الجريمة بين علم النفس والاجتماع

بقلم الدكتور أشرف نجيب الدريني

هل يولد الإنسان مجرمًا بطبعه أم أن المجتمع هو الذي يصنع الجريمة في داخله؟ أهي لحظة ضعف فردية عابرة تدفع شخصًا ما إلى الانحراف، أم أن هناك سياقات اجتماعية واقتصادية ونفسية أعمق تدفعه نحو الهاوية؟ وهل يمكن للإنسان أن يقاوم إغراء الجريمة إذا حاصرته البطالة، وضاق به الأفق، وتراكمت عليه مشاعر التهميش والإقصاء؟ تلك أسئلة لا تطرق باب العقل فحسب، بل تستقر في وجدان كل إنسان يعيش في مجتمع يرى فيه الجريمة وجهًا مألوفًا للحياة اليومية.

علم الاجتماع الجنائي لا يكتفي بوصف الجريمة كفعل معزول، بل يغوص في نسيج المجتمع ليكشف كيف تتشكل دوافعها في أعماق الحياة اليومية. فحين نرى الشاب العاطل وقد أُغلقت في وجهه أبواب العمل، أو الأب المثقل بالديون وقد ضاقت به السبل، ندرك أن الجريمة في كثير من الأحيان ليست قرارًا فرديًا خالصًا، بل هي نتاج منظومة معقدة من الفقر والحرمان والتمييز وغياب العدالة الاجتماعية. الجريمة هنا ليست فعلًا عابرًا، بل انعكاسًا لخللٍ اجتماعي يتسرب إلى الأفراد ويصوغ سلوكهم.

لكن الوجه الآخر لا يقل أهمية: فليس كل من يواجه ضغوط الحياة ينزلق إلى الجريمة. هنا يبرز دور علم النفس الجنائي في كشف العوامل الداخلية التي تجعل شخصًا ينهار بينما يقاوم آخر. فاضطرابات الشخصية، والقلق المزمن، والصدمات النفسية في الطفولة، كلها عوامل تصنع هشاشة داخلية قد تجعل الفرد أكثر عرضة للانحراف. وكما تعرف أن علم النفس الجنائي يضعنا أمام مرآة النفس البشرية في أعقد صورها، بينما يضعنا علم الاجتماع الجنائي أمام مرآة المجتمع في أكثر تجلياته قسوة.

وحين نربط الصورتين ندرك أن الحقيقة لا تكتمل إلا بتكاملهما: فالمجتمع يزرع البذور، والنفس إما أن تثمر بها أو تقاومها. إذا نشأ طفل في بيئة فقيرة مضطربة، بلا تعليم حقيقي، بلا احتواء عاطفي، فإن احتمالية انحرافه أكبر بكثير من طفل آخر نشأ في بيئة تمنحه الرعاية والدعم. وهنا يصبح السؤال الملح: هل يكفي أن نلوم الفرد على اختياره، أم أن علينا أن نسائل المجتمع كله عن البيئة التي دفعته لهذا الاختيار؟

ولا مناص من أن النظر إلى الجريمة من زاوية الاقتصاد والبطالة يكشف أبعادًا أعمق. فالمجتمع الذي يترك شبابه فريسة للبطالة والحرمان، ثم يتساءل عن تفشي الجريمة، يشبه الطبيب الذي يترك المريض دون علاج ثم يلومه على المرض. البطالة ليست مجرد غياب دخل، بل هي غياب معنى وكرامة وفرصة للمشاركة في الحياة. ومن هنا يولد الإحباط، ويتحول تدريجيًا إلى غضب، ثم يجد في الجريمة متنفسًا يائسًا.

ولعل أخطر ما في الأمر أن الجريمة حين تنتشر لا تظل حبيسة الفرد، بل تصبح نمطًا اجتماعيًا يتوارثه الآخرون. الطفل الذي يرى الجريمة مألوفة في حيه، يتشربها كخيار طبيعي، وكأنها جزء من دورة الحياة. ومن هنا تتسع الدائرة، ويتحول الانحراف من فعل شاذ إلى ثقافة فرعية لها قيمها وأعرافها الخاصة.

