فاطمة لأبى بكر في ميراث النبي عليه السلام، واحترام علىّ لشعورها حتى ماتت.
على أنه أيًا كان الأمر في شأن توقيت وظروف بيعة الإمام علىّ، فإن ما رأيناه يوم الهول الأعظم بانتقال رسول الله عليه الصلاة والسلام إلى الرفيق الأعلى، وما جرى من أحداث في سقيفة بنى ساعدة، يطلعنا على أهم جوانب عبقرية هذا الأمين أبى عبيدة بن الجراح، من حكمةٍ وعقل، وحلمٍ ودماثةٍ ورفق، وإنكارٍ للذات يجل عن كل وصف.. رجل تأتيه الخلافة مرتين في يوم واحد، فيأباها لما يرى أنه أصلح للجماعة، وأقدر على القيام بشئونها، ولا تحدثه نفسه في صدارة تطمح إليها معظم النفوس، ولا تغريه وجاهة ولا إمارة، فيعتب بشدة على عمر، حتى قال له: « ما رأيت لك فهةً قبلها قط منذ أسلمت ! أتبايعني وفينا الصديق وثاني اثنين ». ثم يأبى على أبى بكر نفسه، ويقول له: « ما كنت لأتقدم رجلاً أمره رسول الله عليه الصلاة والسلام أن يؤمنا فأمنا حتى قُبض ».. ثم تكون حكمته وحلمه ورفقه ودماثة عبارته ـ بمثابة البلسم الذي نزل على الأنصار بردًا وسلامًا، فهدأت به النفوس، وأشرقت عليها لوامع ما بداخلها من إيمان كادت الثورة أن تشوش عليها، لولا حكمة وعقل هذا الأمين الذي دلت جميع مواقفه أنه يؤثر في الأحداث، ولا تؤثر فيه ما جرت عليه مطامع الناس !