إرادة وفكر الآدمي بين الجمود والتطور (5)
من تراب الطريق (1062)
إرادة وفكر الآدمي بين الجمود والتطور (5)
نشر بجريدة المال الأربعاء 17/3/2021
بقلم: الأستاذ/ رجائي عطية نقيب المحامين
علم الله تعالى أن القرآن الكريم كامل مكمل بأفهام أجيال أهله المتتابعة في الاقتدار على زيادة المعارف منه، من خلال نصوصه المحكمة الحكيمة القابلة للفهم إلى ما لا آخر له من العقل البشرى الممتد دائمًا إلى مستقبل لا يعرف نهايته إلاّ الخالق جلّ وعلا.. إذ لا يتوقف العقل البشرى عن النمو في سيرته المتجهة إلى المستقبل.. ينمو دائمًا تاركًا متجاوزًا مبتعدًا عن تشبث الذين تجمدوا وتمسكوا وتزمتوا وتوقفوا في الزمان والمكان عندما ربطوا وقيدوا حياة كل منهم بما سموه التقاليد في نظرهم.. وهم لا يدرون حقيقة ما اختاروا إلى أن فارقوا هذه الدنيا.. فدنيانا دائمًا، أردنا أو لم نرد ـ دنيا غد، وليست، ولن تكون دنيا أمس جامدة
عليه !.. والآدمي يخطئ ويصدق ويجهل ليعرف كما يكذب ويصيب والعكس.. فنحن جميعًا ودائمًا منافذ فقط إلى أن تنتهي.. ونوافذنا تتوالى لدى كل منا بطيئة أو سريعة.. مكررة أو غير مكررة.. سطحية مألوفة تتشابه وتزول، أو لاحقة عميقة نادرة يصعب أن يحاكيها الآخرون..
ونحن جميعًا في كل عصر وصوب ووجهة ـ بين عادى وغير عادى في تمييزنا بعضنا لبعض نقصًا وزيادةً وبعدًا وقربًا وتأخرًا وتقدمًا.. فضلاً عن المنحل والمألوف.. وذلك غير أهل المكر والخبث والطمع والجشع والغلظة والقسوة والجبروت والافتراس ـ وربما زَيَّفَ زماننا هذا الواقع ـ فيتخذ الثراء الهائل وجلال وجمال القصور والدور وأبهـة الحشـم والخـدم وأناقـة الاستعداد والخدمة والحفاوة ـ لإخفاء حقيقته التي لا ترى شيئًا في الوجود كله جديرًا بالرؤية والقيمة إلاّ « الأنا » !
فالأنا للذين لا يعيشون بدونها قط في اليقظة والنوم وفي الصحة والمرض وفي النفع والضرر وفي الأمل واليأس.. « الأنا » لدى هؤلاء هي كل الوجود الفعلي الذي يعيشونه ويعاش دون غيره ممن ضحوا ومستعدون أيضا أن يضحوا بحياتهم.. وهؤلاء دائمًا غير كثيرين.. يضحون ويؤثرون على أنفسهم وقد يرخصونها دائمًا أملاً في نفع وحث كثرة الكثيرين الحريصين ما أمكنهم على حياة أيًّا كانت مدتها !
