أمانة المحاماة
نشر بجريدة الوطن الجمعة 24 / 7 / 2020
بقلم: أ. رجائي عطية نقيب المحامين
أستأذنك اليوم في أن أوجه رسالة إلى زملائي المحامين عن ثقل الأمانة التي يحملونها، والتي يجب عليهم أن يحفظوها ويقوموا بواجباتها في صدق وإخلاص.. والصدق صدق مع النفس، وصدق أيضاً مع الغير.. وكذلك الإخلاص، فهو الإخلاص للواجب الذي على المحامي أن يكرس نفسه للقيام به، والإخلاص في العطاء الذى تنتظره العدالة منه، وتعطيه حجمه وقامته في الحياة والمحاماة على قدر صدقه وإخلاصه واحترامه لنفسه ومهنته ورسالته، لأجل هذا عنيت قوانين المحاماة ومدونات القوانين بعامة، في مصر وفى غيرها، بأن تسبغ مظلة أمان للمحامي تكفل له القيام بواجبه بلا خوف ولا قلق ولا توجس، ومظلة أخرى تكفل أمان علاقته بموكله، وحفظ ما يتلقاه من أسراره للقيام برسالته، وحمايته من ألاّ يُجْبرَ على إفشاء ما لديه، بل ولحمايته من النفس الأمارة بتقرير عقوبة على هذا الإفشاء لو وقع فيه، وهذه «الدرقة» من الحماية هي التي تتيح للمحامي أن يدرأ عن نفسه أي سعي يستهدف «إجباره» عـلى إفشاء ما ائتُمن عليه!!
هذه العناية الملموسة في تشريعات الدول، مقننة أيضاً في المواثيق الدولية لدفع الدول إلى احترامها، فجاء فيما جاء بقرارات الأمم المتحدة 45 / 166 في ديسمبر 1990، أنه يجب على الدول الأعضاء أن تكفل احترام «سرية» جميع الاتصالات والمشاورات التي تدور بين المحامين وموكليهم في إطار علاقتهم المهنية.
لم تبذل هذه العناية للمحاماة، إلاَّ تقديراً لجسامة الأمانة التي يحملها، فهو لا بد أن يؤهل نفسه بكل ما يلزم للوفاء برسالة المحاماة التي تتطلب امتلاك الموهبة والعلم والخبرة، والجد والإخلاص والتفاني، وتتطلب أن يكون موسوعي العلم والثقافة والمعرفة، فإن «الإقناع» هو قوام رسالته وتصديه للدفاع عن الغير، هذا الإقناع الذى يتغيّا به التأثير في وجدان سواه، والوصول إلى غاية معقودة بعقل وفهم وضمير غيره، وهذه المقدرة حصاد ما توفره الموهبة ويدلى به العلم وتضافره الثقافة والمعرفة، مجدول ذلك كله في عبارة مسبوكة وشحنة محسوبة لإقناع المتلقي، فالمحاماة هي نيابة عن الغير في حمايته والدفاع عنه، قوامها الحجة والبيان والإقناع، والكلمة هي روح وعدة ومهجة وسلاح المحاماة؛ هذه الكلمة ليست محض حروف أو صيغ أو تراكيب، وإنما هي حجة وبيان وبرهان. والفروسية هي أخص ما يتحلى به المحامي ويجب أن تتحلى به كلمته، وهي لا تكون كذلك ما لم تكن التزاماً بقضية ومبدأ، مع استعداد للقبول والكفاح من أجل ترجمة معانيها وتحقيق غايتها.
معنى الرسالة في المحاماة، مستمد من طبيعتها وغايتها ونهجها وأسلوب أدائها، لأنها حماية ومحاماة عن «الغير»، ومكابدة ومجاهدة ومناضلة من أجل «الغير» يتلاشى أمامها ويجب أن يتلاشى إحساس المحامي بذاته، أو انحيازه لذاته أو مصالحها أو رغابها، فيكرس كل علمه وفكره ومعارفه وثقافته وقدراته وأدبه وموهبته لينهض بأمانة وضعها «الغير» في عنقه.. علاقة المحامي بموكله، علاقة بالغة الخصوصية، شديدة العمق والعراضة، فيها يفضي الموكل إلى وكيله المحامي بخلجات نفسه، وبأدق أسرار حياته، وبأمور ربما ضن بها على أقرب المقربين إليه، وربما احتبسها عن الناس كافة، ولثقل هذه الأمانة، حرصت قوانين المحاماة ومدونات القوانين بعامة، على إسباغ مظلة من الأمان على علاقة المحامي بموكله، وحفظ ما يتلقاه المحامي من أسرار في إطار هذه الرسالة، وحمايته من ألاَّ يجبر على إفشاء ما لديه، بل وتقرير عقوبة على هذا الإفشاء، يستطيع المحامي أن يستند إليها في درء أي سعى يستهدف «إجباره» على إفشاء ما ائتمن عليه!!
