أحوال الإنسان في رحلة الحياة (5)

من تراب الطريق (1055)

أحوال الإنسان في رحلة الحياة (5)

نشر بجريدة المال الإثنين 8/3/2021

بقلم: الأستاذ/ رجائي عطية نقيب المحامين

قد تتصور غالبية الناس أن البشر منذ بداية الخليقة للآن ـ على ذات الدرجة من الإدراك والفهم بعامة.. وهذا تصور يجافي الواقع، فالهمجية كانت هي البدايات الأولى للبشرية.. ندرك ذلك حين نتأمل قول الحق جل وعلا: « وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا ».. فالفجور هو الهمجية التي كانت تسود الكل في الماضي البعيد جدًّا جدًّا.. ثم نبتت بعد ذلك التقوى خطوة خطوة.. بهدوء وإيمان.. على قدر ما أفسح منه الزمن ـ مع الزيادة المتتابعة للأجيال في الالتفات والإدراك من خلال تزايد الانتباه ثم الرشد في العصور والقرون المتتابعة.. فمع توالى الزمن بعوامله وظروفه تزايد الفريقان عددًا بنسبة أفراده.. فزاد عدد المتنبهين وزادت مداركهم وعقولهم اتساعًا على قلتهم، وزاد عدد الجهال والحمقى على كثرتهم التي لا تزال كثيرة حتى اليوم !.. لكن قد وضح بجلاء، ومن قرون طويلة ماضية، وجود العقلاء وتأثيرهم وآثارهم الإيجابية الطيبة إلى جانب أوشاب وأغلاط الكثرة الكاثرة التي تجمع في عين الواعي المدقق أخلاط الخلق من الفجرة والطغاة والظلمة والقساة والأنانيين والخبثاء والطامعين والجشعين ومن في خدمتهم من الحمقى والأوغاد والأنذال والساقطين !!

وقلما يشعر الآدمي.. الآن وقبل الآن إلى الماضى الغابر.. بالرغبة في الاتجاه بصدق وإخلاص وإخبات إلى الخالق جل شأنه.. إذ تلتهمه دنياه التهامًا حتى في صلاته وصيامه.. وهذا داء عضال ساد إلى هذه اللحظة.. فلم يتعلم الآدمي قط معنى الرغبة في الخالق عز وجل حتى في عباداته.. لأنه لم يتعلم ولا يتعلم هذه الرغبة لا عن أبويه ولا من مؤدبيه.. هذه الرغبة التي كلها انتباه إلى خالقه من جانبه فيما يجريه ويرفضه وما يأخذه ويعطيه وما يتجنبه في دنياه خلال حياته مدة رشدها.. ولو فطن البشر إلى الاستمساك بهذه الرغبة ـ لما عانوا ما يعانون حتى الآن من ظلم الظالم وهوان المظلوم اللذين يعرضان البشرية قاطبة للهلاك !

وفيما عدا رجال الدين المقيدين بعهود إلى نهاية العمر ـ لا يعرف الآدمي حتى الآن إلا أن حياته صعود من ضآلة إلى قمة ونزول منها إلى نهايتها.. ولذا يستعجل كل منا ما استطاع طمعا منه في قمة عمره لينزل بكهولته وشيخوخته إلى زواله.. مرد هذا أن حياة الآدمي ليست بالضبط كما تصورها آباؤنا وتصورناها نحن منهم.. فالحياة مرجعها في واقعها الجاري إلى طراز معيشة كل منا فقط فيما اعتاده من مأكل ومشرب وعمل ولهو ويقظة ونوم، يصب في هذا الاعتياد تقلص عواطفنا وتمددها النسبي وما يصحب هذا أو ذاك من الهدوء أو التفكير، والشبع أو الجوع، وما نسميه الصحة أو المرض والعافية، أو الضعف والقوة، أو الجفاء والوداد، أو العداوة والوئام، أو الحرب والسلام.. كل هذا أحوال وظروف متغيرة، ليست حتمية ولا مفروضة ولا مكتوبة، وإنما نتناوبها في رحلة حياتنا بحكم الاعتياد !

ويبدو أن الآدمي القديم ـ على الأقل في أوائله ـ لم يكن إلا صيادًا في الأرض أو في الماء.. قد لا يفرق في صيده وقنصه بين صيد الآدمي وصيد الحيوان مما يصادفه في تجواله الأيام والليالي الطويلة.. يحفظ خلالها ما يصطاده في باطن الرمل أو في لفح الشمس الشديد للحيلولة دون فساد لحم ما اصطاده.. فلم يكن الآدمي القديم كثير النسل، ولم يكن لذلك قليل العمر.. ربما لبساطة مأكله ومأواه.. ولم يعرف لذلك ما نعرفه نحن من قمة الحياة وتدهورها من القمة للعودة إلى السفح! لأنه لم يكن كثير النسل ولا لصيقا بالإناث.. فلم يعرف الآدمي ذلك إلا حين عرف استئناس الحيوان لاستخدامه ورعيه وأكله، وعرف إلى جواره جدوى الزراعة في زيادة المأكل واتساع المسكن والاقتراب من الإناث وبالتالي كثرة النسل، فقل حجمه وتضاعفت حاجاته وزادت لوازمه وامتدت أطماعه مرات ومرات، وباتت حياته محدودة نتيجة ذلك إذا قيست بحياة أولئك الصيادين الأوائل.. صارت محدودة بحدود الصغر والشباب ثم الرجولة أي القمة والكهولة والشيخوخة !

زر الذهاب إلى الأعلى