إدارة المخاطر في مهنة المحاماة
بقلم: الدكتور أحمد عبد الظاهر
أستاذ القانون الجنائي بجامعة القاهرة
شهدت مهنة المحاماة مؤخراً إحدى أكبر الأزمات على مدار تاريخها، متمثلة في توقف النشاط المهني للمحامين ومكاتب المحاماة على إثر توقف العمل في المحاكم مع تفشي فيروس كورونا. ففي الخامس عشر من مارس 2020م، صدرت قرارات من رئيس مجلس الدولة ورئيس محكمة استئناف القاهرة ورئيس محكمة استئناف الإسكندرية ورؤساء المحاكم الابتدائية بالتأجيل الإداري للجلسات، ولم تعود المحاكم إلى العمل سوى مع بداية شهر يونيو 2020م. وغني عن البيان أن توقف العمل في المحاكم يؤثر تلقائياً على سير العمل في مكاتب المحاماة. وما حدث في مصر من توقف العمل بالمحاكم حدث أيضاً في العديد من الدول الأجنبية. وإزاء ذلك، لجأت العديد من مكاتب المحاماة الأجنبية إلى تخفيض رواتب المحامين والموظفين العاملين فيها. بل إن بعض مكاتب المحاماة وبعض المحامين قد توقفت بشكل كامل أنشطتهم، وتوقف بالتالي مصدر الدخل بالنسبة لهم. ومن ثم، يغدو منطقياً ومستساغاً إطلاق لفظ «الأزمة» على هذه الحالة من توقف النشاط.
وقد عبر أحد المحامين المصريين عن هذه الأزمة، قائلاً: «بداية لابد من الاقرار بالحقيقة، وهي لا تنتقص من قدر أو مكانة المحامي أو المحاماة والتي تنطق بكون المهنة حرة تعتمد علي الدخل اليومي من العمل اليومي للمحامي وأن المحامي الحر ليس له دخل ثابت أو مرتب شهري يتقاضاه كل نهاية شهر، سواء توقف العمل أو استمر، وأن المحامين العاملين بالمكاتب توقف راتبهم الشهري بالأزمة، وبالتالي فالمحامي من أكثر الفئات معاناة للأسباب الآتية: أولاً: ليس للمحامي مصادر دخل اخري غير دخله من عمله بالمحاماة لكونه محظور علي العمل بالتجارة أو إقامة مشروع تجاري أو المشاركة كشريك متضامن في شركة أو العمل الإداري أو أي مسمي وظيفي آخر غير مهنة المحاماة، وإلا لوقع عليه الجزاء بسقوط قيده، واستثناء من ذلك بعض المحامين الذين يحصلون علي راتب شهري من شركات يعملون بها أو من لديهم ميراث لهم، وبالتالي لن يعانوا ذات معاناة المحامي الحر الذي مصدر دخله الوحيد من المحاماة فقط. ث
العديد من أصحاب المكاتب خربت بيوتهم وأغلقت مكاتبهم لعدم استطاعتها الوفاء بالتزاماتها من إيجارات عالية القيمة وقيمة المرافق كهرباء مياه غاز ……الخ ومستلزمات المكاتب وغيرها.
ثالثاً: العديد من المحامين العاملين بالمكاتب، سواء ذوي الخبرة أو الشباب، خربت بيوتهم للاستغناء عنهم لعدم القدرة على الوفاء بمستحقاتهم مع توقف العمل.
رابعاً: المحامي لا يحصل على مساعدات من الدولة، مثل الدعم الذي يحصل عليه الصحفيين على سبيل المثال وليس الحصر، ولا تعوضه الدولة مثلما تعوض أصحاب العمل اليومي والكثيرون من المحامين يتعففوا عن طلب الدعم أو المساعدة رغم شدة الحاجة.
خامساً: لا أحد، سواء حاكم أو محكوم، يعلم المدي الزمني لانتهاء أزمة الوباء، وبالتالي المحامي يعاني لأجل غير مسمي.
سادساً: من المعلوم اقتصادياً أنه سيعقب انتهاء الازمة ركود سينال المحامي كمتأثر أساسي ورئيسي من تبعاته، ولاسيما في ظل تعويم الجنيه والانخفاض الشديد في القوة الشرائية له وانخفاض سعر صرف الجنيه مقابل الدولار والعملات الأخرى.
سابعاً: المحامي من أكثر الفئات عرضة للإصابة ولا يحصل من أي جهة على أي بدلات مخاطر مثلما يحصل موظفو الدولة أو تعويضات، ويتحمل وحده كافة ما يناله من الاصابة.
