أهم (100) قاعدة وضابط في “فن التفسير القانوني” [7]

الدكتور محمد عبد الكريم أحمد الحسيني

أستاذ القانون المساعد بكلية الشريعة القانون IUM والمحامي

 مِن أهمِ أسرار التَّفْسيرِ القانوني ما سوفَ نذكرُهُ في هذه القاعدة، لأنَّها في الحقيقة إنما تعبِّرُ عن مبدأ عام لا يَسْري على النُّصوصِ التشريعية وحْدها وإنما هو مبدأٌ عامٌّ راسخٌ سارٍ في كُلِّ التشريعات الوضعية والتقنينات الشرعية بل وفي كُلِّ العلومِ اللغوية والوثائقية الرسمية التي تستند إلى نص لغوي ما باعتباره مرجعية رئيسة لها أو مرجعية ضمن مرجعيات أخرى.

ومن ثم يأتي هذا المبدأُ ليُعبِّرَ عن التنظيمات الحاكمة لهذه النصوص، فهي التي تحكُمها وهي التي يخضعُ لها النصُّ في تركيبه وفي ترتيبه وفي دلالته وفي طرائق التعامل معه في كافة المواقف والسياقات، وتستند هذه التنظيمات بدورها هي الأخرى إلى تنظيم معرفي وتأصيل منهجي يعتمدُه المشرِّع (أو المنصص أو واضع النص سواء من كان)، ويمثل هذا التنظيم الذي يقوم عليه النص مع تنظيمه المعرفي وتأصيله المنهجي الرُّوحَ الخفيَّةَ الساريةَ في مفاصل وفواصل هذا النص في كل مفرداته وتراكيبه وفي كل جمله وفقراته وعباراته.

ويفترضُ النصُّ القانوني في “مُنصِّصه” سواءً المشرعُ أو غيرُه الإرادةَ العالمةَ الواعيةَ بما تضعُ من نصوص وبمن تخاطبُ مِن أفراد وبظروف وصروف وسياقات خِطابها وما سوف ينتجُ عنه بالنسبة لمخاطبها، ولله المثل الأعلى سبحانه فإنَّ النَّص القرآني هو نصٌ إلهيٌّ من عند الله -سبحانه وتعالى- قد أُحْكِمت آياتُه ثم فصِّلتْ من لدن عليم حكيم، وهكذا كل النصوص فإن مُنصِّصها –واضعها- يُفْترضُ فيه بالضرورة الإرادةَ الحرة الواعية العارفة بمخاطبها وبمن تخاطبه.

وتقومُ هذه الإرادةُ في النصوص التكليفية على وجه الخصوص على “تنظيم عام حاكم” يخضع النصُّ إليه عند تفسيره وحال وقع الاختلاف حوله، فعلى سبيل المثال هناك مبدأ –سبق لنا تناوله– قوامه أن النصوص الشرعية وتلك القانونية تقومُ في فهمها وتفسيرها واستنباط أحكامها على أساس من “اللسان العربي المبين” وفقا لسنن اللغة العربية وطرائقها في التفعيد وفي التركيب وفي الإيراد، وهو ما يماثل موضوع هذا المبدأ الماثل .

وكثرا ما عبرت محكمة النقض عن روح هذا المبدأ في أحكام لها تترى:

1- فانظر على سبيل المثال [الطعن رقم ٤٤٥ لسنة ٢٠ قضائية الصادر بجلسة ١٩٥٢/٠٣/١١ مكتب فنى ( سنة ٣ – قاعدة ٢٠٧ – صفحة ٥٥٠) – الدوائر الجنائية]

2-وقد قضت بأن اللغة الدلالية ( لغة التفسير) إنما هي اللغة العربية أي اللغة العربية بتنظيماتها وقواعدها المعروفة وعليه فإن تفسير المفردات للوقائع يتوجب أن يكون طبقا للغة العربية[الطعن رقم ٣٤١٨ لسنة ٧٩ قضائية الصادر بجلسة ٢٠١٢/٠٢/٢٥ الدوائر الجنائية ]

3- وكذلك في حكمها التي تعرَّض للغة التوقيع على المستندات، وهل تكون بالعربية أو بغيرها؟ [الطعن رقم ٢٧٣٢ لسنة ٦٩ قضائية الصادر بجلسة ٢٠١١/٠٢/٠٨ الدوائر المدنية]

