الابتلاء بالمِنَح والخيرات والنعم
الابتلاء بالمِنَح والخيرات والنعم
نشر بجريدة الوطن عدد الجمعة 20/8/2021
بقلم: الأستاذ/ رجائي عطية نقيب المحامين
هذا شطر من مقال قديم نشر في 6/10/2018، شاءت الأقدار أن أتأمل فيه؛ وأعاود طرحه لبيان معنى ومرامى الابتلاء، ليفهم من لا يفهم ومن لا يريد أن يفهم، وأول ما يتوجب فهمه أن الابتلاء هو الامتحان والاختبار، وأن من سنن الله تبارك وتعالى أن يبتلى أي يمتحن عباده بالنقيضين، بالشر والخير، فكما يبتلى أي يمتحن، بالمحن والصعاب والنوائب والملمات، فإنه عز وجل يبتلى أيضاً أي يمتحن بالمِنَح والخيرات والنعم.
والدنيا لا تنقطع فيها الحادثات والاحتمالات، بين هذه وتلك، بيد أن الناس يتفاوتون في استقبال ما يبتلون فيه أي يمتحنون فيه من الشرور والصعاب، أو من المنح والخيرات والنعم، تبعاً لإيمانهم وشمائلهم وسجاياهم قد يستقبل الصعاب والنقم والأزمات بالصبر والجلَد والثبات، أمَّا المنح والخيرات والنعم فقد يستقبلها البعض بالبطر والغرور والتباهى بها، مثلما حصل من قارون فيما روته سورة «القَصص» بالقرآن الكريم.. كان من قوم موسى عليه السلام فآتاه الله كنوزاً تنوء بحملها العصبة من الرجال، ولكنه بغى وتجبر، فنصحه العقلاء من قومه بألاَّ يفرح بما آتاه الله، وليبتغ به وجه الله والدار الآخرة، فيأخذ نصيبه من الدنيا ويحسن كما أحسن الله إليه، ولا يبغى في الأرض فساداً فإن الله تعالى لا يحب المفسدين.
بيد أن قارون أعماه التيه والغرور والغطرسة، ولم يدرك أن هذا الثراء ابتلاء ليرى الله تعالى كيف سيتصرف فيه، وجعل يقول لناصحيه إن ما أوتي إياه كان بفضله وجهده هو وقدرته، وأصبح «فخرج على قومه» مغتراً مزهواً متباهياً في زينته، فخسف الله به وبداره الأرض ولم يجد لنفسه نصيراً ولا سنداً، وهكذا كان ثراء قارون فتنةً له، أدت به إلى التجبر وعصيان الخلصاء من قومه، فباء بغضب الله لسقوطه في ابتلائه إياه بالنعم والخيرات.
قد يكون الخير فتنة، والفتن ابتلاء واختبار.. وفي ذلك يقول تعالى: «وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ « (الأنبياء 35).. وكان نبي البر والرحمة عليه الصلاة والسلام يستعيذ بربه من «فتنة الغنى» ويقول في دعائه: «وأعوذ بك من فتنة الغنى»، ونحن نرى في الحياة «عفة المستغنى» مقابل «فتنة الغنى»، وهذا هو معنى وغاية الابتلاء.. من الناس من يرضَى فيُرضى ربه، ومنهم من يسخط أو يفترى فيبوء بغضبه عز وجل.
فالله تبارك وتعالى كما يرحم ببلائه، فإنه يبتلى ويختبر بنعمائه؛ ليبلو عباده هل يشكرون أم يطغون بالنعماء والغنى. الاستغناء بالمال والوجاهة وغيرهما من النعم، يسلس إلى البطر والطغيان. يقول جل شأنه: «كَلاَّ إِنَّ الإنسَانَ لَيَطْغَى * أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى» (العلق 6، 7).
وهناك من يُبتلى بالخير، فيشكر ربه على ما آتاه. هذا الشكر ليس مجرد شكر باللسان، وإنما هو عرفان وامتنان بالقلب. وما دام صادقاً نابعاً من القلب فسوف يصادقه عمله، فلا يتجبر بما أوتى من خيرات، ولا يزهو ولا يغتر، ويدرك أن للمال الذي بيده وظيفة اجتماعية، يُبْتلى كيف نهض بها براً وعطاءً وإنفاقاً في الخيرات، واتخاذها سبيلاً للإصلاح والعمار.
