إدارة المخاطر في مهنة المحاماة (2)
بقلم/ الدكتور أحمد عبد الظاهر أستاذ القانون الجنائي بجامعة القاهرة
في ختام المقال المنشور الأسبوع الماضي بموقع نقابة المحامين، تحت العنوان ذاته، ارتأيت من الملائم دعوة نقابة المحامين إلى عقد بعض الورش والندوات التي يسهم فيها المتخصصين في علم إدارة الأزمات، بالإضافة إلى كبار المحامين، وذلك بقصد تحديد المخاطر التي يمكن أن تتعرض لها مكاتب المحاماة، ثم البحث في السبل الكفيلة بتفادي هذه المخاطر أو على الأقل تقليل آثارها.
وارتأيت من المناسب أيضاً تخصيص مقال آخر للحديث عن بعض هذه المخاطر التي تحيط بممارسة مهنة المحاماة والتدابير التي يمكن تنفيذها وتطبيقها في مواجهتها، ويبدو أن تفاعل القراء والإيجابية المعهودة منهم كانت أسرع وأنجع في اقتراح الحلول والتدابير التي يمكن أن تكون معيناً في بناء خطة إدارة المخاطر في مهنة المحاماة، حيث وردت إلى العديد من تعليقات الأصدقاء والقراء على مقال الأسبوع الماضي، سواء كان ذلك عبر الواتس آب أو عبر الفيس بوك.
وكم كان رائعاً أن يعبر بعض القضاة وأصحاب المهن الأخرى عن شعورهم الإيجابي تجاه المحامين في مواجهة أزمة كورونا، وعلى سبيل المثال، وفي تعليق على صفحتي الشخصية على الفيس بوك، يقول الصديق العزيز معالي المستشار الجليل عصام منير عبد الوهاب خليل، رئيس محكمة الاستئناف، فإن موضوع إدارة المخاطر في مهنة المحاماة «ذو أهمية قصوى نظرا لأن العاملين بهذه المهنة كثر عن باقي المهن الحرة الأخرى والسواد الأعظم منهم من غير القادرين على تحمل تبعة توقف عملهم الذي هو مصدر دخلهم الوحيد لوقت غير معلوم».
وفي ذات الإطار، وفي تعليق على صفحتي الشخصية على الفيس بوك، يقول الصديق العزيز المهندس الفاضل محمد عبد اللطيف عبادي: «لقد أثرت قضية من أهم القضايا التي تشغل بال قطاع كبير من طبقة المحامين والتي تأثرت بشكل واضح بما حدث في مصر والعالم أجمع بانتشار فيرس كورونا… ونتفق معكم بأن هذه الفئة قد تأثرت بالجزء الأكبر من تلك الأزمة ومن حقها بأن تعيش في مستوى لائق بها الأمر الذي ينعكس نفسيا وسلوكيا على معدل الأداء».
من ناحية أخرى، يبدو أن بعض القراء قد أرادوا التأكيد على أن استراتيجية إدارة المخاطر لا تقتصر على مهنة المحاماة فقط، وإنما تمتد إلى غيرها من المهن الأخرى، في تعليق على صفحتي الشخصية بموقع الفيس بوك، يقول الصديق العزيز المهندس الفاضل علاء مبروك إن «كل المهن بها مخاطر مع اختلاف العمل». ومع تسليمنا بصحة هذا القول، فإن الملاحظ هو أن الدراسات والبحوث والمقالات ذات الصلة بإدارة المخاطر في مهنة المحاماة تبقى قليلة أو نادرة بالمقارنة بالدراسات والبحوث والمقالات المتعلقة بإدارة المخاطر في المهن الأخرى.
وللتدليل على ذلك، وعند كتابة عبارة «إدارة المخاطر» على محرك البحث جوجل، سوف تظهر لك النتائج الآتية: (إدارة المخاطر في مشاريع التشييد – إدارة المخاطر في البنوك – إدارة المخاطر في مشاريع البناء – إدارة المخاطر في مؤسسات التأمين التجاري – إدارة المخاطر مؤسسات التمويل الأصغر – إدارة المخاطر في مجال الموارد البشرية – إدارة المخاطر في مؤسسات القطاع الثالث – إدارة المخاطر في مؤسسات التعليم العالي – إدارة المخاطر في مؤسسات التأمين – إدارة المخاطر في مؤسسة النقد – إدارة المخاطر في مشاريع أنظمة المعلومات – إدارة المخاطر في الجامعات – إدارة المخاطر في المؤسسات الحكومية – إدارة المخاطر في شركات التأمين). في المقابل، لن تظهر لك على محرك البحث جوجل أي نتيجة تتعلق بإدارة المخاطر في مهنة المحاماة.
