الإنسان في القرآن الكريم

الإنسان في القرآن الكريم

نشر بجريدة الشروق الخميس 18/3/2021

بقلم: الأستاذ/ رجائي عطية نقيب المحامين

كتاب « الإنسان في القرآن » ــ رائعة من روائع الأستاذ العقاد، تناولته في المجلد الثاني من مدينته، صدر سنة 1959، ونشرته دار الهلال في « كتاب الهلال » أكتوبر 1959، وأعادت نشره في طبعة خاصة سنة 1971، وأعيد نشره بعد ذلك عدة مرات.

وهذا الكتاب كتابان: كتاب عن الإنسان في القرآن الكريم، وكتاب عن نشأة الإنسان في مذاهب الفكر والعلم، ثم خاتمة أو « عود على بدء » طبقًا لمسمى الأستاذ العقاد، استخلص فيها بعد عرض مذاهب الفكر والعلوم في الإنسان، كيف أن القرآن أعطى للإنسان أرفع وأصح مكانة، وأصلح ما يتطلع إليه في زمانه وفي كل زمان.

إنسان القرآن، هو إنسان القرن العشرين.

ولعل مكانه في هذا القرن أوفق وأوثق من أمكنته في كثير من القرون الماضية..

وقديما كان شعار الحكماء: « اعرف نفسك ! »

ولطالما تساءل الإنسان ولا يزال يتساءل منذ بدء الخليقة.. أسئلة تصاعد أعدادها، وتشعبت مسالكها في القرن العشرين.. القرن الذي تجمعت فيه الأسئلة عن كل نسبة من نسب الإنسان.

ما مكانة  الإنسان.. في هذا الكون كله ؟

ما مكانه من هذه السيارة الأرضية بين خلائقها الأحياء ؟

ثم.. ما مكانه بين أبناء نوعه البشرى ؟.. وبين كل جماعة من هذا النوع الواحد ؟

أو هذا النوع الذي يتألف من جملة أنواع يضمها عنوان الإنسان ؟

بهذه الأسئلة التي طالما راودت الإنسان، ولا تزال تراوده، يقدم الأستاذ العقاد لكتابه وموضوعه..

وخلاصة فلسفته ورأيه: « أن هذه الأسئلة أسئلة لا جواب لها في غير « عقيدة

دينية ».. عقيدة تجمع للإنسان صفوة عرفانه بدنياه، وصفوة إيمانه بغيبها المجهول !.. عقيدة تجمع له زبدة الثقة بعقله، وزبدة الثقة بالحياة.. حياته وحياة سائر الأحياء

والأكوان.

هذه العقيدة الدينية لا توجد اليوم لتنبذ غدًا، ولا توجد على الأيام للعارفين دون الجاهلين، وللعاملين دون الخاملين، ولمن يطلبون الخير للناس دون من يطلبون الخير لأنفسهم، ولمن يعتقدون دراية ومحبة دون من يعتقدون تسليمًا ورهبة.. ولمن يسعون سعيهم إلى العلم والإيمان دون من يقعدون في مواطنهم منتظرين.

هذه العقيدة بنية حية.. قوامها دهور وأمم، ومعايش وآمال، ونفوس خلقت ونفوس لم تخلق. سبيلها جميعًا أن تهتدى إلى قبلة واحدة تنظر إليها فتمضى قدمًا، أو تفقدها في الأفق فهي أشلاء ممزقة كأنها أشلاء الجسم المشدود بين مفارق الطريق.

العقيدة الدينية الجديرة بالرد على كل هذه الأسئلة والاستفسارات هى عقيدة القرآن.

فالقرن العشرون منذ مطالعه، يعرض العقيدة بعد العقيدة على الإنسان وعلى

الإنسانية، إلا أنه لم يعرض عليها حتى اليوم، قديمًا معادًا أو جديدًا مبتدعًا هو أوفق من عقيدة القرآن..

فقد استمع الناس إلى المادية التاريخية فوجدوها تنزل بالإنسان إلى مستوى العملة الاقتصادية في سوق التجارة والصناعة.. تعلو وتهبط بمعايير العرض والطلب !

واستمعوا إلى الفاشية فهالهم ما تزعمه من أن الإنسان.. الواحد.. من عنصر سيد أو عنصر مسود.

واستمعوا إلى « العقلية » فوجدوها تنكر إنسانيتهم وتقول إنها شيء لا وجود له، ووهم من الأوهام، وإن الشيء الموجود حقًا هو الفرد الواحد !.. وبرهان وجوده حقًا أن يفعل ما استطاع من نفع أو أذى، كلما أمن المغبة من سائر الأفراد والأحداث !

وغيرها كثير من النظريات.. سمعها الناس من أهل العقائد الإلهية.. نظريات عن مكان هذا الإنسان من الأرض والسماء، ومكانه من إخوته في آدم وحواء.. بيد أنها لم تشف بدورها غليلهم أو ترشدهم إلى حيث تهدأ نفوسهم الحائرة المتسائلة..

