أصول وفنون “صناعة التفسير القانوني” (1)
بقلم/ الدكتور محمد عبد الكريم أحمد الحسيني
المحامي، وأستاذ القانون المساعد بكلية الشريعة والقانون- قسم القانون والقضاء IUM .
يعدُّ “التفسير القانوني” من أهم العلوم والصناعات القانونية، فهو ركيزةُ فهم التقنينات وسبيل تعرُّفِ أحكامها والوقوف على مقاصد المشرع من ورائها، وعلى قدر تحصيل معارفه والتمكن من مهاراته يكون اقتدار القاضي على حسم خصومته والبت في قضيته وَفْقَ صحيح القانون وعلى نحو ما قصد الشارع، وكذلك فإن التقصيرَ في تحصيل أدواته والتنكُّبَ عن وعي مهاراته يؤدِّي إلى ارتكاس العدالة وهدر الحقوق وضياع المصالح..!!
والتفسير القانوني علم وصناعة، تأصيل وتنظير، وعي وممارسة، فهو يقوم على هذين الشقين ويسير بكلتا القدمين معا، فلا يتصور أن ينهض على قدمه التطبيقية إلا بعون من قدمه التأصيلية، ولا يُرجى إثمار في شقه التأصيلي ما لم يتكامل مع شقيقه التطبيقي، فبالتنظير والتطبيق يقوم “التفسير القانوني” وينهض كُفأً في تحقيق الفهم التشريعي وإحداث الأثر القانوني..!
ويُعنى “التفسير القانوني” ابتداء بالمدلولات القانونية التي أرادها المشرع وأودعها في تقنينه (النص التشريعي)، ولا يخفى على القانوني الفطن أن “المدلولات” أوسع من مفهوم “التفسير” -بمعناه الخاص- حيث إنها تعالج صيغ الألفاظ والتراكيب ابتداء وهي الوحدات الأساسية لبناء النص القانوني، فضلا عن الجمل والعبارات، ومن ثم فإننا نقسم المدلولات أو الدلالات القانونية إلى مستويات ثلاثة :
المستوى الأول: الفهم للنصوص القانونية.
المستوى الثاني: تفسير النصوص القانونية.
المستوى الثالث : استنباط الأحكام من النصوص.
والمستوى الأول هو مستوى لازم في حق كل القانونيين لا يستثنى منه منتسب إلى القانون أو دارس له، إذ إنَّ فهم النُّصوص القانونية -ولو في الجملة- هو من الاعتبارات المفترضة في طلاب القانون وفي المعنيين به، فضلا عن المثقفين ، بل إنه يتوقع من السواد الأعظم من أفراد المجتمع…!!!
لأن القاعدة القانونية تخاطب الكافة دون استثناء ، ولا مجال للاعتذار بالجهل بالقانون..!!!
المستوى الثاني: “مستوى التفسير” وهو مستوى أعلى من سابقه، وفيه يفترض أن يلمَّ القانونيُّ بمهارات وخبرات معينة تعينه على تحقيق القدرة على الكشف عن معنى النص القانوني من خلال مدلولات ألفاظه ومن محصلة دلالاته وبالأخص دلالته الأولى ألا وهي “دلالة العبارة”..!!
فالمحامي ومأمور الضبط القضائي والخبير القانوني والمساعدون القضائيون من الكتبة والمحضرون يجب أن يتحصلوا على مهارات وخبرات هذا المستوى، لأنهم قانونيون توجب عليهم أعمالهم التصدي لفهم النصوص وتفسير ما يتعلق منها بأعمالهم، وعلى قدر تحصيلهم على قدر تميزهم القانوني ، والعكس بالعكس يكون، بمعنى أنه تنحدر درجتهم وتدنو مكانتهم القانونية بقدر تقصيرهم في تحصيل مهارات ومعارف التفسير القانوني.
المستوى الثالث: وهو من أعلى المستويات المتعلقة بالتفسير القانوني في مفهومه العام، وهو ما يعني التدبر القانوني وتدقيق البحث وإعمال النظر ، والإلمام بكافة دلالات النص التشريعي أيا كانت تلك الدلالات وهي أربعة :
أولها: دلالة العبارة وهي ما قد تسمى بــ”منطوق النص”.
ثانيها: دلالة الإشارة.
ثالثها: دلالة الدلالة.وقد تسمى “فحوى النص” أو “فحوى الخطاب”
رابعها: دلالة الاقتضاء.
والعلم بهذا المستوى وتحصيل معارفه والاضطلاع بمهاراته متوجب ومفترض في السادة القضاة وفي فقهاء القانون حيث شراحه وأساتذته وأعضاء النيابة وكافة المتخصصين في العلوم القانونية.
وليس يخفى على المشتغلين بالقانون والمعنيين به أهمية التفسير القانوني -على نحو ما سبق ذكره في مستوياته الثلاثة- إذ هو الثمرة الحقيقية والغاية الفعلية لـــ”التقنينات” أيًّا كانت تلك التقنينات تشريعات عامة أو خاصة ، كما وأنه غاية الأوراق القانونية على تنوعها سواء أكانت أوراق قضائية أم رسمية، وكذلك هو غاية الخطاب القانوني الشفاهي بالمعنى الخاص للخطاب القانوني.
