آفة العناد، وطريق الحق (3)
من تراب الطريق (1026)
آفة العناد، وطريق الحق (3)
نشر بجريدة المال الاثنين 25/1/2021
بقلم: الأستاذ/ رجائي عطية نقيب المحامين
والمزية التي تميز بها البشر عن سواهم هي نمو الإرادة والاختيار والوعي.. وهذه فتحت أمام الآدمي الباب إلى انتظار حياة طيبة أخرى بعد مفارقة هذه الدنيا نتيجة امتداد الإرادة والاختيار والنية والتوقع والأمل في مستقبل غير محدود أو السعي من أجله، ولا يقطعه الموت حتمًا قولاً بأن الروح لا تموت.. وتلك هي معالمها الباقية والمجردة من المادة كلية.. ولكن هل الروح هي نفس الحياة للآدمي خاصة، أم هي حياة كل حيّ آدمي وغير آدمي.. أم هي جوهر حيـاة الإنسـان إذا فارقهـا يكون الموت لا محالة.. وفي القرآن المجيد: «وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً». (الإسراء 85)
ويبدو أن حياتنا في حاضرها وماضيها كتلة مركبة بالغة التعقيد والدقة من عناصر مادية وغير مادية مفروض أن تعمل معا في مقادير وأنشــطة تتفاعـــل ويؤثر بعضها في بعض.. متغيرة تغييرًا مستمرًا تبعاً للظروف خلال سني النمو وسني الشيخوخة. هذا التركيب الذي نعيشه كما عاشه أسلافنا من قبل ــ قد تحدد في وعينا وعقلنا وحافظتنا وسلوكنا تحديدًا لازم فكرة كل منا عن حياته وحياة الآخرين وبقية الأحياء في هذه الدنيا، بحيث يستحيل معه على الآدمي أن يتصور بقدر من الوضوح والتفصيل أي فكرة أخرى لحياة مغايرة تمامًا مستقبلاً غير مبنية على دنيانا هذه.. إذ يشوب هذه الفكرة بالضرورة قدر هائل من الإبهام والغموض قد يستره في عين عامة الناس، أمارات وأوصاف الوعود والهناءة وترويعات العذاب والعقاب حملا لسواد الناس على استقامة الفكر والنوايا والسلوك وعلى الإقلاع والابتعاد عن الغرور والبغي والفساد والشرور.. فليس في هذه أو تلك أي وضوح كافٍ وافٍ لحياة الناس في الآخرة.. وهذا ليس قصورًا بل هو حكمة بالغة وضرورة ليس منها بد.. لأن حياتنا التي ألفناها طوال العصور والدهور واقع نحياه بحذافيره الآن كما كانت الحياة واقعًا بالنسبة لمن سبقونا، بينما الحياة الآخرة لا يمكن أن تخرج بالنسبة للأحياء الآن عن كونها مستقبلا محضًا لا يصبح واقعًا إلاّ مع البعث وبعد مفارقتهم لواقعهم.. وهذا الواقع المستور الذي ينتظر البعث ويرجوه أو لا يرجوه، لا يكفي لبيان أوضاعه ومعالمه على حقيقتها، مهما كان جمال الوعود والآمال، ومهما يكن أكيدًا إزعاج المصير السيئ ومخاوفه البشعة بالغة ما بلغت.
وربط حياتنا على هذه الأرض بالحياة الآخرة على أساس المكافأة وأساس العقاب مجد في تقويم نفوس ونوايا وسلوك الآدميين في هذه الدنيا.. وجدواه المحسوسة الملموسة إنما تتحقق هنا عاجلة معجلة وتسهم بالحتم في ترقية البشر ونجاح نوعهم أفرادًا وجماعات، لكن هذا الربط لا يكشف عن نمو أو ترقٍ في الآخرة في مواهب البشر وملكاتهم التي أنعم الله تعالى بها عليهم. كما لا يكشف وحده عن إسهام الحياة الأخرى في نمونا وترقينا.. ولعل ذلك بسبب أن دنيا البشر في حاجة دائمة إلى موالاة العناية والالتفات.. إذ هي دار اختبار وامتحان لما نقابله، وأن إعفاءهم من ذلك الامتحان في الآخرة جزء هام من ثوابهم ومكافأتهم.. نعود فنقول إن حياة كل حيّ هنا ـــ هي دائمًا حصيلة تتزايد وتتناقص، من تتابع لا ينقطع لمتواليات ومتغيرات خلال العمر، فهل هذه الحصيلة تستأنف تتابعها في الآخرة؟ هذا سؤال ليس معنا أية إجابة عليه. إذ ليس من السهل القول بأن حياة كل حيّ ستفارق جوهرها المتتابع في الآخرة لكي تثبت على وضع واحد قابل للتحسين طوع المشيئة إلى ما نشتهيه إن كنا في النعيم أو على عكس ذلك إن كان مصيرنا إلى الجحيم.. وربما وراء وجود الجنس البشرى أفرادا وجماعات غاية كونية تسوقه وتقوده في طريقها، وقد يفهمها ويعقلها وعى وعقل الآدمي العادي في يوم ويسعى بلا تردد في تحقيقها مؤيدًا منحازا لها حريصًا عليها بكل ما فيه ومعه، لأنها تصير غاية كل إنسان في كل بقعة وكل وقت يقرأ في رايتها لماذا وُجد ولماذا تجمع ولماذا يجب أن يستمر وجوده وتجمعه دائمًا في هذا الكون العظيم.. وعندئذ لن يبقى أثر ما في عادات ومآرب وسلوك البشر للتناحر على الارتزاق والموارد أو داع لهذا للكفاح الموجود من أجل البقاء في عالم لا يكفي مطالب الحياة المعقولة لجميع الناس نتيجة لانتشار الأنانية الغريزية والعناد والجهل والإذعان في كل مكان وزمان.
ونحن حتى اليوم لا نكف عن اغتيال وتجاهل مصالح بعضنا البعض بسبب تخبطنا الذي لا نهاية له في فهم نواميس الكون وغاياته ونستعيض عنها في أكثر الأحيان بأعرافنا القاصرة وشرائعنا المليئة بالتحيز والظلم والقهر وقلة الجدوى والفائدة!!