أسباب الإباحة كمشروعية استثنائية

إشكاليات الجهل بها والغلط فيها وأثرهما فى القصد الجنائي

الدكتور/ محمد عاطف كامل- المحاضر بكلية الحقوق جامعة طنطا والجامعة العمالية فرع كفرالشيخ

يمكننا تعريف أسباب الإباحة بأنها “الأحوال التي يرتب عليها القانون -عند توافر النموذج القانوني للجريمة- تعطيل نص التجريم والعقاب وعدم تطبيقه، رغم خضوع السلوك الإنساني المرتكب لنص قانوني يُجرمه، فيصبح سلوكاً مشروعاً بصفة استثنائية خروجاً عن الأصل”.

وتُسمّى الإباحة بالمشروعية الاستثنائية تمييزًا لها عن المشروعية العادية، إذ إن السلوك الإنساني في حالة الإباحة يصطدم – من حيث الأصل – بنصوص التجريم والعقاب، غير أن توافر سبب من أسباب الإباحة ينزع عنه صفة اللامشروعية ويُدخله في نطاق المشروعية، ولكن بصفة استثنائية خروجًا عن الأصل، أمّا المشروعية العادية فهي العمل المشروع الذي لم يَرِد بشأنه نص تجريم أو عقاب، وليس له نموذج قانوني يقرّه المشرع ضمن الجرائم، فهي إذن سلوك إنساني عادي لا يتعارض مع أي نص تجريمي أو عقابي في قانون العقوبات أو أي قانون آخر.

فالجريمة لا تتحقق إلا إذا تطابق السلوك الإنساني مع النموذج القانوني الذي قرره المشرِّع لها، فإذا انتفى هذا التطابق كان العمل مشروعًا مشروعيةً عادية، أمّا إذا توافر هذا التطابق، فإن الفعل يُعد جريمة بحسب الأصل، ما لم يرد عليه استثناءٌ يتمثل في أحد أسباب الإباحة، فينزع عنه صفة اللامشروعية ويترتب عليه تعطيل نصوص التجريم والعقاب، تطبيقًا لإحدى القواعد المُبيحة.

وتُنتج الإباحة أثرها بالنسبة إلى الفعل المرتكب، فيصير عملاً مشروعًا يستفيد منه الجاني، وإذا تعدد الجناة –كما في حالة المساهمة الجنائية– استفاد المساهمون جميعًا من هذا الأثر، ذلك أن أسباب الإباحة ذات طبيعة موضوعية، إذ تتعلق بالفعل ذاته دون النظر إلى شخص مرتكبه، وبناءً عليه يسقط وصف التجريم عن الفعل سواء أكان الجاني عالمًا بوجود سبب الإباحة أم جاهلًا بتوافره.

وتُثار في هذا الشأن عدة تساؤلات، من أبرزها:
١- هل يترتب على الجهل بأسباب الإباحة أثر يؤدي إلى تعطيل نصوص التجريم والعقاب، ومن ثم إباحة السلوك المرتكب؟
٢- هل يُنتج الغلط في الإباحة (الإباحة الظنية) أثرًا يؤدي بدوره إلى إباحة السلوك المرتكب؟

أولاً– الجهل بالإباحة:
يقصد بالجهل بالإباحة أن يرتكب الجاني عملاً يشكل جريمة في الظاهر، معتقدًا عدم مشروعيته،
بينما هو في الحقيقة يجهل توافر سبب من أسباب الإباحة الذي من شأنه أن ينزع عن الفعل صفة
التجريم ويُضفي عليه صفة المشروعية الاستثنائية، ونظرًا لأن أسباب الإباحة ذات طبيعة موضوعية،
فإن أثرها يتحقق بمجرد توافر عناصرها، حتى لو كان الجاني يجهل وجودها، تطبيقًا للقاعدة الفقهية القائلة إن “الجهل بالإباحة لا يحول دون قيامها، وبالتالي لا يمنع الفاعل من الإفادة منها”

ومن أبرز التطبيقات لذلك أن يرتكب الجاني جريمة قتل في حالة دفاع شرعي –متى توافرت شروطه– دون أن يكون عالمًا بتوافر هذه الشروط أو الأسباب المُبيحة، ففي هذه الحالة تقوم الإباحة رغم جهل الجاني، وينتفي عنه وصف الجريمة.

ثانياً- الغلط في الإباحة (الإباحة الظنية):
يقصد بالغلط في الإباحة أو ما يُعرف بالإباحة الظنية، ذلك الوهم الذي يقع فيه الجاني حين يعتقد
–على خلاف الحقيقة– بوجود سبب من أسباب الإباحة يبيح سلوكه، بينما لا يكون لهذا السبب أي وجود في الواقع، وتكون هذه الإباحة مجرّد تصور ذهني لا سند له، إذ يقوم على اعتقاد خاطئ لدى الجاني بتوافر الوقائع التي يقوم عليها سبب الإباحة، في حين أنها في الحقيقة غير متحققة.