ثامنا: خطأ جسيم المقارنة بين التوقف الذي حدث إبان ثورة يناير والتوقف الآن في هذه الأزمة للأسباب الآتية:
1- فترة التوقف إبان ثورة يناير كانت ثمانية عشر يوما فقط واستأنفت الجلسات والعمل الإداري بالمحاكم فور انتهاء الثمانية عشر يوما.
بينما الازمة الآن مستمرة منذ يوم 15/3/2020 بتعليق الجلسات وأكثرية الأعمال الإدارية لا تدر دخلا منها ما هو الكشف عن التأجيلات ومنها ما توقف موظفو المحاكم عن أداءه مثل المحضرين، سواء ورد في القرارات أو التعليمات أو لم يرد.
2- فترة التوقف إبان ثورة يناير مؤقتة معلوم أمدها 18 يوماً وانتظم العمل بالمحاكم ودارت عجلت الدخل بعد 18 يوماً. بينما الأزمة الآن لا يعلم أحد، سواء حاكم أو محكوم، متي ستنتهي ومدي تبعاتها علي الحياة اليومية، ومن المؤكد أن الركود سيعقبها حال انهائها، وبالتالي انعدام الدخل في الفترة الأولي لانتهائها بسبب بطء حركة العمل.
3- فترة التوقف إبان ثورة يناير كانت قبل تعويم الجنيه وكانت القوة الشرائية للجنيه وسعر صرف الجنيه مقابل الدولار والعملات الأخرى أكثر بكثير من الآن بينما الأزمة الآن في ظل انخفاض شديد في القوة الشرائية للجنية وانخفاض سعر صرف الجنيه مقابل الدولار والعملات الأخرى.
4- إبان ثورة يناير لم يكن في تلك الفترة وباء منتشر أو عدوي تنتشر. بينما الأزمة الآن الإصابات كثيرة ويحتمل انتشار الوباء لا قدر الله بشكل جسيم قد تتطلب اتخاذ إجراءات أشد قسوة تنال من أصحاب العمل الحر اليومي وفي مقدمتهم المحامين وحصاد الأرواح أشد وطأة ولا يعلم التبعات المرضية التي ستستمر بعد شفاء المتعافين لابد من إيجاد حلول عاجلة تساهم فيها النقابة والدولة وحصر استثمارات النقابة وعوائد هذه الاستثمارات واستفادة المحامين بشكل عادل منها ووضع آليات جديدة داخل النقابة للشركات والسفارات والجمعيات وغيرها ولا أريد الخوض في ذلك حتى لا يخرج الموضوع عن نطاقه (أيمن عبد العظيم المحامي بالنقض، لا تدفنوا الرؤوس في الرمال.. المحامي من أكثر الفئات معاناة في أزمة الوباء الراهنة، شبكة المحامين العرب، منتدى المحامين العرب، تاريخ النشر 29 أبريل 2020م).
هذه هي الصورة التي رسمها أحد المحامين المصريين في نهاية شهر أبريل الماضي للأزمة، وقد انطوت على وصف لما تحقق منذ وقف العمل بالمحاكم في الخامس عشر من مارس حتى نهاية أبريل، كما اشتملت على توقع وتنبؤ مستقبلي للفترة اللاحقة. وإذا كان هذا التصوير لشكل الأزمة لم يتحقق بشكل كامل، فلا مراء في أن الأمر يستحق أن نعالجه تحت وصف «الأزمة»، وأن نتساءل عما إذا كانت إدارة هذه الأزمة بواسطة المحامين أنفسهم قد كانت فعالة أم أن وقع المفاجأة قد أثر على أداء مكاتب المحاماة، بحيث اكتفت بمجرد المشاهدة وانتظار الفرج والتوجه بالدعاء إلى السماء بأن يزيل الله الغمة ويكشف البلاء وتعود الحياة كما كانت من قبل.
والواقع أن علوم الإدارة تشتمل على أحد العلوم الحديثة نسبياً، وهو «علم إدارة الأزمات»، وبداخل هذا العلم هناك تخصص نوعي هو «علم إدارة أزمات الكوارث الطبيعية».
وتعرف إدارة الأزمات هو «وجود تهديد قد يلحق الأذى بالدولة أو الأشخاص أو الممتلكات أو قد يؤدى إلى تعطيل سير العمل أو انتظام الحياة الطبيعية لمجتمع أو هيئة أو شركة». وتحتاج عملية إدارة الأزمات إلى خطة تصبح هي المرجعية، تتضمن المبادئ، وقواعد الحركة، وهيكل الأدوار والمسؤوليات، وكافة المعلومات الأساسية التي يتم تدعيمها أولاً بأول بآخر التفاصيل.
