الإنسان واللغات

من تراب الطريق (1034)

الإنسان واللغات

نشر بجريدة المال الأحد 7/2/2021

بقلم: الأستاذ/ رجائي عطية نقيب المحامين

استعداد الآدمي للغات جزء هام لا يتجزأ من حياته.. يبدأ في الظهور من عامه الأول بلسان محيطه ــ أساسًا لحياته في ذلك المحيط ولانتقاله منه إلى غيره ليحمل ما أمكنه جمعه منه مما يوجه ويعين ويدير ذاته في حاضرها وقابلها.. هذه اللغة لا تكف عن الإعانة والتدبير، ولا تكف عن الانتقال من خارج الآدمي إلى داخله ومن داخله إلى خارجه ما عاش يقظة أو صراعًا أو ندمًا أو العكس تبعـًا لما يتحرك فيه من فكر أو عزيمة أو عاطفة . ولا تلبث اللغة أن تنقل ما حمله الآدمي إما في الخفاء وإما في العلـن الذي قـد لا يلبث حتى ينسى، أو قـد يذاع وينتشـر ويذكره ويتذكره الكثيرون.. وهذا كله في كف القدر لا تحكمه ضوابط فعالة.. قد تسجله الكتب وينساه الناس، وقد توقظه القالة بعد سنين من النسيان . فأحوال البشر لا تثبت على حال واحدة قط ودوام الحال من المحال كما يقولون . ونحن لكثرة ما نتكلم في كل وقت تقريبًا ـ ننسى أننا نحرك اللغة قولاً أو قراءة أو كتابة، وننسى أن كل لغة لغة جماعة من الجماعات، وليست لغة جميع البشر.. وأما اللغات العامة التى ما زالت حية كالعربية والإسبانية والبرتغالية والفرنسية والإنجليزية التى امتدت من بلادها الأصلية إلى غيرها بالفتوح ثم اختلفت عادات تلك البلاد المفتوحة بالانعزال وتوالى القرون.. وما زال هذا الاختلاف ماضيًا في سيره حتى الآن.. فلم تعد لغتها المحلية مطابقة للغة بلد الأصل ولا لنظرائها من لغات بلاد تلك اللغات العامة على أرضها وبزمانها هي وفي نطاق ما تعارفنا عليه من اصطلاحات قديمة أو حديثة.. فما نظن أننا نعلمه بيقين من لغاتنا أو من غيرها ـــ نسبى وموضوع مراجعة دائمة . وهذا عام فيما يبدو في كل بشريتنا الواعية.. لأن بشريتنا مبناها الاعتقاد أو التصديق أو التشكك أو الإنكار الذي قد يوجد ويزول ويتعرض دائمًا للمناقشة وأحيانًا غير قليلة للخلاف . فبشريتنا أصلاً قلقة.. يزيد في قلقها التهاون والكسل وعدم المبالاة وقلة الاهتمام بالالتفات واليقظة، والاعتياد على الاعتماد على الصدف والحظ وعلى معونة الآخرين ووجود المساعدة في الأزمات.. وهذه مألوفة وليست نادرة، لكنها بيقين ليست فعالة ولا محققة في معظم الأحوال والمناسبات.. ومن ثمً كان ودام وجود الفقر والفاقة.. لا ينقطع وجودهما وتعاستهما في كل الجماعات البشرية إلى يومنا هذا بنسب تتناقص وتتزايد بحسب موجات الرواج والكساد.. هذه الموجات التي يستحيل ضبط حركاتها في عالم عسير الانضباط.. خاصة كلما اتسع فرصًا وامتدادات وفروقًا لا يمكن أن تخفيها المحاكاة الوقتية المتغيرة القصيرة الأجل لسطحيتها المألوفة بين سواد الناس !

والسؤال الذي يطرح نفسه على الأفراد بين آن وآخر في كل جماعة بشرية ـــ هو ما الذي تخفيه المقادير التي لا تكف عن إزعاجها له أو لهذا أو ذاك ممن يعــرفه.. بعيدًا كان أو قــريبًا.. قلـما تخلو نفس من إزعاج ذلك الطارئ، وقلما تعنى بالالتفات إليه وإحسان الإجابة عليه.. ونحن نعمد إلى تجاهل ذلك الطارئ لكى ننساه ونمضى في سيرة حياة كل منا في ظل هذا التجاهل الذي درجنا عليه نحن وآباؤنا وآباؤهم من أول الدهر!.. لا نبالى بذلك التجاهل المسكوت عنه المتفق عليه المسلم به المشترك بين البشر وبين الحيوان.. هذا التجاهل الذي يجمع بينهما باتفاق في نهاية المطاف كما يجمع بينهما في البدايات ويجعل حياة الأحياء بأسرها عبثًا خاليًا من غرض باق.. وإنما حركة يتلوها سكون لا آخر له ولا نهاية، وضجيج ينتهى بصمت شامل دائم لا يحرك ولا يتحرك، وخلاء خالٍ خاوٍ لا شىء فيه يمكن أن يشهده أو يتصوره عقل آدمى أو حس لكائن حى يبتلعهما الفناء إلى غير كرة أو رجعة مما يستحيل أن يراه كائن أو يمكن أن يرصده موجود من خارجه أو من داخله إن أمكن أن يكون له داخل!

فالحركة الكونية لابد دائمة لا تتوقف ولا تنقطع قط.. وما نراه هنا في دنيانا من توقف أو انقطاع فلكى دائر في الأفلاك يتصل على نحو آخر بالمقدور هناك.. ما ينفع أو يتوقف أو تتغير معالمه وتتبدل وتتطور وتتقدم وتتأخر في أنظار المخلوقات ــ ليست إلاّ ظواهر لتلك الحركة الكلية والله تعالى أعلم .

زر الذهاب إلى الأعلى