الإسلام وحكومة الكون

الإسلام وحكومة الكون

نشر بجريدة الشروق الخميس 19/8/2021

بقلم: الأستاذ/ رجائي عطية نقيب المحامين

عرفنا الإسلام، وعرفنا فيما عرفناه عنه، وعن العقائد بعامة، أن عقيدة الإنسان هي ولا شك ميزان أخلاقه، وعنوان آرائه في الوجود وفي الحق والعدل والمعاملة المثلى أو الفضلى، وفي الحكومة الصالحة، وأن الأمم بعامة إنما تستمد مَثَلها الأعلى في العدل والصلاح، مما تستمده وتعتد به من الرب الذي تعبده وتأخذ نفسها على طاعته، بل ويمكن أن يقال إن الفلاسفة الذين يضرب بهم المثل في قوة التفكير وخلاصه من الشوائب، هم ــ على نحو ما ــ مثال لتلك الظاهرة.

فما هي إذن حكومة الكون.

بداهة لا توجد للكون حكومة بالمعنى الاصطلاحي الدارج للحكومات، وإنما الكون وسننه نظام، هذا النظام العام للكون ــ هو النظام الذي يدل الثابت من تواريخ العقائد والشرائع والأنظمة الحكومية، إنما لا تطلب ــ فيما يرى الأستاذ العقاد ــ نظامًا لحكوماتها أعلى وأرفع من نظام الكون كله.

وهذه الحقيقة تنطبق على المسلم كما تنطبق على سواه، إلاَّ بفارق واحد.

هذا الفارق الواحد فيه كل العبرة وكل الدلالة، فالمسلم لم ترتق آراؤه في الحرية ومبادئ الحكومة اقتداءً بنظم سابقة، وإنما كانت تابعة لعقيدته الإلهية لا سابقة لها، حيث آمن بإله قادر عادل قبل أن تتمثل له هذه الضوابط في تطبيقات الحكومات.

والواقع أن المسلم الذين يدين بهذه الصلة الإلهية ـ يدين معها بالسنن التي لا تتبدل ولا تتحول، وقد تكررت الإشارة إلى هذه السنن في القرآن الحكيم مرات متعددة، وفي مناسبات شتى.. منها:

« سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً » ( الأحزاب 62 ).

« فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ سُنَّتَ الأَوَّلِينَ فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلاَ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ

تَحْوِيلاَ » ( فاطر 43 ).

ومنها: « فَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ الأَوَّلِينِ » ( الأنفال 38 )، ومنها: « وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الأَوَّلِينَ » ( الحجر 13 ).

فالحكومات الكونية في اعتقاد المسلم، حكومة ذات قوانين وليست بحكومة الفوضى ولا الهوى.

وهى على ذلك لا تدين أحدًا، ولا تقيم مسئوليته، بغير بلاغ وبيان ونذير:

« وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً » ( الإسراء 15 ).

« وَإِن مِّنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خلاَ فِيهَا نَذِيرٌ » ( فاطر 24 ).

« وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولٌ فَإِذَا جَاء رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُم بِالْقِسْطِ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ » ( يونس 47 ).

الإنسان عامل من عوامل سنن الله في الكون

ومع اعتقاد المسلم أن سنة الله تعالى غالبة في كل شىء، فإنه يعتقد أيضًا أن إرادته سبحانه قد جعلت الإنسان عاملاً من عوامل سنن الله، وليس بعالة على الكون أو لغوًا

فيه..

« ذَلِكَ بِأَنَّ اللّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ وَأَنَّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ » ( الأنفال 53 ).

ولم ينف القرآن المجيد صفةً عن الله سبحانه ـ كما نفي عنه جل وعلا صفة الظلم

خاصة، ولم يرو هلاك أقوام بآفة أشنع من آفة الظلم، ولا سيما ظلم الضعفاء.. ومن هذه الآيات:

« وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ » ( فصلت 46 ).

« وَمَا أَنَا بِظَلامٍ لِّلْعَبِيدِ » ( ق 29 ).

« ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بظلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ » ( الحج 10).

« إِنَّ اللّهَ لاَ يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَـكِنَّ النَّاسَ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ » (يونس 44).

« وَلاَ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا » ( الكهف 49 ).

« إِنَّ اللّهَ لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِن لَّدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا » ( النساء 40 ).

