أهم (100) قاعدة وضابط في “فن التفسير القانوني” [6]
الدكتور محمد عبد الكريم أحمد الحسيني
أستاذ القانون المساعد بكلية الشريعة القانون IUM والمحامي.
نعْرِضُ في هذا المقال لواحدٍ مِن أهمِ مبادئ التفسير القانوني–وهو في أهمية المبدأ السابق أيضا في المقال رقم[5]- ألا وهو مبدأ “وُجوبُ الجمع بين روابطِ النصوص -الشَّرعيَّة والتشْريعيَّة- الصورية وبين أساليبها اللغوية، وتقديم الروابط الصورية على الروابط اللغوية حال تجافيهما”.
ويُعنى هذا المبدأُ إجمالا بالعلاقة بين “الأساليب اللغوية والروابط المنطقية” –ويمكن تلقيبها أيضا من باب التقريب بـــــ”الأساليب المنطقية”- إذ الأصلُ أن يلتئما معا وأن تتساوى مقتضياتهما، وذلك أن اللغةَ والفكرَ قرينان، لا ينفصلان وخاصة في الخطاب الرسمي بعامة مثل “الخطاب الشرعي” والذي تعبر عنه النصوص الشرعية حيثُ الكتابُ والسنة، وكذلك “الخطابُ التشريعيُّ القانوني” إذ تعبِّرُ عنه التشريعاتُ وأوراقُها ذاتُ الصفة التشريعية وخطابُها القانونيُّ الشفاهيُّ بعامة .
فاللغةُ إنما هي وعاءٌ للفكر، وهي حاملةُ مضامينه الدلالية من خلال اصطناع أشكاله اللغوية وأنماطه الأسلوبية، بدءًا من المفردات، فالتراكيب، فالجمل، فالفقرات، فالعبارات، فالسياقات، فالنصوص.
نص المبدأ :
“يلزمُ الجمعُ بين أساليب النصوص (الشرعية والتشريعية) اللغوية وبين روابطها الصورية المنطقية في وحدة تامة أو في التئام ما يجمعهما”
قواعد المبدأ:
القاعدة الأولى:
الأصل في لغة التشريع هو اتفاق الأساليب اللغوية مع الروابط المنطقية (البنائية والدلالية)
ضوابط القاعدة :
الضابطُ الأولُ : غاية الأسلوب اللغوي التشريعي هو الدلالة المنطقية على مضامينه الموضوعية.
الضابطُ الثاني: لا يلزم بالضورة في الخطاب العام أن يتفق الأسلوب اللغوي مع المقتضى الصوري المنطقي.
الضابطُ الثالثُ: يتوجب بناء التقنينات بعامة على الاتفاق التام بين الأساليب اللغوية والروابط الصورية المنطقية.
الضابطُ الرابعُ: المكونات البنائية والأدوات اللغوية والأطر النحوية والبلاغية هي دالَّات الأسلوب اللغوي
القاعدة الثانية :
يلزمُ في النُّصوصِ التشريعيةِ أنْ تقومَ الروابطُ المنطقية بين القضايا وأبنيتها وبين القضايا وأخواتها وبين القضايا ونتائجها بالضرورة.
الضابطُ الأولُ: الروابط المنطقية هي المرجعية العليا في تنظيم الدلالات وفي ترجيحها.
الضابطُ الثاني: تحمل الأبنية اللغوية روابطها المنطقية وتثمر معنى دلاليا متسقا مع روابطها الصورية.
الضابطُ الثالثُ: العبرة ليست في دلالة المنطوق اللغوي بل في مقتضيات تلك الدلالات وفقا لروابطها الصورية المنطقية.
الضابطُ الرابعُ: دِقَّةُ الحدود وصدق القضايا وترتيب المقدمات ولزوم النتائج الصحيحة عنها من دالات الروابط الصورية المنطقية في التشريعات.
القاعدة الثالثة:
تلتئم العلاقة بين اللغوي والمنطقي إذا توافرت العلاقة المطردة بين المفردات وجملها، وبين الجمل وفقراتها، وبين الفقرات وعباراتها وبين القضايا وبعضها.
الضابطُ الأولُ: ليس تكفي الارتباطات الدلالية بين الأساليب اللغوية في نصوص التشريعات وأوراقها بل يتوجب تلازمها مع روابطها المنطقية.
