الإصلاح التشريعي كضلع في مشروع مصر التنموي

محمود أبوزيد المحامي

   يذكر التاريخ لنابليون بونابرت الفرنسي إنجازين كبيرين؛ أولهما: حركة فتوحاته العسكرية لتأسيس إمبراطورية فرنسية، وهو إنجاز تجاوزه الزمن وربما طواه النسيان، أما إنجازه الثاني الذي ما زال باقياً فهو النهضة القانونية التي تمت في عهده بإطلاق عملية كبرى لتقنين التشريعات الفرنسية بمناهج حديثة سرعان ما فرضت نفسها خارج فرنسا، وتأثرت بها كثير من دول العالم حتى أصبح الفكر القانوني أحد مظاهر القوة الناعمة لفرنسا حتى اليوم.

وبرغم أن مصر كانت الدولة العربية والمتوسطية والإفريقية الأكثر تأثراً بالنموذج القانوني الفرنسي إلا أنها تحوّلت من دولة (متأثرة) بهذا النموذج إلى دولة (مؤثرة) فيمن حولها بعد أن راكمت هذا النموذج، وأزعم أنها أضافت إليه أحياناً من خلال تراث عريق لمحكمة النقض، ومجلس الدولة، والمحكمة الدستورية العليا، بالإضافة إلى كتابات جيل ذهبي من الرواد المؤسسين في الفقه القانوني المصري.

استطاعت مصر منذ أواخر القرن التاسع عشر وحتى عدة عقود مضت أن تبني نهضة قانونية جعلت منها نموذجاً ملهماً وقوة ناعمة في منطقتها العربية. لكن شيئاً فشيئاً تراجعت القوة الملهمة والناعمة لمصر في المجال القانوني وأصابها شيء من بطء وترهل وعدم مواكبة حركة العصر لأسباب عديدة ومتنوعة. صحيحٌ أن النموذج القانوني المصري ما زال يحمل بريق جيل من الرواد المؤسسين في الفقه، والقضاء، وصناعة التشريع، لكن بدأ البريق يخبو برغم استثناءات إيجابية ومضيئة لحسن الحظ هنا أو هناك. اليوم تواجه مصر تحديين يتعلقان بمرفق العدالة والإصلاح التشريعي. تحديث مرفق العدالة شيء والإصلاح التشريعي شيء آخر. فمرفق العدالة يئن بسبب قلة عدد القضاة وتواضع كفاءة الجهاز الإداري المعاون وزيادة عدد السكان وكثرة القضايا، وكلها أمور تتطلب إمكانات ومخصصات مالية وخطط زمنية للتنفيذ. أما الإصلاح التشريعي فهو عمل بلا تكلفة تقريباً لأنه لا يحتاج لأكثر من رؤية ومشروع وعقول وأفكار لدينا منها الكثير.

وإذا كانت مصر اليوم تعيش مشروعاً نهضوياً للتنمية الشاملة فإن الإصلاح التشريعي يصبح ضلعاً لا غنى عنه لإنجاز هذا المشروع. نحتاج لعملية إصلاح تشريعي شامل وعميق وعصري بقدر شمول وعمق ومستجدات حركة العصر لأنه ما من متغير أو جديد في مجالات التنمية الاقتصادية والبشرية والثقافية والاجتماعية والتكنولوجية والسياسية إلا وكان يحتاج لأدوات تشريعية تنظمه. والأمل معقود في أن تصبح اللجنة العليا للإصلاح التشريعي لا سيّما بعد صدور قرار السيد رئيس الجمهورية بقانون رقم 209 لسنة 2017 بإعادة تنظيمها وتشكيلها إيذاناً بتحقيق الإصلاح التشريعي.

واللجنة تصبح بذلك أحد مراكز صناعة التشريع في مصر وفقاً للاختصاصات المخوّلة لها والتي اتسعت عما كان ينص عليه القانون السابق الصادر في بداية إنشائها، لكن مصر تزخر فوق ذلك بمؤسسات أخرى عريقة ونخبوية تُسهم في عملية صناعة التشريع مثل قسم التشريع بمجلس الدولة، وإدارة التشريع بوزارة العدل، وهيئة مستشاري مجلس الوزراء حتى يؤول الأمر في النهاية إلى سلطة التشريع الأصيلة وهي مجلس النواب لتقول كلمتها وتصدر قانونها. ومن هنا فإن تكامل الأدوار وتضافر الجهود بين هذه المؤسسات، باختلاف طبيعة دور كل منها، كفيلٌ بإنجاز الإصلاح التشريعي المنشود. هذا التكامل قائم نظرياً لأن رؤساء المؤسسات المعنيّة بصناعة التشريع وهم قامات قضائية رفيعة ممثلون في واقع الأمر في اللجنة العليا للإصلاح التشريعي، ولا شك أن تحقيق التكامل عملياً سيمثل قوة دفع كبيرة للجنة ولمجمل عملية صناعة التشريع في مصر.