وعلى هذا النحو، وإزاء ندرة الدراسات ذات الصلة بإدارة المخاطر في مهنة المحاماة، يبدو من المناسب أن نشرع في بناء اللبنة الأولى في هذا الإطار، ومن هنا تبدو أهمية المقترحات الصادرة عن بعض الأصدقاء والقراء بشأن تدابير وآليات مواجهة الأزمات التي قد تحيط بمهنة المحاماة، ويبدو من المهم بالتالي الإشارة إلى هذه المقترحات أو الآراء. ففي رسالة عبر الواتس آب، اقترح الصديق العزيز الأستاذ نبيل سعيد، المدقق القانوني الأول بالجهاز المركزي للمحاسبات، أن يكون هناك صندوق تكافل في النقابة يقتطع فيه نسبة من اشتراكات المحامين ويدعم من النقابة لمواجهة هذه الحالات. ورداً على الاقتراح، أرى أن الحلول التكافلية مهمة ولكن ليست كافية.. إن أي حلول تكافلية مهما بلغ حجمها لن تكون كافية لعلاج المشكلة، ولذلك يجب ابتكار وابتداع حلول أخرى تكفل حسن سير المهنة والحفاظ على انتظام عملها رغم الكوارث والأزمات.
ويبدو جلياً أن هذا الاقتراح يعالج الحالة التي يتوقف فيها النشاط، وبحيث يتسنى صرف مبلغ من المال لكل مكتب محاماة أو لكل محام ممارس للنشاط. وكما سبق أن قلنا، فإن أهم مبدأ في إدارة الأزمة هو القدرة على تجنب الأزمة، أي إن أعظم ما في علم إدارة الأزمات هو منعها إن أمكن، أو القدرة على التنبؤ بها مبكراً – إن أمكن – وجمع كافة المعلومات الأساسية اللازمة للوقوف على حجم الأزمة وتداعياتها واتخاذ التدابير والوسائل وتدبير الموارد البشرية والإمكانيات اللازمة للتعامل معها. وفى حالة أزمات الكوارث الطبيعية، فإن الحالة تتحول أحياناً إلى إدارة الأضرار، بمعنى أن «قوة أضرار الطبيعة تكون مدمرة وكاسحة للبلاد والممتلكات والبشر، بقدر يصعب تجنبه»، ويصبح المتاح الوحيد لدى جهات إدارة الأزمة هو تخفيف الأضرار بأكثر الوسائل سرعة وكفاءة وإنسانية.
ويؤيد ذلك أن المبدأ القانوني المقرر هو دوام وانتظام سير المرفق العام. والمقصود بالمرفق العام هنا هو مرفق القضاء، وبحيث يتعين البحث عن السبل الكفيلة بضمان سير واستمرار سير عمل المحاكم. ولما كانت المحاماة تشارك السلطة القضائية في تحقيق رسالة العدالة وتأكيد سيادة القانون وكفالة حق الدفاع عن الحقوق والحريات، فإن خطة إدارة المخاطر في مهنة المحاماة ينبغي أن تستهدف دوام واستمرار نشاط هذه المهنة السامية.
وفي تعليق منشور على صفحتي العامة على الفيس بوك، يقول الأستاذ الجليل طاهر محمد الوراقي، المحامي بالنقض: «إن كان هذا من ناحية المخاطر العامة، ولكن هناك مخاطر خاصة تصيب محامي بعينه (أثناء ممارسة أعمال المهنة وبسببها) فكيف تكون النقابة ملزمة بالتدخل (وهي قانونا كذلك) وكيف تباشر مهام الدفاع عن الزميل؟ وهل للخبرات السابقة دور بما يوجب تسجيل الحادثات واستخلاص الخبرة والحكمة منها». والواقع أن هذا القول صحيح تماماً، حيث إن المخاطر قد تكون عامة كما هو الشأن أزمة تفشي فيروس كورونا المستجد (كوفيد 19)، وقد تكون خاصة قاصرة على محام بعينه أو مكتب محاماة بذاته. وفيما يتعلق بالمخاطر الخاصة، فإن التجارب الخاصة للمحامين أنفسهم يمكن أن تكون عاملاً مهماً في بناء خطة المخاطر في مهنة المحاماة، ويحدث فعلاً أن يطبق المحامي فعلاً بعض الأفكار والمبادرات التي ينطبق عليها فعلاً منطق إدارة المخاطر، الأمر الذي سوف نحاول تبيانه في هذا المقال.