لكن هل يعني ذلك أن الحل يظل بعيد المنال؟ على العكس، فكما أن علم الاجتماع الجنائي يكشف لنا الأسباب البنيوية، وعلم النفس الجنائي يوضح العوامل الداخلية، فإن الجمع بينهما يفتح لنا طريق العلاج الحقيقي. فإذا عملنا على تحسين الظروف الاقتصادية، وفتحنا أبواب العمل للشباب، وطورنا التعليم ليغرس قيم المشاركة والاحترام، وفي الوقت ذاته وفرنا برامج دعم نفسي وعلاجي للفئات الهشة، نكون قد واجهنا الجريمة في جذورها لا في مظاهرها فقط.

وهنا يتضح أن الجريمة ليست قدَرًا محتوما، بل ظاهرة اجتماعية يمكن التحكم فيها إذا امتلكنا الإرادة والرؤية. والعدالة حينئذٍ لا تكون مجرد عقوبة تُنزل على الجاني، بل مشروعًا لإعادة ترميم المجتمع، ولإعطاء الإنسان فرصة جديدة قبل أن ينكسر تمامًا.

لقد بدأنا رحلتنا بسؤالٍ عالق في الوجدان: هل يولد الإنسان مجرمًا أم أن المجتمع يصنع الجريمة بيديه؟ وإذا كان الطريق قد قادنا بين ضغوط الفقر والبطالة، وبين جراح النفس وصراعاتها الداخلية، فإن ما تكشّف أمامنا في النهاية هو أن الجريمة ليست حادثًا معزولًا، ولا انحرافًا فرديًا بحتًا، بل هي صرخة كاشفة عن خللٍ أعمق يسكن المجتمع كله. إنها مرآة نرى فيها أنفسنا ونحن نترك شبابنا يواجهون البطالة بلا أفق، وأطفالنا يكبرون في غياب التربية الحانية، وأحياءً كاملة تغرق في فوضى الحرمان واللامبالاة.

لكن الوجه الآخر لهذه الحقيقة المؤلمة هو أن الطريق إلى الحل موجود بين أيدينا. فكما أن المجتمع قادر على أن يصنع الجريمة، فهو قادر أيضًا على أن يصنع المناعة ضدها؛ وكما أن النفس البشرية قد تنكسر تحت الضغط، فهي قادرة كذلك على أن تتعافى إذا وجدت من يحتويها. فتكامل علم الاجتماع الجنائي مع علم النفس الجنائي ليس رفاهية، بل هو السبيل إلى فهم الإنسان في شموليته: إنسان تحاصره الظروف من الخارج وتنهشه الجراح من الداخل، لكنه يظل قادرًا على النهوض إذا مُدت له اليد.

وهنا يصبح السؤال الأخير: هل نريد أن نكتفي بمعاقبة المجرم، أم أننا نملك الشجاعة لنرى في جريمته انعكاسًا لمجتمع يحتاج إلى إصلاح؟ إن الإجابة الصادقة ليست في النصوص الجامدة وحدها، بل في قدرتنا على إعادة بناء العدالة الاجتماعية، في صون كرامة الفقير، في توفير العمل للشاب، في حماية الطفل من التشرد، وفي إعادة الاعتبار للإنسان قبل أن نطالبه بالانصياع للقانون.

الجريمة في حقيقتها ليست قدرًا محتومًا، وإنما نداء استغاثة. فإذا أصغينا له بعقل المفكر وبقلب الإنسان، وجدنا أن مواجهة الجريمة ليست معركة ضد فرد، بل هي معركة من أجل إنسانية مجتمع بأسره. ومن هنا فقط يمكن أن نؤمن أن القانون ليس سوطًا يجلد، بل روحًا تُحيي، وأن العدالة ليست نصًا مكتوبًا، بل ضميرًا حيًا يتسع للجميع. والله من وراء القصد.

زر الذهاب إلى الأعلى