على أن الكفالة الأوجب، هي التي تنبع من ذات المحامي واحترامه الشخصي لنفسه ولأمانته، وتعبر عن ضميره وإيمانه بأنه بالفعل حامل رسالة يجب أن يرتفع إليها.. وأن يتذكر دائماً أن هذه الرسالة هي التي أفسحت له ضمن غاياتها السامقة في رعاية الحقوق أن يلم بمكنون أسرار موكله التي باح بها إليه، وأنه من لحظة تلقيها قد قبل بإرادته أن يحمل «أمانة» تلزمه بها تقاليد وأعراف وشرف مهنته، قبل أن تدعوه إليها أو تحميها مدونات القوانين والمواثيق الدولية.
يضاعف من ثقل هذه الأمانة، أن القانون قد أناط بالمحامي مطلق «اختيار» خطة الدفاع التي يراها كفيلة بحماية حقوق موكله أو بلوغ الغاية في دفع الظلم أو الجور عنه، وقد جرى قضاء محكمة النقض المصرية على أن المحامي لا يلتزم بما قد يراه المتهم لنفسه، بل إن خطة الدفاع متروكة لرؤية المحامي وتقديره، بل وله أن يبني دفاعه على طلب الرأفة إذا رأى أن إنكار المتهم للتهمة لا يجديه نفعاً.. ذلك أن القانون احتراماً لرسالة المحاماة لم يوجب على المحامي أن يسلك في كل ظرف خطة مرسومة له تقيده، بل ترك له اعتماداً على شرف المحاماة وتقاليدها واطمئناناً إلى نبل أغراضها ترك له أمر الدفاع يتصرف فيه بما يرضي ضميره وعلى حسب ما تهديه إليه خبرته.
هذا العبء الثقيل، لا يدركه إلاّ المفطور على حب وفهم واحترام رسالة المحاماة، وعلى استيعاب معنى الأمانة التي عرضها الله عزّ وجلّ على الجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان، وهذه الأمانة هي عنوان الإيمان وجوهره حتى قال رسول القرآن عليه السلام إنه لا إيمان لمن لا أمانة له، وحَذَّر من كونها يوم القيامة خزي وندامة إلاّ لمن أخذها بحقها وأدى الذي عليه فيها.. وهي أكثر ما تكون أثقل حملاً حينما تتعلق بحياة أو حرية أو مصير إنسان!
لقد نقلت في كتاب «رسالة المحاماة»، مشهداً لافتاً لأستاذنا الجليل مصطفى مرعي.. فارس المحاماة.. الذي أدرك إدراكاً عميقاً مقتضيات أمانة الدفاع، ترى ذلك واضحاً في وقوفه إلى جوار الأديبة «مي زيادة» حين أطبق عليها جحود أقارب استغلوا مرضها وعزلتها في شتاء الأحزان الذي أحاطها برحيل الأب ثم الأم، فسولت لهم أنفسهم أن يحجروا عليها، واستدرجها أحدهم للسفر إلى لبنان، حيث أودعوها بقالة الجنون! مستشفى «العصفورية»، ولم تخرج إلاّ بنجدة إحدى العائلات اللبنانية، لتعود إلى مصر محملة بجراح نفسية غائرة ظلت تطاردها مع دعوى الحجر التي لاحقتها في مصر!.. يومها وقد انفض السامر الذي كان على الدوام من حولها من كبار الأدباء والمفكرين، وقف إلى جوارها فارس المحاماة مصطفى مرعي.. لا يقيد نفسه بالأداء التقليدي ولا بالحدود الضيقة، وإنما ينطلق إلى الميدان الرحب، ويتفتق ذهـن الفارس الحامل للأمانة المدرك لمقتضياتها، عن حيلة عبقرية لم تتقيد بحدود المحكمة وقاعتها، فأشار على المتحدثين معه باسم الكاتبة الجريحة، بأن تلقى محاضرة بقاعة «إيوارت» التذكارية بالجامعة الأمريكية.. ودون أن تعرف الآنسة «مي» خلفية التدبير الذي غُلف بدعوة وجهت إليها من الجامعة لإلقاء المحاضرة، اختارت الأديبة موضوعاً لها من أعقد وأعوص موضوعات فلسفة «نيتشة»، فبهرت الحاضرين، وانتشر نبؤها على صفحات الصحف مشفوعاً بمؤلفاتها: باحثة البادية وعائشة التيمورية وسوانح فتاة والصحائف وابتسامات ودموع المترجمة عن شارل ومارى لام وأزهار الحلم بالفرنسية، وتصادف أن سمع أحد شيوخ القضاء هذه المحاضرة التي تسامعت بها مصر، فحملت أثرها ودلالتها إلى ساحة العدالة، وجاء في أسباب قضاء المجلس الحسبي الأعلى برفع الحجر: إنها أعقل من أكبر العقلاء.. هذه القضية كسبها مصطفى مرعي قبل أن يدخل بأوراقه إلى ساحة المحكمة، لأنه أدرك موجبات الأمانة التي يحملها، وعرف بثقافته العريضة أن السهـم الذى يدق به نعش هذا «الحجر» أن يعيد صورة الأديبة المفكرة «مي زيادة» إلى أذهان الناس، وقد كان!..