فالدين الحقيقي دائمًا خلاف التدين الآدمي.. وقلما يتفقان بل يندر جدًّا أن يتحدا فعلاً وحقيقةً.. ولذا عاش تدين الآدميين في زمنه وعصره جيلاً بعد جيل لا يفارق وقته وجيله ودهره، ولا يسبق زمان مستقبليه ومكانهم.. لأنهم متوالون يبدأون صغارًا حتمًا.. يسبق سابقهم لاحقهم، ويترك ميتهم حيّهم إلى أمد ليزور الموت كل حىّ مع حتفه المكتوب له.. وتزور الحياة مولد المولود المكتوب له من حياته قصيرة أو طويلة ـ علمًا بأن كل حىّ هو دائمًا أسُّ حياته مادام حيًّا.. لا يفارقها ولا يتصور وجود غيرها لنفسه، كما لا يتصور وجود غيرها إلاّ مع وجود نفسه، ولا يدرى بَعْديّةً بعد موته إلاّ في عالم آخر لا صلة له البتة بعالمنا هنا بأناه وتركيباته وملاذه وآلامه وأمسه وغده ووجوده وعدمه وسابقه ولاحقه وما عرفناه ونعرفه وسنعرفه قبل أن ينتهى أجل كل منَّا في هذه الدنيا.. صحيحًا كان ما عرفناه أو غير صحيح.. ما نعرفه هو دائمًا ابن وقته.. يبدو ويظهر ويتم ويختفي.. وهكذا تتوالى مراته مكررة أو متشابهة أو مختلفة إبان عمر كل منا.. قلمًّا يحفل بتغيرها إلاّ فيما ندر فضلاً عن نسيانه ماضيها في الأعم الأغلب إلى أن يغادر الدنيا، فتقفل المسيرة والسيرة من دنياه نهائيًّا.. فلا يعرف الحىّ أباه الذي مات إلاّ أنه قد زال من الوجود الحاضر الحىّ فلم يبق منه شىء إلاّ رفات وعظام لا تسمن ولا تغنى من جوع.. خلا أشياء وأشلاء وبقايا تشهد بالفناء تأكلها الأرض بقدر ما تستطيع مع الحشرات أو الوحوش التي لا تأبى العفن !
فنحن نكرم موتانا بقدر استطاعة الحىّ للميت فقط.. لا ندرى كيف ومتى وأنَّى وأين يعود الإنسان إلى آخرته التي لم يعرفها من قبل يقينًا.. وهذه لا يراها الحىّ إلاّ عن بعد البعد الذي لم يستطع أن يشهده في حياته الدنيا التي شاهدها طفلاً وأنهاها شيخًا إن امتد عمره الحىّ.. ذلك البعد الذي يندر عادة أن يبلغه حىّ إلاّ نادرًا.. وفيه يهبط مستوى العقل درجات ويزداد نسيانًا وغفلةً يومًا بعد يوم تدحرجًا واستمرارًا في الابتعاد والسهو والقصور والخطأ وقلة الالتفات واليقظة والتنبيه والوعى، كأنه إنما يعيش شبه حىّ فقط في انتظار الانطفاء التام.. هذا الذي يصفه القرآن المجيد في حكمة قد لا يدركها الحىّ في شبابه وعنفوانه، فيقول رب العزة: « وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مِن بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا » ( الحج 5 ).
نشر بجريدة المال الأربعاء 17/3/2021
بقلم: الأستاذ/ رجائي عطية نقيب المحامين
علم الله تعالى أن القرآن الكريم كامل مكمل بأفهام أجيال أهله المتتابعة في الاقتدار على زيادة المعارف منه، من خلال نصوصه المحكمة الحكيمة القابلة للفهم إلى ما لا آخر له من العقل البشرى الممتد دائمًا إلى مستقبل لا يعرف نهايته إلاّ الخالق جلّ وعلا.. إذ لا يتوقف العقل البشرى عن النمو في سيرته المتجهة إلى المستقبل.. ينمو دائمًا تاركًا متجاوزًا مبتعدًا عن تشبث الذين تجمدوا وتمسكوا وتزمتوا وتوقفوا في الزمان والمكان عندما ربطوا وقيدوا حياة كل منهم بما سموه التقاليد في نظرهم.. وهم لا يدرون حقيقة ما اختاروا إلى أن فارقوا هذه الدنيا.. فدنيانا دائمًا، أردنا أو لم نرد ـ دنيا غد، وليست، ولن تكون دنيا أمس جامدة
عليه !.. والآدمي يخطئ ويصدق ويجهل ليعرف كما يكذب ويصيب والعكس.. فنحن جميعًا ودائمًا منافذ فقط إلى أن تنتهي.. ونوافذنا تتوالى لدى كل منا بطيئة أو سريعة.. مكررة أو غير مكررة.. سطحية مألوفة تتشابه وتزول، أو لاحقة عميقة نادرة يصعب أن يحاكيها الآخرون..
ونحن جميعًا في كل عصر وصوب ووجهة ـ بين عادى وغير عادى في تمييزنا بعضنا لبعض نقصًا وزيادةً وبعدًا وقربًا وتأخرًا وتقدمًا.. فضلاً عن المنحل والمألوف.. وذلك غير أهل المكر والخبث والطمع والجشع والغلظة والقسوة والجبروت والافتراس ـ وربما زَيَّفَ زماننا هذا الواقع ـ فيتخذ الثراء الهائل وجلال وجمال القصور والدور وأبهـة الحشـم والخـدم وأناقـة الاستعداد والخدمة والحفاوة ـ لإخفاء حقيقته التي لا ترى شيئًا في الوجود كله جديرًا بالرؤية والقيمة إلاّ « الأنا » !