وفيما يتعلق بالأزمات العامة، وفي تعليق على صفحتي الشخصية على الفيس بوك، يقول الصديق العزيز الدكتور أحمد الدمرداش: «الأزمات التي يتعرض لها المحامي الحر ومكاتب المحاماة تحتاج إلى أن تكون هناك لجنة داخل النقابة العامة للمحامين وكذلك النقابات الفرعية تسمى لجنة إدارة الأزمات وأن تكون هذه اللجنة على دراية كاملة بالأزمات المتوقعة وكيفية إدارتها والوقاية منها ووضع الآليات المناسبة للسيطرة على هذه الأزمات باعتبار أن نقابة المحامين هي المسئولة عن المحامين ومكاتبهم الخاصة».
أما فيما يتعلق بالأزمات الخاصة، قد يكون من المناسب بيان أبرز التحديات أو المخاطر التي تواجه مكتب المحاماة حتى يتسنى وضع الحلول والتدابير المناسبة لها. وهكذا، وفي مقال منشور باللغة الإنجليزية في مجلة (Business Town)، تم تعداد أكبر سبعة تحديات تواجه مكاتب المحاماة اليوم فيما يتعلق بإدارة المخاطر. فمع تطور التكنولوجيا واستمرار العالم في أن يصبح أكثر سرعة وترابطًا، أصبح الحفاظ على أمن مكاتب المحاماة وإدارة المخاطر المرتبطة بها أكثر صعوبة. ولذلك، لا بد من تطبيق ممارسات أكثر تعقيداً لإدارة المخاطر بهدف الحفاظ على آمن ونجاح الشركات.
ومع ذلك، فإن تحديات إدارة المخاطر ليست متساوية، فالبعض منها يخلق مشكلة أكبر لشركات المحاماة بالمقارنة مع غيرها، ويحدد المقال أكبر سبعة تحديات تواجه هذه المكاتب فيما يتعلق بإدارة المخاطر اليوم. ومن خلال فهم هذه التحديات، يمكن لشركة أو مكتب المحاماة أو المحامي الفرد تبني ممارسات تقلل من التحديات وتحافظ على شركته أو مكتبه آمناً قدر الإمكان، ويعتبر هذا الأمر في غاية الأهمية بالنسبة لمكاتب المحاماة حيث يتم التعامل مع المعلومات الحساسة والسرية للعملاء، إذ أن أصغر خرق للأمن يمكن أن يؤدي إلى عواقب وخيمة.
وأول التحديات التي يذكرها المقال هي «التهديدات السيبرانية»، حيث يبدو جلياً للعيان أنه لا يكاد يمر يوم لا نسمع فيه عن خرق جديد للبيانات أدى إلى اختراق المعلومات الشخصية لمئات أو آلاف أو حتى ملايين الأشخاص. يمكن أن يؤدي هذا إلى كارثة بالنسبة لشركة محاماة حيث يعتمد العملاء عليك للمساعدة في الأمور القانونية الشخصية والحفاظ على سريتها.
أما ثاني التحديات أو المخاطر، فيتمثل في «البرامج الضارة والفيروسات بكافة أشكالها»، حيث غالباً ما تصل هذه التهديدات الإلكترونية الخادعة على جهاز كمبيوتر المستخدم دون اكتشافها حتى حدوث الضرر بالفعل، إذ عادةً ما يتم تفعيل هذه الفيروسات عند تنزيل ملفات غير ضارة في ظاهرها.
وإذا كانت شركتك تعتمد على المواد القابلة للتنزيل مثل نماذج المحاكم الرسمية والقانونية، فإن فحص مقدمي الخدمة عبر الإنترنت أمر بالغ الأهمية. يمكن أن تؤدي الفيروسات والبرامج الضارة إلى تشفير الملفات وغيرها من المشكلات التي تترك البيانات والملفات الحيوية غير قابلة للوصول، بالإضافة إلى ذلك، إذا لم يتم احتواؤها فيمكنها الانتشار بسرعة عبر كامل الشبكة.
