أحوال الإنسان في رحلة الحياة (1)

من تراب الطريق (1051)

أحوال الإنسان في رحلة الحياة (1)

نشر بجريدة المال الثلاثاء 2/3/2021

بقلم: الأستاذ/ رجائي عطية نقيب المحامين

مع أن المساجد عامرة والحمد لله، بالمصلين والركع السجود، اللائذين إلى الله، المهاجرين إليه بالدعاء والابتهال، إلاّ أنه قد يندر إن لم يندر جدًّا جدًّا ـ من يتذكر الآخرة ذكراها العميقة الواعية الجادة.. ربما لأن كثيرًا من الألسنة اللاهجة بالذكر والدعاء لم تتجاوز دنيانا خطوة واحدة ! لأننا بكل تأكيد ـ أهل دنيا فقط دمًا ولحمًا عقلاً وعاطفةً ـ جادين ولاهين !

والديانات كلها من أول الخليقة وختامًا بالإسلام الحنيف خاتم الرسالات، مهمتها في الأساس الإمعان في تهذيب عاداتنا وأخلاقنا وإشعارنا إشعارًا جادًا، بأننا نفارق معنويا وباستمرار ـ الجانب الحيوانى فينا ـ إلى اكتمال العقل الرشيد فتكتمل باكتماله إنسانيتنا إلى ما شاء الله.. وقد خلصها كمال العقل ورشده من الأنانية السخيفة المزعجة التى لا يكاد يخلو منها أحد منا إلى اليوم والغد !

ونقرأ في القرآن الكريم قوله تعالى:« وَاعْبُدُواْ اللّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا » (النساء 36).. وقوله: « قُلْ مَا أَنفَقْتُم مِّنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللّهَ بِهِ عَلِيمٌ »(البقرة 215).. وقوله: « وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا » ( الإسراء 23، 24 ).. وقوله سبحانه وتعالى: « وَوَصَّيْنَا الإنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ في عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ * وَإِن جَاهَدَاكَ عَلى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا في الدُّنْيَا مَعْرُوفًا » (لقمان14، 15).. وقوله عز من قائل: « قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا » (الأنعام 151).

فالأبوة أو الأمومة يجب في شرعة الإسلام أن تجل وتصان حتى وإن كانت مشركة أو على دين آخر.. وكذلك من في حكمها من الأقرباء الذين لا سلطان للمسلم عليهم كالوالد أو الوالدة.. فقد أجلّ نبينا المصط في ـ صلى الله عليه وسلم ـ أجلّ عمه أبا طالب إلى أن مات، وأجلّ نساءه وعشيرته مع أنهم لم يكونوا جميعًا مسلمين.. لأنهم كانوا كالأبوين له.. لم يقصروا في تربيته والعناية به في صغره ولا في الوقوف في صفه ـ ضد خصومه ـ بغاية الإخلاص.. التزموا ذلك إلى أن فارقوا الدنيا وظل النبي عليه السلام ينزلهم على الدوام منزلة التقدير والعرفان.. فديننا حكيم أصلا وفصلا.. لا يحتقر إنسانية الإنسان كائنًا ما كان اعتقاده ودينه. إذ الدين للإرشاد في دنيانا وليس للاستبداد والغلظة والجبروت.. وقسوة القاسي الغليظ ابتعاد تام عن الإنسانية.. فيه إنكار لكل دين سماوي.. ولا معنى لوعظه إن وعظ، ولا قيمة لصلاته إن صلى وتعبد ما دامت القسوة الغليظة متحكمة فيه وسلوكه مع الناس مطبوعًا بها !!.. إذ وجود الإنسانية في الآدمي نعمة إلهية في حد ذاتها تبعد به تمامًا عن الأنانية الحيوانية المهيأة المستعدة للبطش والخطف والافتراس والجشع والطمع والمكر وعدم المبالاة إلا بالذات ومن في حكم الذات. فإنسانية الآدمي شديدة القرابة لكل دين سماوي في كل زمان ومكان، وصاحبها مطلوب ومحبوب في كل جماعة في الماضي والحاضر والمستقبل.

لكن غالبيتنا الغالبة حتى اليوم تؤثر الأنانية على الإنسان إيثارًا شوه الأخلاق وأرهق الأمم وأفسد الضمائر وضيع الحقوق. وهذا الإيثار الشيطاني المدمر إن استمر في طريقه الخبيث كفيل بأن يقضى على البشر ويقوض سنن الحياة.. لأن الأنانية السائدة لدى معظم الناس الآن ـ تجتاح في طريقها الشيطاني ضعف إنسانية الأقلية التي تزداد ضعفًا وتقل عددًا حتى لا يسمع لها صوت. ولا يذكرها ذاكر !

فنحن في الواقع السائد الآن نعيش دنيا الجامحين المستهترين.. لا دنيا الخائفين الجاهلين، ولا دنيا العاقلين الفاهمين.. بل نحن نعيش في الواقع دنيا الجامحين اللاهين.. لا نكاد نرى فيها أطياف المؤمنين الصادقين فضلاً عن لقاء الواعين الراشدين !

زر الذهاب إلى الأعلى