4- وفي موقفها من الجهل باللغة العربية وبالأحرى جهل أحد الخصوم باللغة العربية[الطعن رقم ٣٨٦ لسنة ٤٣ قضائية الصادر بجلسة ١٩٨٠/١١/١٨ مكتب فنى ( سنة ٣١ – قاعدة ٣٥٤ – صفحة ١٩١٠ ) الدوائر المدنية)          

  وقد نقضت المحكمةُ الحكمَ لأن الاتصالَ باللغة العربية إذا لم يفهمها الطرف الآخر فيه إخلال يوجب الطعن في الحكم [الطعن رقم ١٩٩١ لسنة ٢ قضائية الصادر بجلسة ١٩٣٢/٠٦/٢٧ الدوائر الجنائية].

4- وكذلك في أحكامها الخاصة بتصديق العقود وتوثيقها وضرورة توقيع القنصل على التوكيل في الخارج [الطعن رقم ٩١٣ لسنة ٤٩ قضائية الصادر بجلسة ١٩٨٣/١٢/٢١ مكتب فنى ( سنة ٣٤ – قاعدة ٣٦٦ – صفحة ١٨٦٩ الدوائر المدنية]       

أما عن نص المبدأ فهو على النحو التالي:

كافَّةُ التَّقنينات (مِن حيثُ شكْلُها اللُّغوي وتفسيرُها الدِّلالي) إنَّما هي خُلاصةُ “بُنيانٍ معْرفي وتنظيم لغوي قانوني” سابقٍ عليها ومؤسِّسٍ لها، قد تبنَّاهُ المشرِّعُ وأقامَ عليه هذه التشريعات، ومن ثم فإنَّها ناتجٌ له وبالضرورة تقوم عليه وتَسْتندُ إليه في فهمها وتَفْسيرها وفي استنباط أحكامها.

 

أما عن أهم القواعد العامة لهذا المبدأ كما ترسمناها في دراستنا “النظرية العامة للغة القانونية ” فهي على النحو الآتي:

القاعدة العامة الأولى: هناك بنيانٌ معرفي مُنَّظمٌ وإطارٌ مرجعيٌّ مُمنهج لكافة ما يسنُّه المشرع من تقنيات وما يَصْدُرُ عنه من تشريعات

القواعد الجزئية

القاعدة الجزئية الأولى: من المفترضات أن يتبنى المشرعُ إطارًا معرفيا يعبِّرُ عن سياسته التشريعية ورؤيته العامة فيما يتعلق بشكل التشريعات وتنظيماتها.

القاعدة الجزئية الثانية : ترتبط السياسة التشريعية مباشرة بالإطار المعرفي والاتجاهات الفلسفية العامة التي يتبناها المشرع

القاعدة الجزئية الثالثة: تتعدد الأطر المعرفية وتلك المفاهيمية المتعلقة بالتنظيمات اللغوية القانونية من تشريع لآخر.

القاعدة العامة الثانية: كافة التشريعات بالضرورة إنما هي خلاصة لنظرياتها وصورة مباشرة لتنظيماتها تحمل روحها وتتجلى فيها خصائصها

القاعدة الجزئية (1): لا معنى لتشريع يصدر دون رؤية معرفية وتنظيمات منهجية تمثل روحه السارية ومرجعيته الأساسية

القاعدة الجزئية (2): على قدر إلمام المشرع برؤيته المعرفية وبتنظيماته اللغوية القانونية واستناده إليها على قدر قوة تشريعاه وصلابتها البنائية والقانونية.

القاعدة الجزئية (3): معيار صحة التشريعات القانونية إنما هو في موافقتها لنظريتها ووفائها بمعيار تنظيماتها.

القاعدة الجزئية (4): تضعف التشريعات على قدر إخلالها بمقتضيات تنظيماتها وخروجها عنإطارها المعرفي التنظيري

القاعدة العامة الثالثة: تمثل النصوص التشريعية توجهات مشرعها الفلسفية وأطره النظرية وتنظيماته المعرفية.

القاعدة الجزئية (1): تجد التوجهات الفلسفية التي تبناها المشرع بالضرورة طريقها في تقنيناته الدستورية وتلك العادية.

