تسويق القوانين.. كيف؟
مقال للدكتور أحمد عبد الظاهر – أستاذ القانون الجنائي بجامعة القاهرة- المستشار القانوني بدائرة القضاء – أبو ظبي
مقدمة
مبدأ الشرعية أو المشروعية أو سيادة القانون هو أحد المبادئ الأساسية التي تقوم عليها الدولة الحديثة. وفى تعريفهم له، يقول فقهاء القانون الدستوري إن هذا المبدأ يعنى «خضوع الحاكمين والمحكومين على السواء لحكم القانون». ولتحقيق هذا الهدف، وحتى يتحقق خضوع الحاكمين والمحكومين على السواء لحكم القانون، ينبغي أن يدرك الجميع أهمية القوانين في تنظيم وضبط حركة الحياة في المجتمع، وأن يقف الجميع على المنطق والفلسفة التي تقف وراء كل قانون أو تشريع يصدر في الدولة، الأمر الذي يمكن أن نطلق عليه تسويق القوانين أو نشر العلم بها والإدراك الواسع بأهميتها.
ومنظوراً للأمور على هذا النحو، وإدراكاً لأهمية تسويق القوانين، فإن التساؤل يثور عن الآليات والوسائل التي يمكن من خلالها تحقيق هذا الهدف. وفي اعتقادنا أن ذلك يمكن أن يتم من خلال العديد من الآليات والوسائل، يمكن إجمالها في ستة، وبحيث نخصص لكل آلية أو وسيلة منها مطلباً منفصلاً، وذلك كما يلي:
المطلب الأول: تبسيط القوانين وتقريبها من فهم المواطن.
المطلب الثاني: اختيار التوقيت والظروف المناسبة لإصدار القانون.
المطلب الثالث: اختيار مسمى غير تقليدي ذو دلالات تسويقية.
المطلب الرابع: البث التليفزيوني لجلسات البرلمان.
المطلب الخامس: تعزيز الديمقراطية التشاركية الالكترونية.
المطلب السادس: توقيع وإصدار القوانين المهمة على الهواء مباشرة.
المطلب الأول
تبسيط القوانين وتقريبها من فهم المواطن
في العديد من المناسبات الوطنية، قام الرئيس عبد الفتاح السيسي بتوجيه الوزراء والمسئولين إلى ضرورة تبسيط كلامهم وحديثهم عن المشروعات القومية والمبادرات الحكومية، وذلك حتى يكون المواطن البسيط قادراً على فهمها والتفاعل معها والإيمان بجدواها وفائدتها والمردود الاقتصادي والاجتماعي لها.
وفيما يتعلق بمشروع قانون الأحوال الشخصية على وجه الخصوص، وفي يوم السبت الموافق الرابع والعشرين من شهر ديسمبر 2022م، اجتمع السيد الرئيس عبد الفتاح السيسي مع كل من رئيس مجلس الوزراء، ووزير العدل، ورئيس مجلس إدارة الهيئة القومية للتأمين الاجتماعي، ورئيس لجنة إعداد مشروع قانون الأحوال الشخصية، وتناول الاجتماع عرض أعمال لجنة إعداد مشروع القانون الجديد للأحوال الشخصية، حيث اطلع السيد الرئيس في هذا الإطار على أبرز ملامح مشروع القانون الجديد، موجهاً سيادته بأن تكون صياغة القانون الجديد مبسطة ومفصلة على نحو يسهل على جميع فئات الشعب فهمه واستيعاب نصوصه، خاصةً من غير المشتغلين بالمسائل القانونية.
وفي هذا الإطار كذلك، يؤكد البعض على وجوب «أن تكون هناك آلية واضحة لتطبيق أي تشريع وأي قانون والحقيقة أننا نعاني في مصر من الغابات التشريعية والقانونية فالقانون يصدر ثم تصدر لائحته التنفيذية ثم يأتي رئيس الوزراء أو الوزير ويصدر قرارات وزارية ربما لا تتماشى مع القانون ولذلك يقف المواطن عاجزاً عن الفهم والإدراك، والطامة الكبرى هي عندما يتعلق الأمر بالاستثمار نجد أن المستثمر وخاصة المستثمر الأجنبي تائه ولا يعرف أين المدخل وأين المخرج لذلك يجب أن يرتبط بتسويق القانون تبسيطه ووضع آلية تنفيذه وتطبيقه بدون تداخل ولا تشابك».
وتجدر الإشارة في هذا الشأن إلى ثمة اتجاه عالمي متزايد نحو تبسيط القوانين وتبسيط إجراءات التقاضي. بل إن عنوان العديد من القوانين الصادرة في العديد من دول العالم يشير صراحة إلى هذا الهدف، أي تبسيط القانون أو تبسيط الإجراءات. وللتدليل على ذلك، وعلى سبيل المثال، يمكن أن نشير إلى العديد من المبادرات التشريعية والتشريعات التي تمت مؤخراً في دولة استراليا.