وثالث التحديات يكمن في «الإهمال أو الخطأ البشري»، حيث عادة ما يرتكب الناس أخطاء ويمكن أن تكون هذه الأخطاء مكلفة لشركة محاماة، فأي بيانات يتم إدخالها بشكل خاطئ أو تنزيل ملف يحتوي على فيروس يمكن أن يؤدي إلى كارثة لشركة محاماة، ومن ثم، يتعين على صاحب أو مدير مكتب المحاماة أن يتأكد من حصول فريقه المهني والتقني والإداري على التدريب المناسب حول أفضل السبل لتجنب الأخطاء والمساعدة في إدارة المخاطر.
ورابع التحديات التي يذكرها المقال هو «سرعة التقدم التكنولوجي»، إذ أنه مع تقدم التكنولوجيا، قد يكون من الصعب حتى على أذكى فرق تكنولوجيا المعلومات مواكبة هذا التطور، وهذا يترك فرصاً للقراصنة وغيرهم من الأشرار للاستفادة من الأنظمة الضعيفة وكشف أو سرقة البيانات السرية، ومن ثم، يجب على شركة أو مكتب المحاماة أن يبذل قصارى جهده لمواكبة أحدث تقنيات واستراتيجيات إدارة المخاطر لضمان عدم تخلف شركته عن الركب.
وخامس التحديات التي يعددها المقال هو «عمليات الدمج والاستحواذ»، مؤكداً أنه عند اندماج شركة مع أخرى أو الاستحواذ عليها، سيتم مشاركة البيانات، مما يجعلها معرضة لخطر أكبر، وحيث إن هذه العمليات قد تكون ضرورية في كثير من الأحيان لنمو شركة المحاماة بشكل مستمر، يتعين على صاحب أو مدير المكتب أن يذكر نفسه بضرورة أن يكون مستعداً بشكل صحيح قبل مشاركة أو أخذ معلومات العملاء والبيانات الأخرى.
وسادس التحديات التي يذكرها المقال يتعلق بما أسماه «التقنيات المحمولة في المكاتب»، مبيناً أنه مع استمرار تطور مكان العمل ووصول الأشخاص إلى البيانات والملفات من أكثر من موقع، هناك فرصة أكبر لخرق البيانات أو الهجوم الإلكتروني أو غير ذلك من المشكلات الأمنية المحتملة، ولذلك من الضروري جداً فهم كيفية عمل التقنيات المحمولة لتقليل مخاطر فقدان معلومات العميل السرية أو سرقتها أو تلفها.
وأخيراً، يذكر المقال سابع التحديات التي يمكن أن يوجهها مكتب أو شركة المحاماة، مؤكداً أنه يتمثل فيما أطلق عليه «الأمور المجهولة»، وفي بيان هذا التحدي، يضيف المقال أنه نظراً لأن التكنولوجيا الجديدة متاحة طوال الوقت، فمن المستحيل معرفة كل تحد قد تواجهه في إدارة المخاطر. هذا في حد ذاته يمثل تحدياً، فبدون معرفة مصدر الخطر لن تعرف أفضل طريقة لحماية نفسك منه.
هذا يعني أن فريق تكنولوجيا المعلومات لديك يجب أن يكون مرناً وذو حيلة بما يكفي لإدارة المخاطر الجديدة عند نشوئه، قد تبدو هذه التحديات شاقة، ولكن مجرد إدراكها يساعدك في السير نحو التحكم في المخاطر والحفاظ على أمن وحماية مكتب المحاماة الخاص بك. ادرس كل منها واعرف ما تفعله شركتك بالفعل لإدارة المخاطر المحددة وما الذي يمكنك القيام به بشكل أفضل، إن وجد، من شأن ذلك أن يمنح مكتب المحاماة الخاص بك أفضل حماية ضد المخاطر ويضمن قدرتك على نشر الثقة بين العملاء الذين يتعاملون معك.
وفي الختام، اعتقد أن الطريق نحو بناء خطة إدارة مخاطر في مهنة المحاماة ما زال طويلاً، ويبدو من المناسب تخصيص مقال آخر للحديث عن الموضوع ذاته، آملاً أن يكون ما سردناه وبيناه مفيداً لكل محام ممارس للمهنة، والأهم من كل ذلك هو نشر ثقافة إدارة المخاطر بين كل الممارسين لهذه المهنة السامية. والله من وراء القصد.