*    *    *

وقد اقترنت هذه الآيات القرآنية وغيرها، بذكر العبر والعظات في قصص الأمم السابقة التي هلكت بظلمها وطغيانها، والعروش التي دكت وانمحت آثارها لأن القائمين عليها كانوا ظالمين.

وهذه هى الحكومة الكونية في عقيدة المسلم، مسيّر الكون هو خالقه عز وجل، فهو القادر على كل شىء الفعّال لما يريد، ولكن هذه الحكومة لها سنن وشرائع، ومبلغون ومنذرون، وكل إنسان فيها مسئول عن عمله « وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَآئِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنشُورًا » ( الإسراء 13 ).

ولم يكف هذه الحكومة الكونية أن يكون البلاغ قائمًا، والنذير سابقًا، بأن يعلم المسئول ذنبه بنفسه، ويعلم بماذا ولأى سبب أدين، وكيف كان ويكون الحساب.

فإذا آمن الإنسان بحكومة الكون على هذا المثال، استحى أن يدين لمخلوق مثله بحق أكبر من هذا الحق أو أن يدين له بأكثر من هذه الطاعة، ومن ثم تجيئه الديمقراطية القائمة على العدل والإنصاف والمساواة من أوسع سبلها.

وحين تتابع الأستاذ العقاد في كتابه هذا عن الديمقراطية في الإسلام، يلفت نظرك تتبعه لاستخراج كلمة «الحكم » من آيات القرآن الكريم، يسعى بذلك لرؤية مواطن ومعنى استخدامها في الكتاب المجيد، ليستخلص في صبر واجتهاد أن ورودها في مواقعها في الكتاب المبين، دليل آخر على مكان الحرية ــ أين الديمقراطية بلغة العصر ــ من العقيدة الإسلامية.

لم أستطيع وأنا ألاحق الأستاذ العقاد في هذه التأملات الغائرة، إلاَّ أن أذكر إلى جوار إكبارى له ــ خيبة الأمل التي خرجت آسيًا بها من كتاب أحد الأئمة الكبار عن العقل في الإسلام، لأنه من حيث لا يقصد ــ ولهذا لا أبوح باسمه ــ خرج بأنه لا مكان للعقل في الإسلام، على نقيض العنوان الذي اتخذه للكتاب.

يخرج الأستاذ العقاد من ترحاله، إلى أن كلمة « الحكم » وقد وردت بالقرآن في مواضعها المختلفة بالعشرات ــ إنما يدل ورودها على أنها لم تأت عرضًا، وأنها في مواضعها

ومعانيها دلت وتدل على الحكم المنصف. هذا الإنصاف هو غاية كل حكم يسعى في طلب الديمقراطية.

فما من خلاف يدعو إلى حله، إلاَّ كان له حكم، وكان هذا الحكم فاصلاً بين الحق والباطل، وجرى ذلك في أمور الدين والدنيا، ومن هذه الآيات تمثيلاً لا حصرًا:

« فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ » ( غافر 12 ).

« وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ » ( يونس 109 ).

« وَأَنتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ » ( هود 45 ).

« فَاللّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ » ( البقرة 113 ).

« وَاصْبِرْ حَتَّىَ يَحْكُمَ اللّهُ » ( يونس 109 ).

« قَالَ رَبِّ احْكُم بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمَنُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ » ( الأنبياء 112 ).

« إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ » ( غافر 48 ).

« أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ » ( المائدة 50 ).

« يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى »

( ص 26 ).

« إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ

بِالْعَدْلِ ». ( النساء 58 ).

« وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُم بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ » ( المائدة 42).

« فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ » ( يونس 35 )

*       *      *

وها أنت ترى أن الكلمة وردت في أغراض شتى من أمور الدين والدنيا، ورأى الأستاذ العقاد أن تكرار الكلمة في ذاته، يغنيه عن إيراد تفاصيل الآيات، لأن هذا التكرار في مواضعه المتعددة ـ دال بذاته على أصالة الحكم في العقيدة الإسلامية، وأنها توحى إلى الضمير أن وراء كل خلاف أو هوى ـ حكمًا، وأن وراء جميع الأحكام حكم الله أحكم الحاكمين وخير الحاكمين.

وحين يؤمن المؤمن بحكومة الكون على هذا المثال، فإنه يحق له أن يرى أن في الكون حكمًا، وأن للحكم سنة، وأن قضاء الحق فوق قضاء الأقوياء.

زر الذهاب إلى الأعلى