الإنسان والكون والحياة

الإنسان والكون والحياة

نشر بمجلة الدبلوماسي عدد مايو ـ يونيو 2021

بقلم: الأستاذ/ رجائي عطية نقيب المحامين

ما من آدمي إلاّ وهو مشدود إلى ذاته، يفكر من هو ؟، وكيف كان ؟ وإلام سيكون ؟! ما موضعه في هذا الكون المعجز للأفهام ؟ وما سبيله في هذه الحياة التي يأتيها غير مخيّر ويغادرها في أجل محتوم ؟!

حـول الإنسـان، والكـون، والحيـاة، تدور خواطر تشغـل الآدمي العاقـل حيث كان.. الإنسان مجهول إلى ذاته، يريد بمعرفـة نفسـه أن يلتحم مع حاضره وأن يستشرف مستقبله، وأن يكون لحياته معنى.. إن حياة الأحياء ومن بينها البشر، نظام كونى إلهي جليل جداً، يجمع بين شدة البساطة وشدة التعقيد والتركيب.. مهما بدا لنا من المعرفة والفطانة والذكاء، فإننا لا نرى ما يحفل به الكون والحياة إلاّ من ثقب ضئيل جدا.. شديد الضآلة، ومن زاوية بالغة السطحية !

فهل نستطيع فهماً أعمق للإنسان، والكون، والحياة ؟

يبدو أن « الآنا » هي أول ما شعر به الإنسان الأول، ثم تعددت مشاعره وتساؤلات كلما واجه الحياة وما فيها من أسرار وأخطار ومطالب لا يستغنى عنها حي..

على أن الشعور بالآنا ــ أي بالذات ــ طبيعي أن يصاحبه شعور بالغير، قبولا كان أو رفضًا أو عداء لها.. وهذا الشعور يكاد في عمومه يساوى قدرتنا على التخيل والتصور والظن، فهو يتسع لكل من ينتسب إلى الذات بالدم أو بالنسب أو بالخدمة والتبعية أو بالزعامة أو القيادة أو الرعوية حيال الآدميين الآخرين، كما يضاف إلى الذات ليزيد من حجمها لدى وعيها ـ ما تملكه أو تحوزه أو تسيطر عليه أو تتصرف فيه أو تديره أو تتولى أمره من المرافق والمنافع والسلطات والممتلكات والأموال، وبالعكس فإن هذا الشعور بالأنا قد يضيق وينكمش بل ينحسر ويتضاءل ويتفه حتى تكاد الأنا تفقد كل قيمة لها في عين نفسها فتتسول لقمتها وتنام في العراء أو في الخرائب !!

أما غير الأنا، فعبارة عامة بالغة الاتسـاع تشمل كل ما لا ينحصر في ذات الآدمي.. تعبر أولاً عن الخالق عز وجل، وتعبر أيضا عن هذا الكون العظيم وكل ما فيه من حي وغير حي.. كبير أشـد الكبر أو صغير أدنى صغر، يدخل ضمن ذلك كل ما هو « غير الأنا » إذا تحدثت أو فكرت أو عبرت أو غيرت !

فاعتراف « الأنـا » بحياة غيرها من الآدميين ـــ اعتراف بكائن « خارج » « الأنا » أي خارج النفس، لا يحيا بحياتها ولا يموت بموتها.. اعتراف « الأنا » بغيرها هو من قبيل الاعتراف بوجود النهار وانتهائه وشروق الشمس واحتجابها ورؤية إنسان واختفائه.. والفوارق بين بعض هذه الاعترافات وبعض ـ هو ما يبقى في وعى وذاكرة وعاطفة الحي منا من سيرة وذكريات مصحوبة بعواطف أحداث وتجارب مضت ـ وتركت آثارهـا داخلنا.. قـد ننتفع ببعضهـا، وقد نأسى ونحزن منها، وقد نشعر أحيانا بارتياح لها، وقد ننساها تماما، وقد لا نبالي بها ابتداء وانتهاء لأننا لا نتأثر بها على الإطلاق، وهو ما يقع لكل منا في أغلب الأحيان عندما يرى أو يسمع بما يحدث لمن لا يعرفه أو من لا تربطه به رابطة وذلك في غير الفظيع والمفجع أو الفكاهي المضحك أو الغريب العجيب !!