ويُثار تساؤلٌ في هذا الإطار حول مدى الاعتداد بالإباحة الظنية أو الغلط في الإباحة، عندما يتوهّم الجاني وجود سببٍ من أسباب الإباحة يعتقد (خطأً) أنه يرفع عنه صفة التجريم والعقاب؟

وفي الرد على هذا التساؤل، يُبين قانون العقوبات موقفه من فكرة الغلط في الإباحة من خلال بعض نصوصه، فقد عالج هذا الأمر في المادة (٦٣) – الفقرتين الأولى والثانية – فيما يتعلّق بعمل الموظف العام، إذ قرّر المشرّع الاعتداد بصورتين من صور الغلط في الإباحة متى كان عمل الموظف قائمًا على أسباب معقولة وتوافر لديه حسن النية في اعتقاده، كما تناولت المادتان (٢٤٩) و(٢٥٠) فكرة «الخطر الوهمي» باعتباره صورة من صور الغلط في الإباحة، إذ يظن الشخص –على غير الحقيقة– أنه مهدّد بخطر داهم فيأتي أفعالًا دفاعية يتبين لاحقًا أن الخطر لم يكن له وجود، بل نشأ من محض توهّم.

وإذا كان المشرِّع قد اعتدَّ بالغلط في الإباحة في بعض المواضع –كما عُرض في هذه النصوص– وجعله سببًا لعدم توقيع العقوبة، فإن ما قرره في هذا الشأن يقتضي بيانًا وتفصيلًا نورده:

فمن جهة، نتفق مع المشرِّع في الأخذ بالغلط في الإباحة متى كان اعتقاد الشخص قائمًا على أسباب معقولة، بالتالى لا يوقع العقاب، ومن ثم تُنتفي المسئولية الجنائية أو يُنتفي القصد الجنائي بحسب الأحوال.
إلا أننا نختلف معه في مساواته بين فكرة الغلط في الإباحة (الإباحة الظنية) وبين الإباحة الحقيقية ذات الطبيعة الموضوعية، ونؤسس هذا الاختلاف على ما يلى:

أن الإباحة تستند إلى أسباب موضوعية يلزم توافرها جميعًا حتى يُنتج أثرها القانوني، فلا يكفي مجرّد التوهم أو الاعتقاد الخاطئ بوجود هذه الأسباب، ومن المقرر فقهيًا أن «الغلط في الإباحة لا يُعدِّل الإباحة ذاتها»، بمعنى أن الشخص الذي يقع في وهم أو خطأ في تقدير توافر سبب من أسباب الإباحة لا يُعد سلوكه مباحًا في نظر القانون.

ومن هذا البيان يتضح أن الغلط في الإباحة يرتبط ارتباطًا وثيقًا بالركن المعنوي للجريمة، إذ يؤثر في القصد الجنائي من حيث تعديله أو نفيه، فالغلط في الإباحة –متى تحقق– قد ينفي القصد الجنائي في الجرائم العمدية، فيُحوّل الفعل إلى صورة أخرى هي الخطأ غير العمدي، ومع ذلك، فإن هذا الأثر ليس مطلقًا،
إذ يشترط للعقاب على الفعل كجريمة غير عمدية أن يقرر المشرِّع ما يلي:

أولًا: أن ينص القانون صراحةً على تجريم الفعل بوصفه جريمة غير عمدية (خطأ غير عمدي).
ثانيًا: ألا يكون الغلط في الإباحة مبنيًا على أسباب معقولة.

وبناءً عليه، فإن الغلط في الإباحة ينفي القصد الجنائي فحسب، لكنه لا يهدم الركن المعنوي للجريمة كليًا إلا في حالتين:
١- إذا لم ينص القانون على العقاب على الفعل بوصفه جريمة غير عمدية.

٢- إذا كان الغلط في الإباحة قائمًا على اعتقاد مبني على أسباب معقولة، بما ينفي شبهة الخطأ غير العمدي بدوره.
وبذلك تنتفي المسئولية الجنائية برمّتها – سواء عمدية أو غير عمدية – في هاتين الحالتين.

علاقة الغلط في الإباحة بالغلط في الوقائع أو القوانين الأخرى غير قانون العقوبات:

يقصد بالغلط في الوقائع أنه خطأ يتعلق بالحقائق أو الوقائع المادية، أي إن الشخص يعتقد صحة أمرٍ معيّن بينما يخالف الواقع، فيكون الخطأ في تقدير أو فهم حقيقة الموقف الذي وجد فيه نفسه، وليس في تفسير نصٍ قانوني.

أمّا الغلط في القانون فيقصد به اعتقاد الشخص –على خلاف الحقيقة– بوجود نص قانوني يُبيح له ارتكاب فعلٍ معيّن، بينما لا يكون لهذا النص وجود في الواقع أو لا يُقره القانون فعلًا.

وفيما يتعلق بالغلط في الإباحة، فإنه ينصرف أساسًا إلى مجرد الغلط في الوقائع أو في تطبيق قانون آخر غير قانون العقوبات، إذ إن هذا النوع من الغلط قد يُنفى به القصد الجنائي عند توافر شروطه، أمّا إذا انصب الغلط على قانون العقوبات ذاته، بأن يعتقد الشخص –خطأً– أن هذا القانون يُجيز له ارتكاب الفعل، فإن ذلك لا يُعدّ عذرًا له، لأن الجهل بأحكام قانون العقوبات لا يُقبل كعذر يرفع المسئولية الجنائية.

مراجع: مؤلفات القسم العام في قانون العقوبات.

زر الذهاب إلى الأعلى