الضابطُ الثاني: يعدُّ التنظيم البنائي والاطراد الدلالي علامة من علامات تحقق الصورة المنطقية والتئامها مع الأساليب اللغوية.
الضابطُ الثالثُ: تُعايرُ الروابطُ البنائية ومدلولاتها اللغوية بالروابط الصورية ومبادئها المنطقية.
الضابطُ الرابعُ: الخللُ في اتساق الروابط الصورية دليلٌ على خلل في الأساليب اللغوية – في الخطاب التشريعي عموما- بالضرورة.
القاعدة الرابعة :
تُقدَّمُ في النُّصوصِ التشريعيةِ الروابطُ الصوريةُ على مقتضيات الأساليب اللُّغوية حالَ صعوبةِ الجمع بينهما أو تجافيهما.
الضابطُ الأولُ: الأصلُ في النصوص التشريعية هو الجمع بين الأساليب اللغوية والروابط الصورية المنطقية.
الضابطُ الثاني: تحتكم الأساليبُ اللغويةُ إلى روابطها المنطقية بالضرورة في كلِّ نصٍّ تشريعي ورسمي.
الضابطُ الثالثُ: التحليل الصوري المنطقي حاضر بالضرورة في كل نص تشريعي أو ورقة قانونية رسمية.
الضابطُ الرابعُ: فسادُ التحليلِ الصوري يدلُّ بالضرورة على فسادٍ في الأسلوبِ اللغوي
تلك كانت أهم القواعد المترتبة على المبدأ وأهم الضوابط الملازمة لهذه القواعد، وسوف نأتي على تطبيقات ما سبق من خلال أحكام النقض في المقالات التالية كما فعلنا ذلك في بعض المقالات التطبيقية السابقة، ولنتوجه الآن إلى الإجابة عن سؤال رئيس وهو :
*هل يمكن أن تفارق الأساليبُ اللغوية بنائَها المنطقي أو تفسيرَها الدلالي ؟
*متى يمكن أن تفارق اللغة منطقها الدلالي؟
ويمكننا الإجابة على هذا السؤال في الآتي :
تفارق اللغة منطقها الدلالي عندما تكون لغة أدبية، أي: تعبر عن جنس من أجناس الأدب أيا كان هذا الجنس وعلى سبيل المثال هذه إشارات لأبرزها:
أولا: الأجناس النثرية :
1- رواية
2- قصة (طويلة أو قصيرة) .
3- مقامة.
4- مقال أدبي .
5-خطاب (أيا كان محله ومجاله ما دام يعبر عن ذاتيات صاحبه أو تجريته الوجدانية)
6-برقية (تهنئة أو عزاء)
5-أو أي ضرب من السجع والإيقاع أو في أية أحدوثة أدبية أيًّا كان مسماها.
ثانيا: الأجناس الشعرية
وذلك في كل أنواع القصيد حيث:
1-الشعر العادي .
2-الشعر الملحمي.
3-الشعر القصصي.
4-الشعر المسرحي .
5-النظم الشعري (في عمومه وخصوصه)
إلى عير ذلك ، حيث في هذه الأجناس ينعتقُ الشاعرُ –أو الناثر- من كلِّ قيدٍ غيرَ قيد تجربته الشعرية التي يتشبع بها وجدانه ثم تفيض على لسانه في لغة أدبية بإيقاع عروضي كلاسيكي أو بإيقاع وهيئة معاصره من الأشعار الحرة والقصيد الحديث…
وهنا يحلُّ الرمزُ حينا وتحلُّ الدلالاتً الوجدانية الصريحة والمحتملة والمحملة على بنيان القصيد الظاهر وبنيانه ما وراء الظاهر ..
إنه الشعر يا سادة… والشعراء ملوك الكلام في كل واد يهيمون.. وبكل متردم ينشدون..
وعلى الأطلال والجبال والوديان…
وفي العراك… وفي العزاء.. وفي الرثاء والنعي…
وفي الفخر والمدح …
يستشعرون وينشئون ..!!