وفى حال إدارة الكوارث فإن أهم هدفين هما: السيطرة عليها، وتخفيف الأضرار إلى أدنى حد ممكن. وأهم مبدأ في إدارة الأزمة هو القدرة على تجنب الأزمة، أي إن أعظم ما في علم إدارة الأزمات هو منعها إن أمكن، أو القدرة على التنبؤ بها مبكراً – إن أمكن – وجمع كافة المعلومات الأساسية اللازمة للوقوف على حجم الأزمة وتداعياتها واتخاذ التدابير والوسائل وتدبير الموارد البشرية والإمكانيات اللازمة للتعامل معها. وفى حالة أزمات الكوارث الطبيعية، فإن الحالة تتحول أحياناً إلى إدارة الأضرار، بمعنى أن «قوة أضرار الطبيعة تكون مدمرة وكاسحة للبلاد والممتلكات والبشر، بقدر يصعب تجنبه»، ويصبح المتاح الوحيد لدى جهات إدارة الأزمة هو تخفيف الأضرار بأكثر الوسائل سرعة وكفاءة وإنسانية.
وهكذا، وبالتطبيق على مكاتب المحاماة، يغدو من الضروري أن تعمد شركات ومكاتب المحاماة إلى اعداد خطة طوارئ للتعامل مع الأزمات أو رؤية استباقية في «إدارة المخاطر» (Risk Management)، وذلك بهدف التحكم بالمخاطر وتخفيضها إلى مستويات مقبولة، أو التنبؤ المسبق بالمخاطر التي يمكن أن تتعرض لها الشركة أو مكتب المحاماة وقياسها وتجهيز خطة متكاملة للسيطرة عليها أو على الأقل تخفيض آثارها السلبية إلى مستويات مقبولة تضمن استمرار أداء النشاط وأداء واجبها في تمثيل الموكل والدفاع عن مصالحه في كل الظروف ورغم كل الأزمات.
وخطة إدارة الأزمات لا تقتصر فقط على الأزمات والكوارث العامة، كما هو الشأن في الحالة سالفة الذكر، وإنما تمتد إلى الكوارث والأزمات الخاصة بمنشأة أو شركة أو مؤسسة بعينها، كما هو الشأن بالنسبة للحريق الذي يمكن أن يشب في الشركة أو المنشأة أو الجزاءات التأديبية التي قد يتم توقيعها على المكتب أو على بعض العاملين فيه أو وفاة صاحب المكتب، أو ضياع مستندات القضية المعهود بها إلى المكتب أو شركة المحاماة أو تلف أو سرقة أحد المستندات المسلمة إلى المكتب أو شركة المحاماة للقيام بدوره في تمثيل الموكل والدفاع عنه.
والمتأمل للكتب والمؤلفات الفقهية، سيجد أنها تتناول بشكل عام الحديث عن التزام المحامي، مؤكدة أن التزام المحامي هو مجرد التزام ببذل عناية وليس التزاماً بتحقيق نتيجة، ولكن من النادر أن تجد فيها حديثاً عن مسؤوليات مكاتب المحاماة في هذه الحالات آنفة الذكر. وبغض النظر عن مدى انعقاد مسؤولية المحامي في مثل هذه الحالات، فإن مثل هذه الوقائع من شأنها أن تؤثر سلباً على سمعة مكتب المحاماة، بينما يؤدي التعامل العلمي مع الأزمة إلى زيادة شهرة وسمعة المكتب أو شركة المحاماة في الأوساط المهنية والقانونية والقضائية، بما يؤدي إلى تعاظم ثقة العملاء فيها وزيادة حجم أعمالها.
على خلاف ذلك، تزخر المكتبات القانونية الأجنبية بالعديد من المؤلفات عن إدارة المخاطر في مكاتب المحاماة.
إن المثل الشعبي المصري يقول «ما حاك ظهرك إلا ظفرك»، والإدارة العلمية للشركات ومكاتب المحاماة ستجعلها قادرة على التعامل مع الأزمات والكوارث بما يكفل تفاديها قدر الإمكان أو التقليل من تبعاتها وآثارها. ولتعزيز هذه الثقافة ونشرها، يبدو من الملائم دعوة نقابة المحامين إلى عقد بعض الورش والندوات التي يسهم فيها المتخصصون في علم إدارة الأزمات، بالإضافة إلى كبار المحامين، وذلك بقصد تحديد المخاطر التي يمكن أن تتعرض لها مكاتب المحاماة، ثم البحث في السبل الكفيلة بتفادي هذه المخاطر أو على الأقل تقليل آثارها.
ومن جانبي أرى من واجبي تخصيص المقال القادم للحديث عن بعض هذه المخاطر والتدابير التي يمكن تنفيذها وتطبيقها في مواجهتها. والله من وراء القصد…