كان الأصل في البشر هو ألاً يعيشوا إلا معاً في جماعات، وهو أصل يحتوي ويشمل حتما فردية كل أفراد الجماعة برغم إحساس كل منهم بذاته وفرديته وبالاختلاف الضروري الناشئ عن ذلك الاختلاف في الشعور بالذات. ويبدو أن هذا أصل كلى جامع يجمع مفرداته أي أفراده في قدرات وخصائص عامة مشتركة دائبة مستمرة، يخالفها بعض الأفراد أحيانا قليلة أو كثيرة في قلة أو في كثرة، وتلك القدرات والخصائص العامة أقوى وأطول أعمارا من تلك الخلافات والاختلافات ومضاعفاتها المتمثلة في الاضطرابات والتمردات والقلاقل والفتن التي قـد تجرى داخل هذه الجماعة أو غيرها، إذ تلك الأحداث لا تخرج عن كونها عبارة عن عوارض تجرى وفق عواملها لا وفق تخيلاتنا، وتحدث آثارها تبعا لدرجة قوتها أو نضجها وليس وفق تخيلات أو تصورات أو ظنون أفراد البشر الذين من المحال أن يجتمعوا على رأى واحد أو نظر واحد أو أسباب واحدة !!

فالجماعات البشرية يصاحبها من بداياتها اختلاف أفرادها إلى شراذم وفرق وطوائف، وأبناء بلاد وأحياء وقرى ونجوع، ولتكوّن باستمرار مجاميع أصغر وأصغر كما تكوّن مجاميع أكبر وأكبر، وذلك بحسب نوع الرابطة التي تربط المتمسكين بها من الأفراد.

وكما تضم الجماعة البشرية عديداً من الأفراد مختلفين وأحيانا متعادين، تضم في نفس الوقت جماعات من الأفراد تندرج من كبراها إلى صغراها نزولاً أو من صغراها إلى كبراها صعودًا.

ومكمن ما يعيب الجماعات، هو ما ينشأ ثم يتسع بين أفرادها من الاختلاف أو التنافس وتضارب الرغبات والمشتهيات، وتتحول هذه وتلك إلى عداوات حين ينتفي وجود القادرين على كبح جماح الأفراد أو المجموعات، وردها على أعقابها.. هنالك تتجمع أسباب وأمارات أكيدة لخراب عاجل يدفع ثمنه المحسن قبل المسيء والشريف الفاضل قبل الوغد ويقتضي علاجه في الجماعة عشرات السنين، ربما كان في مقدورها تفاديها لو التفت الملتفتون وتنبهوا حين كان ذلك مجديا نافعاً.!

أما الصدام المسلح أو الحروب بين الجماعات، فظاهرة بشرية لم تنقطع قط في دنيا البشر منذ وجود الشعوب والأمم والأجناس وشعور الآدميين بضرورة الانتماء لواحد منها، وانحياز وتعصب أهل كـل جماعـة للمجموع الذي ينتمي إليه، سـواء سمى شعبا أو أمـة أو مملكة أو سلطنة أو إمارة أو جمهورية أو دولة أو ولاية أو اتحاد دول أو ولايات يرفع علمه ويعتز برعويته إليه ظاهرا أو باطنا إن كان صادقا.

وبين الحروب والثورات والفتن الداخلية قرابات، أهمها اللجوء إلى استعمال السلاح والغلو في العداوة وسيادة التعصب وإبعاد السلام من أذهان المتحاربين والثائرين والحكومة القائمة بإخماد أو محاصرة ثورتهم نجحت أو لم تنجح ومن ساندها من رعاياها.!

وإلى اليوم لم يقلع البشـر عن التشبث والانتمـاء لهذه الأرض أو تلك التي يعيشون عليها كجماعة متميزة كما عاش آباؤهم ويتمسكون بهـا تمسك المتعصب المستميت ـ كمـا لم يقلعوا عن النظر إلى أبناء أي أرض غيرها كأجانب وغرباء معرضين في الأعم الأغلب للتوجس والاسترابة.. تزداد الاسترابة إذا كان أولئك في الماضي موضع عداوة أصيلة خاصة إذا كانوا يدينون بدين مخالف.. وللأسف لم تنجح الديانات الكبرى حتى الآن، في تغيير ذلك الأثر المزعج الهائل المبنى على مجرد اختلاف « المكان » أو « الجنس » أو « العقيدة ».. ويبدو أن الشوط لا يزال بعيدا أمام معتنقي الديانات المختلفة وبين الالتزام بسيادة المودة والأخوة مع سواهم من البشر، ولو كانوا من أهل الأديان الأخرى ما سالموهم.. لا يزال البون شاسعا لتحقيق هذه المودة بغض النظر عن الاختلاف في الأرض والجنس واللون والعمر والذكورة والأنوثة والغنى والفقر ـــ ربما اقترب البعيد إذا أدرك البشر أنهم جميعا عباد لإله واحد هو خالق كل شيء وكل حي واهتدوا إلى جوهر الإيمان والتزموا بذات الإخلاص في السيرة والسريرة.!

