الإسلام بين السماحة والتصوف والمذاهب الاجتماعية والفكرية
الإسلام بين السماحة والتصوف والمذاهب الاجتماعية والفكرية
نشر بجريدة الشروق الخميس 8/7/2021
بقلم: الأستاذ/ رجائي عطية نقيب المحامين
السماحة ملمح أساسي ورئيسي من ملامح الإسلام، وهي خصلة جامعة لخصاله، وهي صدى لتلك الخصال، ومعبرة عنها، ثم هي تلتئم مع كل هذه المعالم والسماع في اتساع الإسلام للعالمين إلى يوم الدين، وامتداد واحته إلى من لم يؤمن مثلما هي للمؤمنين به، والحديث عنها يطول إلى غير حدود، وقد فعلت سلفًا في كتاب عالمية الإسلام ( الأهرام 2003 ).
ولا جرم إذن أن تتسع هذه السماحة إلى عقائد المتصوفة، واستطاع المتصوفون في رحابه الفسيحة السمحة أن يتآلفوا مع رياضتهم الروحية، دون أن يلقوا عنتًا ولا إعناتًا أو تضيقًا.
وفي تاريخ المسلمين، ولا أقول تاريخ الإسلام، واقعتان مأساويتان تثيران شجنًا: مأساة الحلاج وصلبه، ومأساة السهروردى المقتول، وفيلسوف الإشراق وقد كتب الأستاذ العقاد في درته « التفكير فريضة إسلامية » ــ كتب عن المأساتين، وأبدع كعادته في كتابته التي خلص منها إلى أنه برغم مرارتهما الشديدة، إلاَّ أن كلا منهما كانت لظروف خاصة ولم تكونا من باب التضيق على الحرية، وعلى موقع التفكير كأسلوب تصل إلى حد الفريضة في الإسلام. كانت المأساتان لمآزق سياسية في أوقات الحرج والريبة يرتطم بها من يتصدى لها ويتورط فيها، وقد كانت مأساة الحلاج معاصرة لفتنة القرامطة، ومأساة السهروردى فيلسوف الإشراق إبان الحروب الصليبية، ولم يسلم أحد من أوزار هذه وتلك.
التصوف في الإسلام
أما التصوف، فقد وضعه الإسلام في موضعه الذي يصلح به ويصلح من يريده، فليس هو بواجب كما يقول الأستاذ العقاد، ولا هو بممنوع. ولكنه ملكة نفسية موجودة في بعض الطبائع، لازمة لمن وجدت في طبائعهم، وهي ألزم ما تكون لهم حين تفترق مقاييس الأخلاق ومعايير القيم الروحية بينهم وبين مجتمعاتهم، دون ما حاجة إلى تجنبه للمجتمع بالرهبانية لأنه لا رهبانية في الإسـلام، وقد صالح فضائله وفقًا لما يرتضيه ضمير الفرد ومجتمعه، لا حسيب بين الإنسان وربه، وتلك هي شريعة الإسلام الذي لا سلطان فيه لمخلوق على مخلوق في طاعة الله.
وحين تكون للنفس الإنسانية ملكة خلقية أو روحية، فإنها أمانة لا يجوز التفريط فيها، ولا خير في مجتمع يفرط فيها أو يسلمها للضياع.
وجواز إحياء الملكة الصوفية على ملكات أخرى، أقرب تشبيهًا بجـواز التخصـص لكلٍّ وفق قدرتـه واسـتعداده لما تخصـص فيـه، فلا يجوز إهدار التخصص بقالة إن العامة لا يستطيعونه، ولا يجوز أيضًا أن يُفْرض التخصص على من لا يحسنه أو يعجز عن تحصيله والتوافر عليه.
إن الملكات الإنسانية أكثر وأكبر وأوسع من أن ينالها إنسان واحد، ولكنها ينبغي أن تُنَال، ولا بأس على من نالها، ولا على من لم يأنس في نفسه استعدادًا لنولها.
ولا ملامة على طالب القوة الروحية إذا آثرها وكان قادرًا عليها، ولا ملامة أيضًا على من لم يستطع أن يحلق في مراميها.
ومما لا جدال فيه أن نوازع الجسد تحجب الفكر ـ فيما يقول الأستاذ العقاد ـ عن بعض الحقائق الاجتماعية فضلاً عن الحقائق الكونية المصفاة، ومما لا جدال فيه أن طالب القوة الروحية كطالب القوة البدنية، لا تثريب عليه، فلا بد لهذا وذاك في شرعة البقاء.
ولو أصبح الناس جميعًا متصوفين معرضين عن شواغل الدنيا، لفسدت الدنيا وبطل معنى الحياة ومعنى الزهد فيها. بيد أنه لا بد من هذه النزعة في بعض النفوس، وإلاّ قصرنا عن الشأو الأعلى في مطالب الروح، وفقدنا ثمرة التخصص لمن يحسنـه ويقـدر عليه، أو لفقدنا على حد تعبير الأستاذ العقاد ـ ثمرة القصد الحيوي الذي ينظـم لنا ثروة الروح وثروة العقول وثروة الأبدان. وهذا القصد الحيوي مكفول بشريعة القرآن في كل مطلب من هذه المطالب الروحية، فهي مباحة لمن يطيقها دون أن تُفرض على جميع المسلمين. فلا بد لهذه الإباحة، ولا بد أيضًا لهذا الإعفاء، فإنهما يجريان كلٌ في سبيله وبالقدر الذي يمنع الضرر ويفي بالمقاصد في الحالتين.
