من تراب الطريق ( 1275 )
ــــ
نشر بجريدة المال الاثنين 7/3/2022
ــــــــــ
بقلم نقيب المحامين: رجائى عطية
لا تملك إلاَّ الدهشة على عدم اتساع الوفد لقطبين من وزن الدكتور أحمد ماهر ومحمود فهمى النقراشى ، صاحبًا التاريخ العريض فيه وفى ثورة 1919 ومنذ البدايات ، واللذان احتملا ما احتملاه من السجن والمحاكمة التى كانا مهددين فيها بالإعدام . أى خلاف فى الرأى يمكن أن يبرر هذا الانفراط ؟! وأى منطق سارت عليه قيادة الوفد والذى أدى إلى هذه الانشقاقات حسب التعبير السائد ، ووضعها الصحيح أنها انشقاقات إجبارية أو اضطرارية ؛ لتعذر التعامل مع سياسة صلبة لا تضيق فقط بالرأى الآخر ، وإنما تهدر رأى الأغلبية ، وهو ما يشكل لأى كيان بداية الانحدار ، ناهيك بالقيام بالفصل بلا ضوابط ، ودون تقدير ما فى هذا الفصل من تداعيات خطيرة على الكيان الحزبى ، ولا سيما حين يجرى ــ وهو ما قد حدث ــ دون التقيد بالقاعدة النصيّة التى ارتضاها الجميع حين تكوين الوفد ، ألاَّ يفصل أحد أعضائه إلاَّ بأغلبية ثلاثة أرباع الأعضاء .
لذلك لم يكن غريبًا أن يفسد ما بين النحاس ومكرم ، فسادًا تعذر أو استحال معه الاستمرار بين القطبين . قيل فى ذلك أن السبب تدخل عقيلة النحاس فى سياسة الوفد ، وقيل إنه بسبب ظهور فؤاد سراج الدين ، واتساع مساحته فى الوفد بدعم من عقيلة رئيسه ؛ وقيل إنه بسبب الغيرة من النافسين على « مكرم عبيد » موضعه فى الحزب ومن النحاس وتأثيره عليه ، وقيل إنه بسبب الفساد الذى نسب إلى تدخلات حرم الرئيس ، والمتفق عليه أن الخلافات وصلت إلى نقطة اللاعودة بعد الخلاف حول « الترقيات الاستثنائية » ، التى عارضها مكرم ، وقام بنشر آرائه فيها بالصحف ، فثارت ثائرة النحاس ، وزاد إشعالها المجموعة الجديدة الرافضة لوضح مكرم ، حتى كانت واقعة الكتاب الأسود ، وإلى أن بلغت التداعيات استغلال مصطفى النحاس باشا صفته كحاكم عسكرى لإيداع مكرم عبيد فى السجن .
أذكر نفسى ، وأذكر القارئ ، بأننى لا أقوم بدور المؤرخ ، وإنما هى انطباعات نتيجة التأمل فى الأسباب والجذور وتكييف الظاهرة بما أعتقد أنه الصواب . يؤيد ذلك أن « الاقصاء » تعدد فى الثورات وفى الأحزاب وفى الحكومات ، وهو أشد حضورًا فى الزعامات التى لا تقبل القسمة على اتنين !
بالأمس لم يبق بجانب سعد زغلول فى الوفد إلاَّ الأقلية ، وإن ظل الركب فى مسيرته لمكانة سعد الذى كان مدار آمال الأمة ، وصاحب الجماهيرية الكاسحة . لقد قال الأستاذ محمود أبو الفتح المرافق للوفد فى باريس ، إن إسماعيل صدقى ومحمود أبو النصر كانا مفترى عليهما من سعد و الوفد .
ولكن مصطفى النحاس ليس سعد زغلول ، والاسراف فى الخصومة التى كان يمضى فيها سعد باشا حتى النهاية مع كل من خالفة فى الرأى ، قد استمر فيها مصطفى النحاس وأسرف بدوره فى الخصومة ، وقد أدى هذا إلى انشقاقات ليست إرادية ، وإنما اضطرارية بسبب مصادرة القيادة رأى الأغلبية خلافًا لكل تقاليد الديمقراطية ، ومبادئ الحزب ذاته . فحين لا تفلح الأغلبية فى احترام رأيها ، بل ومصادرته من رئاسة الحزب ، لا يكون أمامها سوى الانصراف أو الانشقاق كرهًا ، ومن ثم كان فى لبه « إقصاءً » .
لم يعتبر رئيس الوفد بنتيجة خروج ماهر والنقراشى وتأليفهما الحزب السعدى الذى صار شوكة فى جنب الوفد ، فإذا بالأمر يتكرر مع « مكرم عبيد » ، وقد قيل إن فؤاد سراج الدين مع الكراهة المتبادلة بينه وبين مكرم ، كان من رأيه أى التعامل مع مكرم عبيد وهو فى الحزب والسلطة ، أسهل من التعامل معه وهو خارج الحزب والسلطة ، إذا ما انشق عليهم وعارض ذلك الحلف المبرم بين كارهيه الراغبين فى طرده ، وقد أثبتت الأيام صحة رأى سراج الدين ، إذْ أقام مكرم عبيد حزب « الكتلة الوفدية » ، وطفق يحارب الوفد والنحاس علنًا ، وبما له من شعبية ووزن فى الحياة السياسية . وفى النهاية يدفع الثمن الحزب نفسه ، الذى خسر تباعًا « بالإقصاء » زبدة أقطابه وأصحاب الخبرة والكفاءة والرأى فيه .