الإسلام والديمقراطية السياسية(2)
الإسلام والديمقراطية السياسية(2)
نشر بجريدة الشروق الخميس 9/9/2021
بقلم : الأستاذ رجائى عطية نقيب المحامين
إذا تفاوت الناس بحكم الطبيعة والاجتماع ، فإن المساواة بينهم تبتعد عن أصل المساواة ، وتمسخ الطبائع وتحرم الفاضل أو المتفوق من ثمرة فضله وتفوقه ، وقد تؤمن الكسلان والبليد من عاقبة كسله وقعوده وبلادته .
فالديمقراطية لا تناقض الطبيعة ولا تلزمنا بأن نمسخها أو نمحو الفوارق التى لا تستقيم الحياة بدونها ، وكل ما توجبه الديمقراطية أن يتساوى الناس فى الفرص وفى تكافؤها وفى عدل القانون بلا تمييز يكون مرجعه إلى استغلال الضعفاء لصالح الأقوياء .
والمجتمع الديمقراطى الصحيح هو المجتمع الذى لا استغلال فيه ولا قدرة للأغنياء والأقوياء على الإجحاف بالفقراء والضعفاء . وهذا هو نظام الاقتصاد الذى يحسن بالديمقراطية وينبغى عليها تقريره وتثبيته .
وهكذا شُرعت الديمقراطية الاقتصادية فى الإسلام .
فالإسلام يبطل قوة الاستغلال ويقدم ويقدس حق العمل ، ويأمر بتوزيع المال : « كَيْ لاَ يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاء مِنكُمْ » كما ورد فى القرآن الحكيم .
والإسلام ينهى عن كنز الأموال ، ويقول القرآن الكريم فى ذلك : « وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللّهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ » ( التوبة 34 ) .
ويكره أيضًا أن تصير أعمال وأقوات الناس تجارة ، ومن ثم حرم أكل الربا أضعافًا مضاعفة ، وكما جاء بالقرآن الحكيم :
« يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ الرِّبَا أَضْعَافًا مُّضَاعَفَةً وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ »
( آل عمران 130 )
« وَمَا آتَيْتُم مِّن رِّبًا لِّيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلاَ يَرْبُو عِندَ اللَّهِ » ( الروم 39 )
ويحرم الإسلام تبعًا لذلك بيع العين بالعين إلاَّ بسواء ويدًا بيد ، لأن اختلاف السعر هنا باب للاستغلال .
كذلك حرم الاحتكار لرفع الأسعار أو استغلال أقوات الناس ، وفى الحديث : « الجالب مرزوق والمحتكر ملعون » ، وقال عليه الصلاة والسلام : « من احتكر طعامًا أربعين يومًا يريد به الغلاء فقد برئ من الله وبرئ الله منه » .
ومع تحريم الاستغلال ، يقدس الإسلام حق العمل ويفضل كسبه على كل كسب لا يكون العمل مصدره ، فمن سنن الإسلام قول النبى عليه الصلاة والسلام : « إن أفضل الكسب
كسب الرجل من يده » ، وإن « الله يحب العبد المحترف ويكره العبد البطال » . وفى القرآن المجيد : « وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ » ( التوبة 105 )
إذن تقوم الديمقراطية « الاقتصادية » فى الإسلام ، على قاعدتين : تحريم الاستغلال ، وتقديس العمل .
ولا تطمح أى ديمقراطية فى أكثر من مجتمع يبرأ من المستغل ومن المتبطل ، وتدور الثروة فيه بين الأيدى كافة ، ولا ينحصر تداولها بين الأغنياء .
ولم تكتف هذه الديمقراطية الاقتصادية الإسلامية بتقرير القواعد ، بل عنيت بكفالة حقوق للمحرومين حين فرضت الزكاة وجعلت لهم فيها حقًّا معلومًا .
ولا شك أن هذه الكفالة ومنع الغبن غاية محمودة فى أى نظام اقتصادى أيًّا كان مسماه ، ذلك إن منع الغبن لا يقف عند حد منع استغلال القوى للضعيف ، أو منع تسخير الغنى للمحروم ، بل هو يكفل أيضًا عدم حرمان المجتهد من ثمرة اجتهاده ، ففى هذا الحرمان غبن أيضًا ، وديمقراطية الإسلام تمنع الغبن فى جميع صوره وكل ما يفضى إليه , يبدو ضعيفًا بلا منطق احتجاج البعض على عدم جواز حرمان المجتهد من ثمرة اجتهاده , فلو حرم منها لماتت الأنشطة , وشاعت البلاد فخسرت المجتمعات خسارة تنعكس على الأفراد أنفسهم , لذ ليس من المساواة أن يتساوى القاعد مع العامل النشط , ومن هنا كانت ديمقراطية الإسلام ديمقراطية شاملة تمنع الغبن فى جميع صوره وكل ما يفضى إليه .