ثم سمع الناس من القرآن الكريم غير ذلك..

« الإنسان في عقيدة القرآن هو الخليفة المسئول بين جميع ما خلق الله.. يدين بعقله فيما رأى وسمع، ويدين بوجدانه فيما طواه الغيب، فلا تدركه الأبصار والأسماع.. والإنسانية من أسلافها إلى أعقابها أسرة واحدة لها نسب واحد وإله واحد.. أفضلها من عمل حسنًا واتقى سيئًا، وصدق النية فيما أحسنه واتقاه ».

هذه الحقيقة التي صدر بها الأستاذ عباس العقاد كتابه القيم تحتاج إلى إثبات قائم على البحث والنقاش العلمي

طفق العقاد يسوق حججه حجة وراء حجة، في عمق وأصالة، على صفحات الكتاب الذي قسمه إلى كتابين رئيسيين.. الأول عن الإنسان في القرآن الكريم.. وفيه عرض إجابة القرآن على كل الأسئلة التي تدور حول الإنسان في هذا القرن وما سبقه من القرون..

وفي الكتاب الثاني.. أورد العقاد عرضًا.. شائقًا وعميقًا.. لنشأة الإنسان وموضعه في مذاهب العلم والفكر، أو مذاهب الحدس والخيال.. ليعود في النهاية إلى حيث بدأ.. مقارنًا.. بين ما تقرره هذه المذاهب وتسوقه.. على اختلافها.. وما تقره العقيدة القرآنية حول هذا الكائن الحي.. مكانه في هذا الكون.. ومكانه على هذه الأرض بين كل ما يدب عليها من الأحياء.. ثم مكانه بين نوعه البشرى، وبين كل جماعة من هذا النوع  ».

المخلوق المسئول

المخلوق المسئول هو صفوة الصفات التي ذكرها القرآن عن الإنسان، إما خاصة بالتكليف أو عامة في معارض الحمد والذم من طباعه وفعاله.

فالإنسان قد ذكر في بعض مواضع من آيات الكتاب الكريم بغاية الحمد، وفي مواضع أخرى بغاية الذم.. بل ذكر بهذا وذلك في الآية الواحدة.

يقول جل شأنه: « وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً ». ( الإسراء 70 )

« لَقَدْ خَلَقْنَا الاِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ * ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ ».( التين 4، 5 )

« إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ ». ( ابراهيم 34 )

« إِنَّ الإنسَانَ لَفِي خُسْرٍ ».  ( العصر 2 )

وليس معنى ذلك أن الإنسان يحمد ويذم في آن واحد.. وإنما معناه أن الإنسان أهل للكمال والنقص بما فطر عليه.. وأهل للخير والشر لأنه أهل للتكليف.. والإنسان بهذا الاستعداد المتفرد بين مخلوقات الأرض ومخلوقات السماء هو أكرمها جميعًا.. وإذا كان قد وصف في القرآن بمساوئ لم يوصف بها غيره، فإنها مساوئ لا يوصف بها إلا مخلوق مسئول.. فالسيئة والحسنة لا ينعت بها غير المسئول لأنه غير أهل للقدح أو المدح.

والإنسان في عقيدة القرآن.. مسئول عن عمله.. لا يؤخذ واحد بوزر آخر، ولا أمة بوزر أمة أخرى..

« كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ ».  ( الطور 21 )

« وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَآئِرَهُ فِي عُنُقِهِ ». ( الإسراء 13 )

« تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ وَلاَ تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ »

( البقرة 141)

ومناط المسئولية في القرآن جامع لكل أركانها المتفق عليها بين الباحثين المتعمقين في حكمة التشريع الديني أو التشريع الوضعي.

فهي بنصوص الكتاب قائمة على أركانها المجملة: تبليغ، وعلم، وعمل.

فلا تحق التبعة على أحد لم تبلغه الدعوة..

« وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً ». ( الإسراء 15 )

والعلم هو أول ما تنزل على المصطفي عليه الصلاة والسلام في أول ما نزل من القرآن المجيد.

« اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإنسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الإنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ »  ( العلق 1 ـ 5 )

أما العمل فهو مشروط في القرآن بالتكليف الذي تسعه الطاقة.. وبالسعى الذي يسعاه المكلف لربه ونفسه.

« لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ »  (البقرة 286).

« فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ » ( الزلزلة 7، 8)

فشريعة الإسلام لا تسأل الإنسان عما يجهل، ولكنها تسأله عما علم وعما وسعه أن يعلم.. وما من شىء في عالم الغيب أو عالم الشهادة هو محجوب كله عن علم الإنسان.. فما وسعه من علم فإنه محاسب عليه  ».

زر الذهاب إلى الأعلى