الانتحار في القانون الجنائي
بقلم الدكتور/ أشرف نجيب الدريني ـ دكتوراه في القانون الجنائي
الانتحار، هو اعتداء من الشخص على حياته، بينما القتل، هو كل اعتداءٍ يصدر عن إنسانٍ على إنسانٍ آخر يترتب عليه إزهاق حياته، وترتيبًّا على ذلك لا يُعد الانتحار جريمة وفقًا للمشرع المصري والتشريعات الحديثة. وقد يتبادر للأذهان مجموعة من التساؤلات بشأن (الانتحار)، ولا نَملك أن نكتب (جريمة الانتحار) ومَرد ذلك أن المشرع المصري لا يعاقب على الانتحار أو الشروع فيه.
التساؤل الأول: هل هناك عقاب على الشروع في الانتحار؟ فالإجابة قطعًا لا، حيث أخرج المشرع الفعل من دائرة التجريم بالتالي الشروع لا يعتبر بدءًا في التنفيذ، وفلسفة ذلك أن المشرع قدر عدم جدوى التهديد بالعقاب لمن هانت عليه حياته، كما يُسهم عدم العقاب على الشروع في التشجيع على العدول، ومن جانبي أؤيد موقف المشرع المصري في هذا الصدد.
التساؤل الثاني: هل هناك عقاب على الاشتراك بالتحريض أو المساعدة في الانتحار؟ فالإجابة قطعًا لا، وذلك تطبيقًا للقواعد العامة في المساهمة الجنائية التي تتطلب أن يكون الاشتراك في فعل يُعد جريمة، ولما كان الانتحار غير مؤثمٍ فلا عقاب على الاشتراك فيه.
وهنا يختلف موقف المشرع الفرنسي، حيث عاقب على التحريض كصورةٍ من صور الاشتراك، وذلك في المادة 14- 223 من قانون العقوبات الفرنسي، (يعاقب كل من حرض غيره على الانتحار بالحبس ثلاث سنوات وبغرامة قدرها 45000 يورو إذ ترتب على هذا التحريض الانتحار أو الشروع فيه) وقد قضت محكمة النقض الفرنسية بتوافر الركن المادي والمعنوي للتحريض على الانتحار في حق مؤلف كتاب” دليل الانتحار” Suicide, mode d’emploi الذي طلب منه أحد قرائه بأن يمده بمعلومات عن أفضل طرق الانتحار والجرعة المميتة من دواء معين، فأرسل إليه خطابًا يحتوي على هذه المعلومات فانتحر مستعينًا بها. Crim. 26 avril 1988: Bull. Crim., n 178.
وهذا يقودنا إلى تساؤل ثالث: متى يتحول دور الشريك في الانتحار إلى فاعل أصلي في جريمة قتل؟ إذا تجاوز سلوكه دائرة الاشتراك فيرتكب فعلًا يرقى إلى مستوى البدء في تنفيذ القتل، كمن يضع له سُمًا في الطعام، أو أن يضع حبلًا حول عنقه لشنقه، أو كمن يطلق النار على شخص يرغب في الانتحار… وقد يتحول الشريك إلى فاعلٍ إذا أمكن اعتباره فاعلًا معنويًا للانتحار، وهي أن يكون المنتحر في يده بمثابة أداة لنقص إدراكه وانعدام اختياره، كمن يغري مجنونًا للامساك بسلكٍ يسري فيه التيار الكهربائي، أو بالقفز من مكان مرتفع… وهي صورة من صور الفاعل الأصلي، وفقًّا لمحكمة النقض المصرية، ولم ترد في صور الفاعل الأصلي المادة 39 من قانون العقوبات المصري.
وهنا قد يتساءل البعض هل يجوز تطبيق (نظرية الفاعل المعنوي) على حالات الانتحار التي تحدث تحت وطأة التهديد والابتزاز والتشهير والتنمر الإلكتروني أو Deep Fake التزييف العميق بواسطة الذكاء الاصطناعي؟
لا مناص من أن الآونة الأخيرة كانت حُبلى بالعديد من حالات الانتحار من جانب بعض الفتيات، وبالفحص والبحث تبين أن الدافع للانتحار كان الخوف من مواجهة المجتمع سواء كان الفعل حقيقيًّا أم مزيفًّا، فهناك ضحايا لا تملك حُسن التصرف في تلك الوقائع حيث تقع فريسة أو صيد سمين، تحت يد الفاعل المعنوي والذي ينهال عليها بالتهديد والتشهير والابتزاز والوعد والوعيد، فتنعدم إرادة الضحية تمامًّا، وتصبح كأداة يُحركها كما يشاء، دون رقيبٍ أو حسيبٍ، وينتهي الأمر بالانتحار للتخلص من الضغط النفسي والعصبي والرعب من مواجهة المجتمع جراء تنفيذ التهديد أو الابتزاز الواقع عليها.
وبصدد هذه الحالة ووفقًّا للمشرع المصري، لا يعاقب المتهم على جريمة قتل، بل يقف الأمر عند العقاب على التهديد والابتزاز أو التنمر. ومن جانبي أرى أنها جريمة قتل مع سبق الإصرار والترصد لِمَ تحمله من خسة ودناءة وانحطاط أخلاقي، فإذا كانت جريمة القتل من جرائم القصد الجنائي الخاص، المتمثلة في نية إزهاق روح المجني عليه.
فالمتهم في مثل هذه الحالة يعدم إرادة الضحية بحيث لا يدع اختيار غير الانتحار، للهروب من مواجهة التشهير والتهديد والابتزاز وملاحقة العار بين أفراد المجتمع، فالنية متوافرة والقصد الجنائي وارد ويمكن لمحكمة الموضوع أن تستخلصه، علاوة على أن علاقة السببية بين السلوك والنتيجة الإجرامية قائمة ومتكاملة كركنٍ ماديًّ للجريمة، وإن لم تطأ قدماي الفاعل مسرح الجريمة، إلا أن مسرح الجريمة قد انتقل إلى الشبكة العنكبوتية من خلال تطبيقات التواصل الاجتماعي التي تم استخدامها في التهديد والابتزاز، وأدت إلى الانتحار كنتيجةٍ لمجموعة الأفعال المشكلة للسلوك الإجرامي.
ومن جانبي أهيب بالمشرع المصري والسادة القائمين على القانون والمجتمع المدني وأرباب الأسر، ببحث سبل الحد من هذه الظاهرة التي تمثل نشازًا على مجتمعاتنا.