خطاب الإصلاح التشريعي يتطلب تحديد المقصود به أولاً، والوعي بتحدياته وعقباته ثانياً، لكي يتيسر على ضوء ذلك رسم مساراته المختلفة ثالثاً. المقصود أولاً بالإصلاح التشريعي ليس مجرد إجراء تعديل تشريعي هنا أو هناك مهما كان قدر هذا التعديل (وبالتأكيد هناك تعديلات تشريعية مطلوبة) لكن الإصلاح التشريعي أبعد وأعمق من التعديل التشريعي لأنه يعني حركة إصلاح وتحديث جذري ترتبط بالسياسات التشريعية (بركائزها وأهدافها ومنهجيتها). فالتعديلات التشريعية تنصب على (النصوص) أما الإصلاح التشريعي فيرتبط (بالسياسات والأهداف) الفارق كبير إذن بين المفهومين. والملاحظ أن حركة التشريع المصري تميل في العقود الأخيرة إلى التعديلات الجزئية والطارئة التي كانت تتم في الغالب كرد فعل سريع على متغير أو توجه ما، وهذا أمر طبيعي ومطلوب لكنه لا يُغني عن الإصلاح التشريعي الشامل والعميق.

والوعي مطلوب ثانياً بالتحديات والعقبات التي تواجه عملية الإصلاح التشريعي والتي تتركّز في ظاهرتين سلبيتين هما تضخم التشريعات وجمودها. ظاهرة التضخم التشريعي أنتجت ما يُشبه غابة من التشريعات المتداخلة يكاد المتخصص نفسه يجد مشقة في التعامل معها. والواقع أن هذه الغابة من التشريعات تبدو مربكة أكثر لأننا نفتقر إلى قاعدة بيانات تشريعية موحّدة ومفهرسة وفق مناهج عصرية ونظم تبويب وفهرسة ذكية قابلة لأن تستوعب يوماً بيوم كل إضافة أو تعديل جديد وبشكل إلكتروني يتيح ذلك.

والملاحظ أن تضخم التشريعات زاد وتراكم فأفضى إلى حالات من الازدواجية والتعارض وربما التناقض أحياناً. ولهذا كان لدينا مثلاً حتى مارس 2007 دستور (دستور 1971) يتكلم عن النظام الاشتراكي والاتحاد الاشتراكي العربي كتنظيم سياسي يمثل تحالف قوى الشعب العامل في وقت كانت توجد فيه قوانين تنظم الخصخصة واقتصاد السوق والانفتاح الرأسمالي (!) كان المشهد يعكس حالة غير مفهومة بلا تفسير لتناقض استمر نحو عشرين عاماً.

أما ظاهرة الجمود التشريعي فتجلّت مثلاً في أننا انتظرنا حتى عام 2018 لنصدر قانون مكافحة جرائم تقنية المعلومات الذي كانت سبقتنا إليه بسنوات دول عربية شقيقة. وما زلنا لا نمتلك قانوناً شاملاً لاسترداد المتهمين والمحكوم عليهم على الصعيد الدولي.
ولدينا حتى اليوم تشريعات أصبحت تتسم بقدر كبير من الجمود مثل قانون العقوبات الصادر في 1937 والذي تجاوزته حركة العصر والسياسات الجنائية الحديثة في التجريم والعقاب.

ولدينا حتى اليوم تشريعات أصبحت تتسم بقدر كبير من الجمود مثل قانون العقوبات الصادر في 1937 والذي تجاوزته حركة العصر والسياسات الجنائية الحديثة في التجريم والعقاب، والظواهر الإجرامية الجديدة، والجرائم المنظمة عابرة الحدود، وما زال هذا القانون يتضمن عقوبات بالغرامة لبضعة جنيهات! وما يسرى على التشريعات الجنائية يسرى على غيرها من تشريعات أخرى معظمها يتسم بالجمود.

مسارات الإصلاح التشريعي ثالثاً تبدو عديدة ومتنوعة تتجاوز حدود هذه المساحة المتاحة، واللجنة العليا للإصلاح التشريعي مؤهلة وعازمة وقادرة على إنجازها. أحد هذه المسارات هو ضرورة إطلاق عملية مراجعة وتنقية للتشريعات المصرية لتتحوّل من غابة كثيفة ومعقّدة ومتناثرة من القوانين إلى مجموعات تشريعية مقنّنة ومتجانسة بحسب المجال الذي تنظمه والمصلحة القانونية التي تحميها. آن الأوان لوجود قاعدة بيانات تشريعية شاملة ومحدّثة وعصرية. وبدون الدخول في أفكار وتفصيلات مجالها القاعات المغلقة وهي ملك اللجنة كمؤسسة وكيان فإن ما يجدر التأكيد عليه هنا أن عملية الإصلاح التشريعي جزء لا يتجزأ من مشروع مصر التنموي ومظهر كان وما زال على مصر بمؤسساتها القضائية والقانونية العريقة ونخبها العلمية المتميزة أن تستعيد فيه ريادتها وتأثيرها الملهم في محيطها العربي. نجاح هذه المهمة يبدأ من تكامل الأدوار كمنهج عمل لتوظيف العقول والرؤى.

زر الذهاب إلى الأعلى