قال بعض السلف الصالح:
«احذر إذا رأيت الله يتابع عليك نِعَمَهُ وأنت مقيم على معاصيه!».
وقال بعض العارفين:
«رب مستدرج بنعم الله عليه وهو لا يعلم،
ورب مغرور يستر الله عليه وهو لا يعلم،
ورب مفتون بثناء الناس عليه وهو لا يعلم»!
يروى لنا القرآن الكريم، أن ثعلبة بن حاطب، جعل إثر إسلامه يدعو ربه ويطلب السعة والثراء، ويطلق الوعود، ويقول لأصحابه: «أُشهدكم الله، لئن آتاني الله من فضله، آتيت منه كل ذي حق حقه، وتصدقت، ووصلْتُ القرابة!».
فلما رزقه الله تعالى، وزادت ثروته وأغنامه، وابتلى بهذه النعمة، إذ به ينقلب على عقبيه، ويمسك عن الصدقة الواجبة عليه، ويتعلل بالعلل حتى لا يؤديها، ويرد كل من أتاه رداً جحوداً لا شكر فيه على ما امتن الله تعالى به عليه.
في أمر سقوطه في ابتلائه بالنعم والخيرات، نَزَل قول الحق جل وعلا:
«وَمِنْهُم مَّنْ عَاهَدَ اللّهَ لَئِنْ آتَانَا مِن فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ * فَلَمَّا آتَاهُم مِّن فَضْلِهِ بَخِلُواْ بِهِ وَتَوَلَّواْ وَّهُم مُّعْرِضُونَ * فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقاً في قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُواْ اللّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُواْ يَكْذِبُونَ * أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَنَّ اللّهَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ « (التوبة 75 78).
من لا يفهم مرام الابتلاء بالخيرات والنعم، لا يفهم أن الله سبحانه قد استخلف من أنعم عليه واستخلفه في المال، لا ليتجبر أو يتغطرس به، وإنما لأداء الوظيفة الاجتماعية المستخلف فيها. الانشغال ببهجة المال وقوة الثراء، يصرف الهم إلى اكتنازه والتعاجب به، وينحرف عن الوظيفة الاجتماعية التي يجب عليه أن يسخره فيها، ولا يفهم أن الابتلاء بالمكانة يعادل الابتلاء بالخيرات والنعم، واجب المبتلى بها أن يحسن التصرف فيما يصدر فيه عن هذه المكانة.. بوصلته ضميره.. لا يشعر بوطأة الابتلاء بالنعم والخيرات إلاَّ ذوو الضمير الحى.. فهو كالحارس الذي ينبهه في كل تصرف أو سلوك، هل يرضى ربه وإنْ أغضب الناس، أم يرضيهم بسخط ربه.. فنرى صاحب الضمير الحي اليقظ يُرضى ربه مهما غضب لذلك بعض الناس، ولا ينزلق إلى إرضاء الناس بغير حق فيخسر دينه ويخسر ربه ويبوء بغضبه وعذابه. يجد منارته في حديث رسول السماء عليه الصلاة والسلام: «من أسخط الناس في رضاء ربه رضى الله عنه وأرضى عنه من أسخطه في رضاه. ومن أرضى الناس بسخط ربه، سخط الله عليه وأسخط عليه من أرضاه بسخط ربه». لذلك كان الابتلاء بالخير والنعمة أصعب امتحان يواجه الذي يمتحنه ربه بخيراته ونعمه.
لم يكن ما حدث من قارون، وما حدث من ثعلبة بن حاطب، سوى دليل على الطغيان بالمال، والانحراف به عن غايته، ويؤكد أن الله كما يبتلى بالشدائد، يبتلى أيضاً بالنعم والخيرات. وأن أمثال هؤلاء كمن يعبدون الله على حرف، مآلهم في النهاية إلـى خسـران مبين. يقول الله تعالى: «وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ» (الحج 11).
للابتلاء بالخيرات والنعم، غاية حميدة، حدَّثنا القرآن الكريم عنها فقال: «لاَّ خَيْرَ في كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتَغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً».