
إقرار الذمة المالية في عصر الذكاء الاصطناعي
مقال للدكتور أحمد عبد الظاهر ـ أستاذ القانون الجنائي بجامعة القاهرة
«معالي الوزير» فيلم مصري من إنتاج عام 2002م، تأليف وحيد حامد وإخراج سمير سيف، وبطولة أحمد زكي ويسرا وعمر الحريري ولبلبة وهشام عبد الحميد. وتدور قصة هذا الفيلم حول اختيار رأفت رستم كي يكون وزيراً عن طريق الخطأ، لتشابه اسمه مع اسم شخص آخر. ورغم اختياره عن طريق الخطأ، ينجح رأفت رستم في البقاء بمنصبه فترة طويلة، وخلالها تصيبه الكوابيس بأنه تم القبض عليه، وأن أسرته تسعى إلى التخلص منه، كما يحلم أنه فقد صوته، وأنه لن يكون قادراً على صرف أمواله في البنوك السويسرية. وفي أحد مشاهد هذا الفيلم، وتحديداً في الدقيقة التاسعة والعشرين وخمسة وخمسين ثانية، وأثناء إحدى الحفلات العامة التي كان حاضراً فيها الوزير رأفت رستم، تحكي إحدى السيدات للجالسين بجوارها واقعة تتعلق بالوزير رأفت رستم، قائلة إن كل الوزراء وكبار المسؤولين يقدمون في بداية توليهم مناصبهم إقراراً بالذمة المالية، وأن رأفت رستم بدلاً من أن يدون في الإقرار الخاص به ثروته كما هي، كتب أن ثروته تبلغ خمسين مليون جنيه، وهو مبلغ يزيد كثيراً على ثروته الحقيقية. وعندما تعجبت المستمعة عن سبب كتابة هذا المبلغ الكبير، متسائلة عن السبب الذي يدفعه إلى كتابة هذا المبلغ، معتقدة أن هذا الأمر يمكن أن يشكل ورطة كبيرة بالنسبة له، جاء رد المتكلمة عليها بأن ذلك لا يشكل أي ورطة على الإطلاق. بل على العكس من ذلك، وعندما يخرج من الوزارة، سيقول إنه قد دخل الوزارة بثروة مقدراها خمسين مليون جنيه، وخرج منها بخمسة وأربعين مليوناً فقط.
وهكذا، فإن الإجراء الذي يقصد به مكافحة الفساد والحيلولة دون حدوثه، قد يكون هو ذاته إحدى الوسائل المؤدية إلى التمويه والتغطية على وقائع الفساد. وبالإضافة إلى ذلك، فإن إقرار الذمة المالية، إذا لم يتم التعامل معه بالفحص والدراسة أولاً بأول، قد يكون سنداً للشخص على مشروعية أمواله في المستقبل. بيان ذلك أن عدد الأشخاص الملزمين بتقديم إقرار الذمة المالية في جمهورية مصر العربية على سبيل المثال يتجاوز المليون شخص سنوياً. ومن ثم، يغدو من الطبيعي التساؤل عن الآلية التي يتم من خلالها فحص كل هذه الإقرارات سنوياً. وغني عن البيان أن عدم فحص إقرار الذمة المالية أولاً بأول، وبالجدية المطلوبة، قد يكون غطاءً للفساد، بدلاً من أن يكون وسيلة لكشفه ومكافحته. وغني عن البيان كذلك أن تضخم الثروات بشكل طبيعي ومشروع غدا سريعاً ومتعاظماً في الوقت الراهن، وذلك بحكم القفزات الهائلة في أسعار بعض القيم المادية، بحيث أصبح من غير الميسور على جهات إنفاذ القانون فحص إقرارات الذمة المالية، والوقوف على أسباب تضخم الثروة، وما إذا كان بشكل مشروع أم بشكل غير مشروع. ويتطلب ذلك تحقيقاً واستدعاء للشخص لسؤاله عن أسباب التضخم في ثروته، الأمر الذي يمكن أن يشكل إرهاقاً لذوي الشأن، ويتسبب بالتالي في هروب رؤوس الأموال إلى الخارج، والبحث عن دول أكثر مرونة ويسراً في إجراءاتها الإدارية.
ويتم في الغالب تبرير إقرار الذمة المالية بأنه أحد وسائل مكافحة الفساد. ففي جمهورية مصر العربية، على سبيل المثال، ورد النص على هذا الإجراء في المادة الثالثة من قانون الكسب غير المشروع، الصادر بالقانون رقم 62 لسنة 1975م. وفي المملكة الأردنية الهاشمية، صدر أولاً قانون إشهار الذمة المالية رقم 54 لسنة 2006م، والذي ألغي وحله محله قانون الكسب غير المشروع رقم 21 لسنة 2014م. وفي الجمهورية التونسية، صدر القانون عدد 46 لسنة 2018 مؤرخ في 1 أوت 2018 يتعلق بالتصريح بالمكاسب والمصالح وبمكافحة الإثراء غير المشروع وتضارب المصالح. وهذه القوانين سالفة الذكر معروفة على نطاق واسع تحت اسم «من أين لك هذا؟».
وكعادتي في التعامل مع أي موضوع، فإن القاعدة الجوهرية التي أتساءل عنها دائماً هي ذاتها القاعدة الأساسية الحاكمة لعلم التخطيط الاستراتيجي، وهي أن «ما لا يمكن قياسه لا يمكن إدارته، وما لا يمكن إدارته لا يمكن تطويره». ومن هذه القاعدة، تم اشتقاق واستحداث مؤشرات الأداء الرئيسية (KPIs). وبتطبيق هذه القاعدة على الموضوع الذي نحن بصدده، يبدو من الطبيعي أن نتساءل عن المردود العملي لإقرار الذمة المالية، والتساؤل عن مدى فعالية هذا الإجراء فعلاً في الحد من ممارسات الفساد وعدد الحالات التي أمكن الكشف عنها من خلال إقرارات الذمة المالية. ومن خلال الأرقام وأدوات القياس، يمكن الحكم فعلاً على مدى نجاعة هذا الإجراء، وبالتالي اتخاذ القرار المناسب بشأن مدى ملاءمة الإبقاء عليه أو إلغاءه.
ولعل مما يؤكد على أهمية التساؤلات سالفة الذكر هو أن تقارير الشفافية الدولية ومؤشرات الفساد تظهر عدم الارتباط بين ترتيب الدولة في مؤشر الفساد وبين إقرار الذمة المالية. وبعبارة أخرى، فقد يكون لدى بعض الدول قانون للكسب غير المشروع ويكون لديها نظام لإقرار الذمة المالية، ومع ذلك يكون ترتيبها في تقارير الشفافية الدولية ومؤشرات مكافحة الفساد متدنياً. وفي المقابل، قد لا يكون لدى الدولة قانون للكسب غير المشروع، ولا يكون لديها بالتالي نظام إقرار الذمة المالية، ومع ذلك يكون ترتيب هذه الدولة في تقارير الشفافية الدولية ومؤشرات مكافحة الفساد متميزاً.
وقد يعتقد البعض أن هذا النظام يجد سنداً له في اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد، وعلى وجه التحديد المادة الثامنة البند الخامس منها، والتي تنص على أن «تسعى كل دولة طرف، عند الاقتضاء ووفقاً للمبادئ الأساسية لقانونها الداخلي، إلى وضع تدابير ونظم تلزم الموظفين العموميين بأن يفصحوا للسلطات المعنية عن أشياء منها ما لهم من أنشطة خارجية وعمل وظيفي واستثمارات وموجودات وهبات أو منافع كبيرة قد تفضي إلى تضارب في المصالح مع مهامهم كموظفين عموميين». والواقع أن هذه المادة قد وردت تحت عنوان «مدونات قواعد سلوك للموظفين العموميين». وهذه المادة تتعلق بتضارب المصالح، ولا شأن لها بالكسب غير المشروع. فهذه المادة تحكم عمل الوزير أو المسؤول أو الموظف الحكومي أثناء ممارسة عمله، بما يحول دون تضارب المصالح، ولا علاقة لها في رأينا بالكسب غير المشروع أو قيام الشخص بتبرير مصدر أمواله.
وما دمنا نتناول هذا الموضوع، ونحن في منتصف العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين، وبعد مرور أكثر من عقد كامل على بداية الثورة الصناعية الرابعة، يغدو من الطبيعي التساؤل عن مدى الحاجة إلى هذا النظام في ظل الثورة التكنولوجية الهائلة التي يشهدها عالم اليوم من خلال ظهور العديد من التطبيقات الذكية وظهور نظام الشمول المالي، بحيث غدا العالم كتاباً مفتوحاً، وأصبحت كل حياة المرء تحت المجهر، وبحيث يشكو البعض من تضاؤل المساحة المخصصة لحرمة الحياة الخاصة. فمن خلال مبدأ الشمول المالي، والاعتماد على المعاملات البنكية في كافة الأنشطة الحياتية، غدا ممكناً معرفة كل أنشطة الفرد اليومية من خلال معاملاته البنكية الالكترونية. وفي ظل هذه المنظومة، لم يعد ممكناً إيداع أي مبلغ مالي في الحساب البنكي، بدون الوقوف على حقيقة مصدره. ولم يعد ممكناً نقل الأموال السائلة عبر الحدود، إلا بعد الإفصاح عنها، متى تجاوزت قيمة المال مبلغاً معيناً. وقد اهتم المشرع الاتحادي لدولة الإمارات العربية المتحدة بهذه الآليات، فصدر المرسوم بقانون اتحادي رقم (30) لسنة 2024 بشأن المنصة الرقمية «اعرف عميلك». وتحت عنوان «الإفصاح»، تنص المادة العاشرة من المرسوم بقانون اتحادي رقم (10) لسنة 2025 في شأن مواجهة جرائم غسل الأموال ومكافحة تمويل الإرهاب وتمويل انتشار التسلح على أن «يجب على أي شخص أن يُفصح عندما يُدِخل إلى الدولة أو يُخرِج منها عملات أو أدوات مالية لحاملها قابلة للتداول أو معادن ثمينة أو أحجار ذات قيمة، وفقاً لنظام الإفصاح الذي تصدره الهيئة الاتحادية للهوية والجنسية والجمارك وأمن المنافذ بالتنسيق مع المصرف المركزي». كذلك، فإن كافة عمليات البيع والشراء للعقارات خاضعة لنظام التسجيل العيني أو العقاري. فالقاعدة القانونية المقررة هي أن ملكية العقار لا تنتقل سوى بالتسجيل. ومن خلال الربط الالكتروني بين الجهات الحكومية (G2G) أو خدمات الحكومة المترابطة (Connected government)، غدا ممكناً الوقوف على كل ممتلكات الشخص، وبحيث يمكن معرفة كل ما يملك من خلال بيانات بطاقة الهوية الخاصة به.
ومن ثم، يبدو سائغاً التساؤل عن مدى ضرورة ومدى جدوى إقرار الذمة المالية. وغني عن البيان أن استحداث إجراء غير ضروري وغير مجدي قد يقلل من تنافسية الدولة، لاسيما وأن دول العالم كافة تتنافس حالياً في اجتذاب رؤوس الأموال الأجنبية، ومن بينها رأس المال الوطني. ويبدو أن بعض الدول قد فطنت إلى ذلك، فحاولت قدر الإمكان التخفيف من حدة تطبيق نظام الإفصاح عن الذمة المالية، وبحيث لم تتطلب تقديم الإفصاح بشكل سنوي. بل إن بعض الدول قد عمدت إلى إطالة المدة التي يلتزم الموظف بالإفصاح عنها، بحيث أصبحت أربع سنوات بدلاً من ثلاث. بيان ذلك أن دولة الكويت قد عمدت مؤخراً إلى إصدار المرسوم بقانون رقم 69 لسنة 2025 بتعديل بعض أحكام القانون رقم 2 لسنة 2016 في شأن إنشاء الهيئة العامة لمكافحة الفساد والأحكام الخاصة بالكشف عن الذمة المالية، وبحيث تم تعديل المادة 32 البند الثاني منه، والذي أصبح نصه كما يلي: «تحديث الإقرار خلال ستين يوما من نهاية كل أربع سنوات، ما بقي في شغل أي من المناصب الخاضعة لأحكام هذا الباب».
ومن خلال العرض السابق، ومتى ثبت عدم ضرورة وعدم جدوى نظام إقرار الذمة المالية، يغدو من المناسب النظر في إلغاء هذا النظام أو على الأقل تطويره.