وكذلك الأمر في النثر كما الشعرُ ينعتق الناثرُ من قيود المنطق إلى رحابة التجربة الوجدانية والرؤية الذاتية العميقة التي يستبطن بها أحدوثاته أو شخصياته أو مواضيع ومحاور تناوله أيا كان ذلك الجنس الأدبي.
وهكذا ينعتق الأديب من قيود المنطقية ومن صور الفكر المنطقي في كل بيانه وتبيانه…!
وليعبر بما شاء من المجاز أو الإشارة أو الألغاز عما يشاء من ضروب القول فنون الأدب…!
بينما الأمر ليس يمضي على هذا النحو بالنسبة للخطاب التقريري والذي يعبر فيه المخاطب عن موضوع ما تعبيرا موضوعيا يطابق فيه الواقعة ، وكذلك الخطاب الشفاهي الرسمي أيا كان مقامه ومكانه، فهو خطابٌ يعتمد على الرسمية وعلى استعمال الأساليب اللغوية في نمطية صورية منطقية لازمة ومُلزمة إلا إذا خرج عنها قاصدا التأثير أو التغيير والتخييل أو التمثيل( كما في المرافعات بالاتهام أو بالدفاع)
أ-وبالنسبة للخطاب الشرعي من حيث نصوص القرآن الكريم
فهو خطاب رب العالمين مُعجز في لفظه ومعناه وهو فن متفرد من فنون القول لا يمكن نسبته أبدا للشعر ولا نسبته بالجملة للنثر… فهو جنس متفرد من القول وهو “القرآن الكريم” ، وهو يقوم على :
أولا: منطق اللسان العربي المبين.
ثانيا: يجمع بين النمط البلاغي الأسمى وبين الحق والتحقيق في القول والإيراد.
ثالثا: نصوصه المحكمة لا تحتمل إلا الإخبار التقريري وتؤخذ بجملتها، إذ الـمُــحكمُ هو أيضا حاكمٌ لغيره ومهيمن على الـمُفصَّل من القول.
رابعا: أوامره ونواهيه الأصل فيها الاقتضاء والوجوب إلا إذا جاءت القرائن وصدر البيان بتوجيهها نحو فرض الكفاية أو الندب أو الاستحباب .
خامسا: الأمثال فيه سيقت للبيان والتبيان والاعتبار، وهي ترد في سياق قضية إيمانية أو تشريعية محددة لتقربها وتبين عنها وتعزز أطروحتها الصادقة .
والسنة كذلك تقومُ في جُلِّها على ما يقومُ عليه القرآنُ الكريمُ وهي بيانٌ للقرآن وتِلوٌ له.. وليست معجزة لا في لفظها لا معناها.. وإن كانت في السمو من البلاغة والبيان.
ب- أما بالنسبة للخطاب القانوني (التشريعات والأوراق ذات الصفة التشريعية )
فالأصل فيها أنها تقوم على التحقيق وعلى المباشرة وعلى المخاطبة للمكلفين مواجهة دون إبطاء أو إيماء أو كناية.. إذ يمتنع عنها المجاز ويحظر فيها التكنية والإلغاز … !
وهذا مبدأ رئيس راسخ من مبادئ اللغة القانونية كما ترسمناها في دراستنا ” النظرية العامة للغة القانونية” [كلية الشريعة والقانون ium 2021م]
وسمات اللغة القانونية هي :
أولا: لغة وضعية يطلق اللفظ فيها ويراد به حقيقته.
ثانيا: لغة قوامها الدقة والوضوح.
ثالثا: لغة ظاهرة مباشرة ، لا باطن لها ولا تكنية فيها.
رابعا: لغة وُضعت بإرادة المشرع وكل ما فيها مقصود ومراد له.
خامسا: لغة بينة لا تنظر بيان ولا تحتمل إجمالا ولا احتمالا .
وقد فصلنا في ذلك في دراستنا الموسعة [النظرية العامة للغة القانونية – أصولها وأحكامها وواقعها القانوني المعاصر- دراسة تأصيلية تأسيسية- د. محمد عبد الكريم أحمد الحسيني- كلية الشريعة والقانون 2001م] حيث عبرنا عن أهمية هذا المبدأ وعن اعتباراته وآثاره في تفسير النصوص التشريعية خاصة والأوراق القانونية بعامة، ونكمل بإذن الله تعالى في المقال التالي.