أزمة الزعامة السياسية (14)

من تراب الطريق ( 1284 )

نشر بجريدة المال الاثنين 21/3/2022
ـــــــــــــــــ
بقلم: الأستاذ رجائى عطية نقيب المحامين

أمثلة الديكتاتوريات التى تحصّنت بالاستبداد والقهر ، عديدة فى التاريخ وفى الحاضر ـ فنرى مفكرًا كالأستاذ العقاد يعنى ببيـان مخاطـر هذا الحكم المطلق منذ كتاباته الأولى ، فى يومياته وشذراته الأولى عام 1911 ، ثم سنة 1915 ، وفيما كتبه عن الاستبداد فى مجموعات « الفصول » و« المطالعات » و« المراجعات » . وما كتب عن « النازية والأديان السماوية » عام 1940 ، وأخرج كتاب « هتلر فى الميزان » فى ذات عام 1940 ، أى قبل نهاية حياة هتلر منتحـرًا مع نهاية الحرب العالمية الثانية 1945 ، وسبق هذه الكتابات كتابه الصادر 1928 : « الحكم المطلق فى القرن العشرين » .
فقد كان الاستبداد المطلق مقدسًا فى زعم رجال الدين , وكان وسيلتهم أو جسرهم لحفظ مكانتهم وقضاء مآربهم .. فألحقوا بالحكم « مصدر إلهى » بزعم أن الحاكم ( المستبد ) يتلقاه من السماء , فلا هو يُسأل عنه ولا أحد يملك هذا السؤال , وليس للشعب ـ أى شعب ـ إلاَّ أن يطيع حاكمه كما أطاع ويطيع خالقه , ويؤمن بحكمته كما آمن ويؤمن بحكمة ربه .
كان هذا هو مصدر الحكومة المستبدة إلى ما قبل القرن الثامن عشر , وكان الإيمان به أو التسليم له شائعًا لا يشك فيه إلاَّ أفرادٌ معدودون من أحرار الفكر , يتخفون بآرائهم كما يتخفى المجرم بجريمته .
وقد شاهدنا نماذج لهذا الحكم الثيوقراطى وانتحال الحديث بل والفعل بأمر الإله ، فى غير قليل من حكام الدولة الأموية ثم الدولة العباسية ، وعبر عن ذلك تعبيرًا واضحًا فى صدر الدولة العباسية « أبو العباس السفاح » ، الذى أوغل فى سفك الدماء فنال لقب « السفاح » عن جدارة واستحقاق » .
وتتجلـى الثيوقراطيـة فى أسوأ صورها ، فى الخطبة الضريرة التى ألقاها أبو العباس السفاح إثر بيعته ، وفحوى ما ألقاه أن الخلافة « ميراث شرعى » عن النبوة لأسرته ، متصورًا أن النبوّة تركة تورث ، فقال : « الحمد لله الذى اصطفى الإسلام لنفسه فكرَّمه ، وشرَّفه وعظمه واختاره لنا وأيّده بنا .. ، وجعلنا أحق بها ـ بالخلافة ـ وأهلها وخصّنا برحم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقرابته !!
وختم السفاح هذا الخلط والتخليط الفادح ، فأدخل النبوّة فى الإرث ، وجعل حقهم فى الخلافة مستمدًّا من الميراث ، وزاد على ذلك أن « عِرقهم طاهر مطهّر إلى يوم الدين ، وأن لهم حقًّا فيما يفىء به الله على المسلمين .. فاستعدوا فأنا السفاح المبيح والثائر المنيح » .
وتجاوز أبو جعفر المنصور الخطبة الثيوقراطية التى ألقاها أخوه السفاح بالكوفة ، وادعى فيها أنهم يرثون الخلافة من النبى عليه الصلاة والسلام ، ولهم ما كان له فى القرآن ، فإذا بالمنصور يدعى أنـه سلطـان الله فى الأرض ، يسـوس الناس بتوفيقه وتسديده ، ويعمل بمشيئته ، وهو خازن فيئه ، والذى يقسمه بإرادته ، ويعطيه بإذنه ، وقال للمسلمين بخطبته أيام منى فى الحج :
« أيها الناس ! إنما أنا سلطان الله فى أرضه ، أسوسكم بتوفيقه وتسديده ، وأنا خازنه على فيئه ، أعمل بمشيئته ، وأقسمه بإرادته ، وأعطيه بإذنه . فقد جعلنى الله عليه قفلاً ، إذا شاء أن يفتحنى لأعطياتكم وقسم فيئكم وأرزاقكم فتحنى ، وإذا شاء أن يقفله أقفلنى . فارغبوا إلى الله أيها الناس ، وسلوه فى هذا اليوم الشريف ، الذى وهب لكم فيه من فضله ما أعلمكم به فى كتابه إذ يقول تبارك وتعالى : « الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا » ـ أن يوفقنى للصواب ، ويسددنى للرشاد ، ويلهمنى الرأفة بكم والإحسان إليكم ، ويفتحنى لأعطياتكم وقسم أرزاقكم بالعدل عليكم إنه سميع قريب ! » .
على أنه حين انتقل سلطان الحكم من الملوك المستبدين إلى مشيئة الشعوب , انتقلت القداسة معه إلى المصدر الجديد , فصار الحكم الجديد يتترس بحكم العادات المتأصلة والعقائد الموروثة , بالقداسة المستمدة من التفويض الشعبى , وصارت هذه العقيدة الحديثة عقيدة فى الضمير يشوبها الإبهام !
ظهرت هذه الدكتاتوريات فى تركيا ، وإيطاليا ، وإسبانيا ، وامتدت ظلالها إلى مصر فيما عرف بحكومة اليد القوية ، حكومة محمد محمود باشا الذى أطلق هذا المسمى « اليد القوية » على حكومته ، وترجع جذور هذا الاستبداد إلى تحكم الإنجليز والسراى فى الحكم ، وتغيير الوزارات على هواهما !!
وتاريخ الدولة العثمانية ، محفوف بالدماء ، يقتل الأب ابنه ، والابن أباه ، والأخ أخاه لإقصائه عن السلطة بل وعن التطلع إلى السلطة ، حتى قتل أحد السلاطين يوم توليته ، تسعة عشر أخًا من إخوته الصبية والأطفال مخافة أن يسعوا إلى الحكـم إذا عاشـوا وكبروا .
ومع أن مصطفى كمال أتاتورك ألغى الخلافة فى 3 مارس 1924 ، وصار معبود الجماهير فى تركيا ، إلاَّ أن حياته كلها ملآنة بطبعه الأصيل فى الاستبداد والإقصاء ، وهى طويلة تعكس دكتاريته السوداء ، قبل توليه الحكم ، وبعد توليته ، ولم يكن أقل تجاوزًا فى الدماء ، وإيقاع الظلم والإقصاء من سلاطين الدولـة العثمانية !!!

زر الذهاب إلى الأعلى