كما أن التفسير وكشف الدلالات القانونية واستخلاص الأحكام الموضوعية والإجرائية من نصوصها يعني التأثير مباشرة في المسار القانوني لأي واقعة مهما كانت، فحصوله على الوجه الصحيح يعني الدفع بها لأن تتخذ “المسلك التنفيذي”، وهو ما يعني ضمنا حسم الدعاوى وفض النزاعات واصطناع المراكز القانونية ما بين إنشاء لها وردها إلى أصحابها، فضلا عن تطبيق جانب الحكم في القاعدة القانونية بعد استيفاء فرضها.
وبما سبق أيضا يعدُّ التفسير من أهم الفنون التي ينبغي أن يدرج عليها يتمهر بها طالب القانون منذ مراحله الأولى، لكي تتحقق فكرة كونه -أي التفسير بشقيه التأصيلي والتطبيقي- أحد المفترضات الأساسية المتوجب تحققها لدة السادة القضاة وفقهاء القانون طرا، ولدى القانونيين قاطبة… وخاصة من كان له عمل مباشر يقتضي تصديه مفسرا ومقررا لأحكام النصوص والأوراق والقانونية على ما سبقت الإشارة إليه.
ولا يخفى علي المتبصر القانوني أن ما أسلفنا التنبيه إليه بأن “التفسير القانوني صناعة متكاملة” يجمع بين الشق التأصيلي وذلك الشق التطبيقي، بما يقضي بالضرورة أنه علم متكامل لا يقوم إلا بشقيه التنظيري والتطبيقي، وهو ما يتوجب أن يكون له مادة علمية مستقلة في كليات الحقوق والقانون والشريعة والقانون…
ثم إنه صناعة عملية وممارسة تطبيقية بالنظر إلى كونه “فنا عمليا” وهو ما يحتاج إلى دُربة على مهاراته وخبرة بأدواته ومساراته يحب أن تتوافر لها المحاضن المناسبة في مراكز تدريبية تتبع المؤسسات العلمية وتتبع المؤسسات القضائية أيضا.
ويعنى ما سبق أيضا :
أولا: أن القانوني الذي يمتهن اختصاصا معينا يقتضي منه التصدي لتفسير النصوص والحسم بناء على تفسيرها أن يتضلع بعلم التفسير بشقيه التنظيري إضافة إلى ذلك الشق العملي ، وأقرب الناس لذلك هم السادة القضاة وهم أعضاء سلطة الحسم والفصل، والسادة أعضاء النيابة لما يقتضيه عملهم من تكييف الوقائع في ضوء النصوص المتعلقة بها ومن ثم إحالتها إلى الجهة القضائية أو الأمر بحفظها أو البت بألا وجه للرفع الدعوى.
ثانيا: أنه على كافة القانونيين أن يلموا بفنون التفسير الأولية وخاصة في مستواها الأول سابق الذكر “مستوى فهم النصوص التشريعية وأوراقها القضائية ” باعتباره واجبا مهنيا ولازما معرفيا عليهم .
وقبل تغليق المقال الأول يجدر بنا في بداية هذه السلسلة من المقالات أن نتعرف على معنى التفسير القانوني، وذلك في الآتي:
أولا : معنى التفسير في اللغة .
يعرف التفسير لغة بأنه البيان والإيضاح حسب ما يذكر ابن فارس :”(فَسِرَ) الْفَاءُ وَالسِّينُ وَالرَّاءُ كَلِمَةٌ وَاحِدَةٌ تَدُلُّ عَلَى بَيَانِ شَيْءٍ وَإِيضَاحِهِ. مِنْ ذَلِكَ الْفَسْرُ، يُقَالُ: فَسَرْتُ الشَّيْءَ وَفَسَّرْتُهُ. وَالْفَسْرُ وَالتَّفْسِرَةُ: نَظَرُ الطَّبِيبِ إِلَى الْمَاءِ وَحُكْمُهُ فِيهِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ”. [مقاييس اللغة (4/ 504) لابن فارس (أحمد بن فارس بن زكرياء القزويني الرازي، أبو الحسين -المتوفى: 395هـ)، تحقيق عبد السلام محمد هارون، ط دار الفكر، 1399هـ – 1979م.]
ثانيا: تعريف التفسير في العلوم والممارسات القانونية
يعرف التفسير بأنه:
(1) “تحديد المعنى الذي يقصده الشارع من ألفاظ النص لجعله صالحا للتطبيق على وقائع الحياة ” . [ د. محمود نجيب حسني، شرح قانون العقوبات ص86 دار النهضة العربية ، القاهرة 2018م]
(2) كما ويعرف بأنه :”التعرف من ألفاظ النص أو فحواه على حقيقة الحكم الذي تتضمنه القاعدة القانونية بحيث تتضح منه حدود الحالة الواقعية التي وضعت القاعدة من أجلها” [ د. عبد المنعم فرج الصدة : أصول القانون ص 242، ط الحلبي ، القاهرة 1965م]
ويلاحظ على التعريفين السابقين ما يلي:
1-أن التفسير هو بحث عن معنى أراده الشارع بألفاظ معينة هي التي يتكون منها النص القانوني.
2- يفترض الفن التفسيري القيام بعملية التفسير من خلال تحليل ألفاظ النصوص التشريعية للكشف عن مدلولها؛ وإبراز المعنى الذي أراده الشارع بالنص، وهو التنظيم القانوني لموضوع معين.
3- أن للتفسير غاية وهي تفعيل النص القانوني من خلال “جعل النص صالحاً للتطبيق على ما يعرض على القضاء من وقائع”.