إحساسنا بفرديتنا

وإحساسنا ـــ على اختلافنا ـــ بفردية كل منا، إحساس عميق شديد غامر، بيد أن هذا الإحساس « بالفردية » خالٍ تماما من أي اهتمام جدى بالجماعة أو الجنس، وإجداب هذا الاهتمام بالمحيط الأوسع مرده فيما يبدو إلى تمحور « الذات » حول نفسها، ودورانها باستمرار حول ما تشتهيه النفس وترنو إليه وتطمع في زيادته أو تقلق خوفا عليه.. فهي فردية عقيمة مجدبة في الغالب الأغلب، تلهينا باستمرار عن القيام بأي اهتمام مخلص بمصالح ومستقبل جماعاتنا وجنسنا، وتلهينا عن المجموع انكفاءً على نفس كل منا، فتحصرنا في أنانية « الذات » حتى في أدائنا للخدمات العامة التي تقتضيها الجماعة من كل منا حسب دوره أو وظيفته أو موقعه، وبذلك لم يعد الآدميون في أي بلد مواطنين صادقين مهيأين ـــ حقيقة لا تظاهرا ـــ للتعاون معا والصمود والتضحية والبذل المشترك في جدية وإخلاص من أجل الأهداف العامة، مع أنهم دائمو الترديد لهذه المعاني، يلوكونها بألسنتهم ويتشدقون بها في مجالسهم ومنتدياتهم وأحاديثهم وكتاباتهم وخطبهم المنصرفة للسمعة والتظاهر.. يجرى ذلك في الوعى وفي اللاوعي لطول مفارقتنا للجد والجدية، وطول اعتيادنا على إدمان التظاهر والافتعال لأشياء لم تعد فينا حقيقة، ولكننا نصطنعها اصطناعاً تلمسا للصورة التي نحب الظهور بها، دون أن نجل هذه المعاني أو الأشياء إجلالاً حقيقيا فعليا، أو نشعر بيننا وبين أنفسنا أنها ضرورية لازمة لوجود أي منا !!

هذا التظاهر والافتعال التمثيلى هاوية حقيقية، تحيل حياتنا إلى تمثيلية مظهرية أو صوتية أو شكلية لا تترجم عن واقع حقيقى فاعل، ولا تحقق أو تنتج حصـاداً !!.. وهـذا الذي يحدث إنمـا مـرده إلى « خـواء الداخل ».. خـواء الداخل هو المنزلق لكل شىء مظهرى غير جاد، وليس من سبيل لإنهاء هذه « المظهرية » الفارغة عديمة الحصاد الجاد، إلا باستعادة «عمار الداخل » بأن يكون لكل منا حياة داخلية سليمة، وهذا لا يتأتى بالتمنى أو بالكلام، وإنما يحتاج إلى توجيه اهتمامنا الجاد إلى داخلنا، مع الإصرار على تعميره وتنميته بمعطيات جديدة نعتنقها بصدق وولاء تام وإيمان !

بغير هذا لا تتحسن الحياة، ولا يكون للحضارة الإنسانية أساس متين آمن يصونها ويؤمنها من الانحدار والزوال !.. إن البشر يعانون منذ قرون من زحف هذه « الأتربة » دون أن يعرفوا لها آخرا، ولم يعد صالحا للعمار الحقيقى للحياة والحضارة، العودة إلى « قديم مجرب » محكوم بزمانه، ولا بصورة له « معدلة » أو « مجملة » !.. لا قيمة ولا جدوى إلا بما يستقر في قلب كل آدمي قبل أن يستقر ثانية في عقله وفكره وخياله دائم التحرك والتغير والتقلب !

زر الذهاب إلى الأعلى