القاعدة الجزئية (2): للأطر النظرية التي تبناها المشرع صداها الواضح في كل تشريعاته وفي كل ما يصدر عنه من قرارات بالضرورة

القاعدة الجزئية (3): تقاس متانة التشريعات وصحة التقنينات بقدر انسجامها مع ما تبناه المشرع من أطر نظرية ومنهجيات تشريعية.

القاعدة العامة الرابعة: بناء التقنينات التشريعية وطرائق إيرادها وأشكالها اللغوية مقصودة ومرادة من قبل مقنِّنيها.

القاعدة الجزئية (1):قصدية المشرع حاضرة بقوة في كل ألفاظه وفي تراكيبه وفي جمله وعباراته.

القاعدة الجزئية (2):من المفترضات الرئيسة أن كلَّ ما في التقنين من ألفاظ وتراكيب وجمل إنما هي مقصودة بعينها دون غيرها .

القاعدة الجزئية (3):ينبني على اختيارات المشرع البنائية والأسلوبية كل ما يريده المشرع من دلالات وتفسيرات .

القاعدة العامة الخامسة: يرتبط الشكل التشريعي ومكوناته اللفظية والتركيبية والسياقية بالأبنية المعرفية التي قام عليها

القاعدة الجزئية (1):يعتبر التنظيم القانوني اللغوي وذلك اللغوي القانوني أساسا حاكما لكل فهم يقع علي مفردات وتراكيب وأساليب التقنين.

القاعدة الجزئية (2): لا يصح الخروج بعيدا عن مقتضى التنظيمات اللغوية القانونية فيما يتعلق بتناول النص التشريعي وتداوله.

القاعدة الجزئية (3):يعدُّ الإطار المعرفي والمنهجية التنظيمية لوضع التشريعات معيارا مستصحبا في كل عمليات الفهم والتفسير واستنباط الأحكام من النص القانوني.

القاعدة العامة السادسة: يخضع التفسير القانوني بعملياته وأدواته ونواتجه الدلالية إلى مقاصد المشرع ومرادته فيما عبرت عنه تنظيماته الحاكمة.

القاعدة الجزئية (1):مقاصد المشرع التي تتجلى في تنظيماته وفي توجهاته هي الحاكمة على كل فهم وتفسير لتشريعاته القانونية.

القاعدة الجزئية (2):صواب التفسير القانوني صحة استنباطاته متعلقة على قدر اتفاقها مع تنظيماتها اللغوية القانونية وأطرها المعرفية.

القاعدة الجزئية (3): في كل الأحوال لا يصح الخروج عن مقتضيات التنظيمات اللغوية المتعلقة بالألفاظ والتراكيب وجمل التشريع محل الفهم التفسير لسبب ما إلا بقرينة قاطعة تدل على غير ظاهرها.

وبلغة مساوية يمكن التعبير أيضا عما سبق من قواعد عامة وجزئية في جملة القواعد الآتية :

القاعدة الأولى: تقوم النصوص التشريعية على مبادئ ومحكمات عليا تعد ضابطة لها وموجهة لتفسيرها.

القاعدة الثانية : الوقوف على خلاصة الأبنية المعرفية للمشرع يساعد في فهم أصول النصوص التشريعية ومراميها.

القاعدة الثالثة: الوقوف على خلاصة الأبنية المعرفية للمشرع يساعد في التعرف على نماذجها الحاكمة عليها والموجهة لها.

القاعدة الرابعة : يرجع عند الإشكال إلى الأصول المعرفية التي قامت عليها التشريعات القانونية.

 القاعدة الخامسة يرتبط الشكل التشريعي بالضرورة مع اللفظية والتركبية والسياقية بالأبنية التي قام عليها

 والخلاصة هي :

أن التقنينات بعامة خلاصة بنيان معرفي واسع وعميق سابق عليها، يتبناه المشرع ويقيم عليه تشريعاته ومن ثم فإنها –أي النصوص التشريعية- ناتج لهذه الأبنية المعرفية ومعبرة عنها.

راجع ” النظرية العامة للغة القانونية أصولها وأحكامها وواقعها القانوني المعاصر، كلية الشريعة والقانون 2021م”

زر الذهاب إلى الأعلى