ابتكارات البشر

من تراب الطريق (1132)

ابتكارات البشر

نشر بجريدة المال الأحد 4/7/2021

بقلم: الأستاذ/ رجائي عطية نقيب المحامين

ما نمارسه نحن البشر مما نسميه خلقًا أو ابتكارًا أو إبداعًا، لا يمكن أن يكون خلقًا كما نتصور، فالله تعالى وحده هو الذي يخلق من العدم، وما نبتكره أو نبتدعه ما هو إلاَّ حصاد موجودات سابقة، نظرنا فيها وتأملناها، واستقرت في الوعي أو في اللاوعي، وقصارانا أن نستخرج منها معاني أو دلالات أو نكون منها صورة جديدة أو مشهدًا آخر.

وعلى ذلك فإن الإبداع البشرى ما هو إلاَّ الإتيان فيما تعلم الإنسان مباشرته من قبل والتفكير فيه، ولكن بشيء أو بصورة لم يُسبق إليها سابقٌ أو كثرٌ من السابقين. ذلك أن الأبداع يقتضي وجود ما يمكن اكتسابه بالتعلم، أي بالتقليد والمحاكاة الإرادية وغير الإرادية.. فهو خلق مجازي من خلال مراحل التعلم والمحاكاة؛ وليس خلقًا من لا شيء أو من العدم.. ولا نسميه خلقًا إلاَّ من باب المجاز أو التشبيه أو الكناية. الخلق من العدم لا يصدر عن المخلوقات مهما كانت ومهما تميزت، وإنما يصدر من الخالق وحده تبارك وتعالى.

وكل القمم البشرية من أول الدهر ــــ قلدت وماتت وهي تقلد.. لأنها عاشت حياة البشر التي لم تستغن ولن تستغنى قط عن التقليد.. إذ ليس عنه غنى لوجود الجماعات صغيرها وكبيرها، ولعمار أرض الله.. بل لا بديل عنه لإقامة الحضارات ولكل صور التطور وتقدم العلوم والفنون وانتشار الإنسانية وإعلاء رايتها في العالم. كل عظيم من القمم البشرية قديمها وحديثها مقلد وكان مقلدًا وسيظل من يجود بهم الزمان مقلـدين ما داموا آدميين.. لا يخرج أحد في الماضي أو الحاضر أو المستقبل عن دائرة التقليد لأنه آدمي اعتنق ويعتنق وسيعتنق أفكـارًا وآراء وتصـورات ومعارف.. موجودة قبله أو وجدت مع وجوده.. في محيطــه أو في عصره.. ورحّبت بها استعداداته الفطرية واتفقت مع قدراتـه العقلية والبدنية، وأسس عليها أخلاقه ومشاربه وأذواقه، وتدخلت من ثم في اتجاهاته واهتماماته وأعماله.

وطبيعي أن تكون الأفكار العامة والمصدقات العامة والأساليب العامة للتفكير واحدة في المحيط أو في العصر، ولكن ليس طبيعيًا أن تكون صورها واحدة لدى كل فرد ــ فالأفراد تتعدد وتختلف وتتفاوت قدراتهم وأساليبهم في التعبير عن الأفكار، سواء بالكلمة أو بالرسم أو بالنحت أو بالموسيقى.. لذلك تتعدد الصور والأنغام والآداب.. ومع ذلك يبقى لكل فرد أسلوبه الخاص في الرسم أو في التصوير أو في التعبير أو في الصياغة أو في التمثل.. فلكل رسام ونحات وموسيقار وأديب وشاعر طابعه الخاص الذي يشكل به وفيه ما يفرزه أو يبتدعه ــ وهذا الطابع الشخصي المنفرد؛ هو الذي يحدد خصوصية الأفكار والمصدقات والأساليب التي تختلف فيها فردية الشخص عن سواه.

وغير ذلك يوجد التقليد وتوجد المحاكاة، ولا يختلف صغار الآدميين في هذا التقليد والمحاكاة عن صغار الثدييات عمومًا، فكل هذه المخلوقات يأتيها تقليد ومحاكاة مستمدة من المحيط.. وقد يصاحبها من الميلاد مستمدًّا من الخبرات الراقدة في جينات الحيوانات والطيور.. هذا وكل ما ندخله على المحاكاة من تعديل أو تطوير الصورة والشكل، إنما يأتينا بدوره من خلال التقليد.. شأننا في ذلك شأن صغار الثديات.. تعيش حياتها الأولى بتقليد الكبار تقليدًا

لا إراديًّا في الأغلب الأعمم.. خاصة في مجال الأنشطة الحيوية كالأكل والشراب والحركة.. ومع نمو الإحساس بالذات المصاحب لنمو القدرات، يبدأ الآدمي في تقليد الأباعد وفي الزهو بمخالفة الأقربين.. ويبدو هذا واضحًا جليًّا بل أكثر جلاءً في طور المراهقة، حيث يبدأ الاتصال بمحيط أكبر وأوسع من البيت ومن الوالدين والأخوة، ومع التقدم في السن، ينفرج أمامه الباب لينفتح تدريجيًّا على مصراعيه للتقليد الإرادي المبنى على الاختيار الشخصي أو على الاختيار الجماعي، هذا ووارد أن يصاحب عملية التقليد تعديلات جزئية تختلف من شخص لآخر، تمليها ميول كل شخص وخصوصية قدراته بأنواعها.

ومع تجارب الشباب وما يليه من مراحل العمر ــــ تعتبر التجارب الشخصية مجالاً أساسيًا من مجالات التقليد الإرادي وغير الإرادي. ولا يوجد آدمي ـــ ولم يوجد قط ـــ استطاع أن يتتبع كل أو معظم خيوط التقليد الكثيفة المتراكبة المعقدة التي منها يتألف تفكيره وخياله وعاداته وأخلاقه وأذواقه.. فما هي إذن فردية الآدمي ومبنى شخصيته ؟

كل تقليد يحمل طابعًا شخصيًا للمقلِّد لا يشترك فيه غيره.. بهذا المزيج الذي يجمع بين « التقليد » والطابع الشخصي يتشكل أو يكون لكل فرد وجود خاص وروح خاصة لها ـ كما يقولون ـ لونها وطعمها.. تنعكس على سلوكه وأخلاقه وعاداته على نحو ينفرد به طول حياته، وتبقى ذكراه في ذاكرة من يعرفونه.. أو يعرفون من يعرفونه متميزة عن غيره ممن عرفوهم.. ويظل هذا التميز معروفًا لزمن قد يطول قرونًا حسب حاله وحالهم.

ظني في الختام، أنه قد جهل من ظن أنه عرف !

زر الذهاب إلى الأعلى