أحوال الإنسان في رحلة الحياة (4)
من تراب الطريق (1054)
أحوال الإنسان في رحلة الحياة (4)
نشر بجريدة المال مقال الأحد 7/3/2021
بقلم: الأستاذ/ رجائي عطية نقيب المحامين
يبدو أنه لا يزال بعيدًا انتقال الآدميين من إطار الخوف والإخافة الذي يحيط بمعظمهم ومعه الإرهاب أو التدمير الذي يهددهم ـ إلى إطار الإنسانية والفهم والتعقل والتعاطف والمؤاخاة.. لا تزال هذه المرحلة بعيدة عنا حتى اليوم.. بالرغم من حضارتنا المتقدمة جدًّا بالنسبة لسابقاتها!.. لا يزال الناس من هذه الناحية أطفالاً من حيث الفطنة والحصافة واكتمال التعقل والرشد.. تبدو هذه الطفولة واضحة لمن يرقب ويتمعن بإمعان في أحوال البشر!
لا يرى غير العقلاء وهم للأسف قلة ـ أننا حتى الآن نخسر ونضيع أكثر بكثير مما نكسبه ونستزيده!!.. ونبعثر ونمزق ونفرق أغلب ما نجمع ونقوى ونؤكد.. نتخيل بجهالة أن ما نجنيه باق وهو ليس كذلك على الإطلاق!. فهو عرضة للزوال أو للتخريب والتدمير في أي مناسبة هي قريبة مهما ابتعدت أو بدا لنا أنها بعيدة.. الحماقات الآدمية لا أول لها ولا آخر.. زادت الآن مع الكثرة الهائلة في زيادة أعداد الناس على الأرض وزيادة أشيائهم وأصواتهم وحركاتهم وسطحيتهم وغرورهم وخلافاتهم التي لا تحصى ولا تنقطع.. هذه الأخلاط السلبية التي انحصرت فيما لا ينفع ولا يفيد ويحجب فضائل وقيم الإنسانية، ويحجب معها عقل وأخلاق وعواطف ومزايا الإنسان!.. هذه المزايا المحجوبة الغائبة في سحب الأطماع والشهوات والخصومات والعداوات والأزمات والنكبات التي لا تنتظر إلا الدمار والخراب في النهاية القريبة أو غير القريبة!!
وكل منا لا يكف مادام حيًّا ـ عن طلب النعمة حتى ممن أنعم بها عليه.. لأن الآدمي طامع جائع نعمة.. لا يشبع منها من يجدها.. ولا ينقطع عن الابتهال بنوالها من حرم منها.. وأشد الرغبات طمعًا وجوعًا إليها وتمنيًا لتحقيقها هي النعم المادية، وأشد الأشد منها المال الكثير!
وجوع الآدمي العادى إلى النعمة مطلق في الأصل.. لا يتقيد بواجب معلوم لأن النعمة في نظر القاعدين عن السعى، هبة تنزل على المتلقين تفضلاً وكرمًا، ولذا يدعو بها كل الناس لأنفسهم وأحبابهم!
والقدرات البشرية تتقارب وتتباعد.. والمتقاربة فيها المتعمق وغير المتعمق.. والمتعمقون فيهم الفريد في جانب من تعمقه، وفيهم غير الفريد.. وللخالق جل شأنه في خلقه شئون.. لكن الناس تخلط دائمًا هذا بذاك، لأن الناس جماعات صغيرة أو كبيرة.. والجماعات قد تعرف أو تردد أشياء وتجهل أخرى تمامًا.. أما الآدمي الفرد، ففيه الخامل، وفيه النشط.. فيه البليد، وفيه الفطن الواعى، وفيه أيضًا ـ وإن ندر ـ الخارق في ذكائه وفهمه الذي يكشف له جوانب قد تتأبى على غيره.. وقد لا يكون الآدمي خارق الفهم وإنما واسع الملاحظة والمعرفة والخبرة والحافظة والسن نادر الأخطاء، لكنه عليم بأخطائه، ويجتهد في علاجها وتلافيها.. ذلك لأنه تخلى عن الغرور بعد مفارقة الشباب واكتمال النضج!
بيد أن الفهم عميقًا كان أو خارقًا ـ بعيد تمامًا عن الإلهام الذي لا علاقة له بعقل الملهم.. ولعله من قبيل الرؤية الصادقة أو الحكم الصادق النادر لدى بعض الخلق ممن حباهم الله تعالى بمزايا وقدرات فريدة يندر أن تتوافر في غيرهم!
لو عرف الآدمي وأدرك إدراكًا حقيقيًا أنه مخلوق لا يخلق، وأن لله تبارك وتعالى في خلقه شئونا، لما استغرب وجود هذه الندرة التي تبدو بخارج سرب العاديين من الناس، ولعرف أنها هبة ربانية منحها الخالق جل شأنه لمن يشاء.. الناس بقدراتهم المحدودة يملؤهم المعتاد والمتشابهات على اختلافها.. والفريد لديهم قليل بل بالغ الندرة جدًّا!
هذا التفرد النادر ليس تمسك كل منا الشديد عادة بفرديته أو بفردية بيته ومن هم فيه.. لأنهم افتراضًا وامتثالاً جزء من حياته في اعتقاده.. فهي فردية اجتماعية تمثل أصغر صور الجماعة الكبيرة الشاملة للكل قدر ما لدى كل أسرة.. التفرد النادر شىء أعرض وأعلى من الانحصار في الذات.. هو إحساس بالكل في عمق وفهم يتسع لمعنى الإنسانية، وإدراك بصير لمعنى دور الإنسان في الحياة!