أصحاب الرسالات (1)

يأكل الطعام ويمشي في الأسواق

أصحاب الرسالات (1)

يأكل الطعام ويمشي في الأسواق

بقلم الأستاذ/ محمود سلامة

إن الطبيعة البشرية طبيعة رغم ميلها للتقديس، نافرة عن الطاعة، فلا تجد الإنسان إلا ويقدس شيئًا، حتى أنه إذا لم يقدس على وجه الأرض شيئًا فسيقدس نفسه. ونفسه لا تعني الجسد فقط وإنما قد يقدس أفكاره خارجًا عن الموضوعية والحياد المرام.

ألم يقل الله جل وعلى “أرأيت من اتخذ إلهه هواه”! ومن العجيب أن يكون التقديس نابعًا من الإنسان لا من المقدس في حد ذاته، فهو يقدس ما يستسيغ، بل ويضع الشروط والمعايير لما يقدس، على اعتبار بشبهة ملكية لما يقدسه يدفع ثمنه القليل المجحف كلما كانت القداسة حقيقية.

فترى الذين يقدسون الأنبياء لا يتبعونهم لتأكدهم من رحمة المرسل وكأنهم أمنوا جنابه، ولكن ما يصنعون تقديسه لا رحمة لديه إذ هو نابع من الأساس من فساد ضمائرهم أو قصور مخيلاتهم.

بل أن الإنسان في صناعته لمقدسه يغالي في معايير تقديسه، فلا يكاد يقبل بما هو مقدس بالإساس إلا بعد أن يضع له الزخرف وينسب له المعجز ويسميه الأسماء.

فلا تجد نبيًّا متبعًا أو وليًّا مرادًا إلا وينسج الناس حوله ما ينسجون حتى يمحوا رسالته وكرامته الحقيقية مستبدليه بواحد لم يكنه ولم يعش ما يدعون.

لذلك تراهم يقولون “مَالِ هَٰذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ ۙ لَوْلَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا” (٧)  أَوْ يُلْقَىٰ إِلَيْهِ كَنزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا ۚ وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِن تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَّسْحُورًا (8) الفرقان. فيسخر منهم القدوس جل جلاله قائلًا “انظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا (9) الفرقان.

إنهم يرون في أنفسهم نسبةً ما للاهوت، فيظلون يعلون في قيمة الإنسان حد القداسة، وإلا ما كان يهتم بهم الله جل وعلا ليرسل لهم الرسل، ولم ينتبهوا أنه جل جلاله لا يرسل إلّا أشرف المخلوقات، فما دام إنسانٌ مرسلًا منه جل شأنه، فإنه يكون كرمهم عن الملائكة، ولكن مركبَ نقصٍ في النفوس المريضة التي لا تدرك حكمة الرسالات وخيرية المرسلين تدعوهم لانتقاص قيمة كل أصحاب الرسالات من الأنبياء والمفكرين والأدباء والعلماء. فكيف يكون أحدهم متميزًا عليهم، يتقدم صفوفهم، ويهديهم سواء السبيل، “وينير لهم الطريق”؟!

يجب ألا ينازعهم فيما سيصنعونه به، فلا يكذب كرامة له ادعوها، ولا معجزة له نسبوها، ولا زخرفًا على سيرته ألبسوها.  فكيف يكون صاحب رسالة يأكل الطعام ويمشي في الأسواق ويخالط الناس ويتباسط مع عوامهم ويحنو على ضعيفهم ويرحم مقهورهم ويسعى للرفعة والإصلاح! كيف لا يكون له جناحين ليطير بهما! وكيف لا يصدر شعاعا من عينيه ينير به ظلمات الطريق بلا اعتبار لظلمات الفكر! فكلما زهد ولي كلما نازعوه الوحدانية في الإشراك به برسالته، فيعبدون الرسول لا المرسل، وينظرون للرسول لا الرسالة، ويبتهجون بالمعجزة لا بالمعجز إن صدقوها، وهم أميل لنكرانها حتى يسعى صاحبها لإثباتها فيجيزوه، ويضيفون ما يرونه ناقصًا وكأنهم يضيفون الجلال على الجليل والهيبة على المهيب.

هكذا هم الناس، ليس كل الناس، ولكن معظمهم ممن يريدون زخرف القول وزيف الحياة، ممن يبنون أوهامًا ليعيشوا فيها. فكلما كنت متكبرًا متعجرفًا متعاليًا مذلًا ظالمًا صلفًا نزقًا لا رحمة بقلبك ولا خلق بمعاملتك ولا روح في أنفاسك غير جحيم الخطيئة، تُيِّمُوا بك وهاموا في غرام طلعتك التي تضن بها عليهم وتنعم.

لكن إن كنت تأكل الطعام وتمشي في الأسواق متباسطًا في حديثك طيب المعشر، فأنت لا محالة مرماهم. ولكن ربك يطمئنك قائلًا جل شأنه “وَدَعْ أَذَاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ ۚ وَكَفَىٰ بِاللَّهِ وَكِيلًا (48) الأحزاب.

زر الذهاب إلى الأعلى