يقول القرآن الكريم :
« وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِّمَّا عَمِلُواْ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ » ( الأنعام 132 )
« فَضَّلَ اللّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُـلاًّ وَعَدَ اللّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا » ( النساء 95 )
« وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِّمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَالَهُمْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ » ( الأحقاف 19 ) .
وغنى عن البيان أن هناك من لا يتفقون مع الأستاذ العقاد فى بعض آرائه بالنسبة لعدم جواز حرمان المجتهد من ثمرة اجتهاده أو امتيازه ، وقد يعدون هذه الحماية ترفًا لا يحتاجه الأقوياء الممتازون ، بيد أن التعمق فى النظر يورى بأن هذه الموازين هى الأجدى فى توازن المجتمع وحرص القاعد على أن يقتدى بالعامل المجتهد ما استطاع ، فإن قصر به جهده أو لم تسعفه إمكانياته ، فإن المجتمع متكفل به على ما تقدم بيانه .
والأستاذ العقاد يتساند فى رأيه إلى آيات صريحة فى القرآن الحكيم تتعامل مع الواقع تعاملاً حيًّا يعالج أسبابه بما تستلزمه .
وهو لا ينسى فى تسانده أن يشير إلى أن هناك من يستريحون إلى محو الفوارق ، ولكنها راحة غير بصيرة ، وتأتى ممن لا أمل ولا خير ولا رجاء فيهم . فلا يضيق بهذه الفوارق من يجتهد ويرجو خيرًا من عمله ، وبهذا يصح الأفراد وتصح المجتمعات .
* * *
ويقفى الأستاذ العقاد بأن هناك من الفلاسفة المحدثين من خاض فى كلام طويل عريض عن العدل والمساواة ، بيد أن هذه الأقوال لم تبلغ ما بلغه الإسلام من هذا العدل وهذه المساواة بالديمقراطية الإسلامية .
والإسلام يشيد بالعدل ويوجبه ويكرر الدعوة إليه ، حتى وإن قامت عداوة أو شنآن :
« وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى » ( المائدة 8 )
والإسلام يوجب العدل بين القريب والغريب وبين الغنى والفقير :
« يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاء لِلّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ إِن يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقَيرًا فَاللّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلاَ تَتَّبِعُواْ الْهَوَى أَن تَعْدِلُواْ وَإِن تَلْوُواْ أَوْ تُعْرِضُواْ فَإِنَّ اللّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا » ( النساء 135 )
ويوجبه فى المعاملات وفى الأحكام : « إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ » . (النساء 58)
ويوجبه فى دعوة الأنبياء والهداة : « فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ وَقُلْ آمَنتُ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِن كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لأعْدِلَ بَيْنَكُمُ ».(الشورى 15)
ولا يسوى بين جائر وعادل : « هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَن يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ » . (النحل76)
والأمور التى يتساوى فيها الناس جميعًا فهى الحقوق العامة التى تحمى كل إنسان أن يبغى عليه أحد ، وقد نادى بها القرآن الكريم على أوفاها : « يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ». ( الحجرات13)
وأكد النبى عليه الصلاة والسلام هذه المساواة فى أحاديث متعددة ، منها قوله صلوات الله عليه : « أيها الناس إن الله أذهب عنكم نخوة الجاهلية وفخرها بالآباء ، كلكم لآدم وآدم من تراب ، ليس لعربى على عجمى فضل إلاَّ بالتقوى ».
والتقوى فى الإسلام كلمة جامعة لكل ما يتقيه الإنسان من تبعات وحدود ، فلا فضل لإنسان على إنسان إلاَّ بما ينهض به من تبعات ويرعاه من حدود .
وقد تولى الخلفاء عملهم على هذا الحكم ؛ فأقسم عمر رضى الله عنه : « والله لئن جاءت الأعاجم بالأعمال وجئنا بغير عمل فهم أولى بمحمد منا يوم القيامة . فإن من قصر به عمله لا يسرع به نسبه ».
وهذه هى المساواة التى تجب فى الشريعة الصالحة ، ولا غبن فيها على أحد من القادرين ولا من العاجزين .
وحاصل ما تقدم ، أن الديمقراطية الاقتصادية قد تحققت لها كافة عناصرها وأركانها ، وفى مقدمتها العدالة والمساواة .