المذاهب الاجتماعية والفكرية
إذا اتسعت ديانة لقبول المذاهب الاجتماعية والفكرية، فهي من ذلك على إحدى وجهتين تتقابلان بل تختلفان إلى حد التناقض من هذه الناحية.
إما هي ديانة تنفض يدها من أعمال الدنيا، وتتجرد للمطالب الروحية أو غير الدنيوية.
وإما هي ديانة تنظر إلى الدنيا وتقيم قواعد للإصلاح الاجتماعي توجب اختيار الأوقات لتطبيقها على حسب دواعيها ومطالب البيئات.
والمقرر في المقابلة بين الأديان ـ أن المجتمع الإنساني يتطلب نصيبه من الديانة وإنْ لم تشتمل على تعرض للسياسة الاجتماعية. فالديانات جماعية وفردية، ألزم للجماعة وأولى بالقيام بها بين ظهرانيها.
وكانت البرهمية ديانة « غير دنيوية » تقوم في جوهرها على سوء العقيدة في الدنيا والاعتقاد ببطلانها مغلبة الوهم على مظاهرها وخفاياها.
ولم تتعرض المسيحية للتشريع ولا للسياسة الاجتماعية، فقد نشأت في بيئة ترجع بشرائعها المدنية إلى الدولة الرومانية التي قيل عنها إنها أم الشرائع، بينما ترجع بشرائعها الدينية إلى « الهيكل اليهودي » الذي يطلق اسم الشريعة على الدين كله. وقد صرح السيد المسيح عليه السلام بأنه ما جاء يشرع.
على أن الإسلام لم يتجنب مسائل الاجتماع لأن تجنبها ليس من طبيعة الدين، ولكنه عنى بهذه المسائل كما يجب أن تدركها عقيدة الإنسان في الجماعة البشرية.
والمذاهب الاجتماعية، ومعها المذاهب الفكرية، كثيرة تتفرع على أصولها الكبرى، وهي في هذه الآونة: الديمقراطية، والاشتراكية، والعالمية.
ويرى الأستاذ العقاد أن المسلم أحق بالديمقراطية من أتباعها المحدثين والأقدمين، لأنه من أربعة عشر قرنًا يدين بمبادئ الديمقراطية الأولى: « التبعة الفردية، والحكم بالشورى، والمساواة بين الحقوق، والمحاسبة بالقانون ».
« وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَآئِرَهُ فِي عُنُقِهِ » ( الإسراء 13 ).
« كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ » ( الطور 21 ).
« وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ » ( الشورى 38 ).
« إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ » ( الحجرات 10 ).
« يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ » ( الحجرات 13 ).
« وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً » ( الإسراء 15 ).
« وَإِن مِّنْ أُمَّةٍ إِلا خلا فِيهَا نَذِيرٌ » ( فاطر 24 ).
وإيمان المسلم بهذه المبادئ يجعله صاحب حق في اختيار ما يرتضيه من نظم الديمقراطية، بل وفَرَضَ عليه واجبُ الدين وواجبُ المصلحة ـ أن يطلب الحكم على نظام من النظم التي تتوافر لها هذه المبادئ.
* * *
وليس في عقيدة المسلم ما يصده عن مذهب من المذاهب الاشتراكية الصالحة، فهو بمبادئ الإسلام ينكر احتكار الثروة، وينكر احتكار التجارة في الأسواق، ويفرض على المجتمع كفالة أبنائه من العجزة والضعاف والمحرومين.
« كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأغْنِيَاء مِنكُمْ » ( الحشر 7 ).
ويحرم الإسلام أكل الأموال بالباطل من طريق التجارة بالديون.
« يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ الرِّبَا أَضْعَافًا مُّضَاعَفَةً وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ » ( آل عمران 130 ).
وقد ظهر في الإسلام فقهاء ـ اشتراكيون يستندون في آرائهم إلى السنن الإسلامية، ومنهم فقهاء المذهب الظاهري، وأشهرهم ابن حزم الظاهري، وله في ذلك آراء استعرضها الأستاذ العقاد بإيجاز، ليخلص منها بما فصله ابن حزم في كتابه « المحلى ».
ولا شك أنه يناسب رسالة الدين أن يستوعب مذاهب الاجتماع دون أن يستوعبه مذهب منها، فالمذاهب الاجتماعية تأتى وتذهب وتدخل عليها تعديلات وتبديلات جيلاً بعد جيل، ولا يعقل أن يتغير جوهر ويقين الإيمان بحقيقة الوجود كلما تغيرت خطة من خطط تلك المذاهب.
وقد أخذ بعض الغربيين على الإسلام أنه يعوق أعمال المصارف والشركات، وربما كان الأستاذ العقاد بحاجةٍ بكتابه سنة 1961 ـ للرد على هؤلاء، إلاَّ أن ذلك لم يعد له لزوم الآن بعد أن امتلأت الدنيا بأعمال المصارف والشركات في الدول الإسلامية.