فالأنا للذين لا يعيشون بدونها قط في اليقظة والنوم وفي الصحة والمرض وفي النفع والضرر وفي الأمل واليأس.. « الأنا » لدى هؤلاء هي كل الوجود الفعلي الذي يعيشونه ويعاش دون غيره ممن ضحوا ومستعدون أيضا أن يضحوا بحياتهم.. وهؤلاء دائمًا غير كثيرين.. يضحون ويؤثرون على أنفسهم وقد يرخصونها دائمًا أملاً في نفع وحث كثرة الكثيرين الحريصين ما أمكنهم على حياة أيًّا كانت مدتها !
فالدين الحقيقي دائمًا خلاف التدين الآدمي.. وقلما يتفقان بل يندر جدًّا أن يتحدا فعلاً وحقيقةً.. ولذا عاش تدين الآدميين في زمنه وعصره جيلاً بعد جيل لا يفارق وقته وجيله ودهره، ولا يسبق زمان مستقبليه ومكانهم.. لأنهم متوالون يبدأون صغارًا حتمًا.. يسبق سابقهم لاحقهم، ويترك ميتهم حيّهم إلى أمد ليزور الموت كل حىّ مع حتفه المكتوب له.. وتزور الحياة مولد المولود المكتوب له من حياته قصيرة أو طويلة ـ علمًا بأن كل حىّ هو دائمًا أسُّ حياته مادام حيًّا.. لا يفارقها ولا يتصور وجود غيرها لنفسه، كما لا يتصور وجود غيرها إلاّ مع وجود نفسه، ولا يدرى بَعْديّةً بعد موته إلاّ في عالم آخر لا صلة له البتة بعالمنا هنا بأناه وتركيباته وملاذه وآلامه وأمسه وغده ووجوده وعدمه وسابقه ولاحقه وما عرفناه ونعرفه وسنعرفه قبل أن ينتهى أجل كل منَّا في هذه الدنيا.. صحيحًا كان ما عرفناه أو غير صحيح.. ما نعرفه هو دائمًا ابن وقته.. يبدو ويظهر ويتم ويختفي.. وهكذا تتوالى مراته مكررة أو متشابهة أو مختلفة إبان عمر كل منا.. قلمًّا يحفل بتغيرها إلاّ فيما ندر فضلاً عن نسيانه ماضيها في الأعم الأغلب إلى أن يغادر الدنيا، فتقفل المسيرة والسيرة من دنياه نهائيًّا.. فلا يعرف الحىّ أباه الذي مات إلاّ أنه قد زال من الوجود الحاضر الحىّ فلم يبق منه شىء إلاّ رفات وعظام لا تسمن ولا تغنى من جوع.. خلا أشياء وأشلاء وبقايا تشهد بالفناء تأكلها الأرض بقدر ما تستطيع مع الحشرات أو الوحوش التي لا تأبى العفن !
فنحن نكرم موتانا بقدر استطاعة الحىّ للميت فقط.. لا ندرى كيف ومتى وأنَّى وأين يعود الإنسان إلى آخرته التي لم يعرفها من قبل يقينًا.. وهذه لا يراها الحىّ إلاّ عن بعد البعد الذي لم يستطع أن يشهده في حياته الدنيا التي شاهدها طفلاً وأنهاها شيخًا إن امتد عمره الحىّ.. ذلك البعد الذي يندر عادة أن يبلغه حىّ إلاّ نادرًا.. وفيه يهبط مستوى العقل درجات ويزداد نسيانًا وغفلةً يومًا بعد يوم تدحرجًا واستمرارًا في الابتعاد والسهو والقصور والخطأ وقلة الالتفات واليقظة والتنبيه والوعى، كأنه إنما يعيش شبه حىّ فقط في انتظار الانطفاء التام.. هذا الذي يصفه القرآن المجيد في حكمة قد لا يدركها الحىّ في شبابه وعنفوانه، فيقول رب العزة: « وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مِن بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا » ( الحج 5 ).