Proposed simplification of financial services law.
Simplifying Australia’s Competition Laws, Competition & Consumer Law News
OCTOBER 2014.
Andrew Christie, Simplifying Australian Copyright Law – The Why and the How.
وفي المملكة المتحدة، ثمة مبادرة لتبسيط القانون الجنائي.
Simplification of the Criminal Law, published in (https://www.lawcom.gov.uk/project/simplification-of-the-criminal-law).
وفي دولة بيرو، صدر المرسوم التشريعي رقم 1391 بشأن تبسيط الإجراءات المشار إليها في القوانين المنظمة للمعهد الوطني للدفاع عن المنافسة والملكية الفكرية وسلطاته ولوائحه ووظائفه.
وعلى المستوى العربي، وفي سلطنة عمان، صدر المرسوم السلطاني رقم 125/ 2020 بإصدار قانون تبسيط إجراءات التقاضي في شأن بعض المنازعات. وفي المملكة المغربية، صدر القانون رقم 19. 55 المتعلق بتبسيط المساطر والإجراءات الإدارية.
والواقع أن تبسيط القوانين يشكل أحد المفترضات الضرورية لمبدأ سيادة القانون.
Rule of Law principles: The law should be accessible, and so far as possible intelligible and predictable.
المطلب الثاني
اختيار التوقيت والظروف المناسبة لإصدار القانون
في تعليق ورد إلى عبر تطبيق الواتس آب من الصديق العزيز اللواء الدكتور شوقي صلاح، أستاذ القانون المدني بأكاديمية الشرطة، يقول فيه: «طالعت مقالكم الكريم وقد أشار للقانون المشار إليه من كافة زوايا التحليل القانوني والاجتماعي بمنتهى الاحترافية، ولعل سبب توجيه النقد لهذا القانون إنما ينطلق من أن التوقيت غير مناسب لفرض أية أعباء مالية من أي نوع.. حتى وإن كانت مبررة ولها أهدافها النبيلة.. ويجب أن ينتبه المشرع إلى صعوبة الأوضاع الاقتصادية غير المسبوقة، وقد اطلعت على مشروع تلك الأعباء وللأسف فهي تحدد مبالغ مرهقة للمواطن المصري.. لذا فعلى وزير العدل، ونحن نثق في حكمته، الانتباه إلى مراجعة قيم تلك الأعباء… خالص مودتي واحترامي لجهودكم في سبيل نشر الوعي بقضايا المجتمع المصري».
وفي الإطار ذاته أيضاً، وفي تعليق منشور على صفحتي الشخصية فيسبوك، يقول الأستاذ عصام منير عبد الظاهر: «التسويق للقانون يتطلب اختيار وقتا مناسبا لإصداره وفقاً لحاجة المجتمع والأولويات الغالبة على حركته ويتطلب ذلك أيضاً إعلاماً حراً يعرض كل جوانب القانون ووجهات النظر المعارضة والمؤيدة وكذلك التعديلات المطلوبة إذا وجدت.. هو مناخ عام فيه مساحة من القبول والحوار على أرضية مشتركة هي صالح المجتمع.. وهذا لا يتحقق إلا بوجود برلمان يحظى بالتنوع والمصداقية».
وفي اعتقادنا أن اختيار التوقيت المناسب لإصدار القانون أمر في غير الأهمية من حيث التسويق. بيان ذلك أن أيام الإجازة الصيفية وفترات الذهاب إلى الشواطئ للاستجمام قد لا تكون وقتاً مناسباً لإصدار بعض القوانين الهامة، حيث يندر أن تحظى بالاهتمام الكافي إذا تزامن صدورها مع هذه الفترة. وفي المقابل، قد يكون من المناسب أن يتزامن إصدار تشريعات أو قوانين معينة مع بعض المناسبات الوطنية والدولية. فعلى سبيل المثال، كنا نتمنى أن تصدر الحكومة المصرية بعض التشريعات ذات الصلة بمكافحة التغير المناخي في العام 2022م، تزامناً مع استضافة مؤتمر الأمم المتحدة لمكافحة التغير المناخي (COP 27). ومن ناحية ثالثة، تجدر الإشارة إلى أنه في يوم الأحد الموافق الخامس عشر من يناير 2023م، وقبل أيام قليلة من احتفال الشرطة بعيدها السنوي الحادي والسبعين، أقر البرلمان المصري تعديلات على قانون هيئة الشرطة، شملت توقيع الجزاءات والإحالة لمجالس التأديب للأفراد والضباط، وإضافة نصوص مواد مستحدثة بشأن ضوابط سلطة المجلس الأعلى للشرطة في إعادة التعيين أو الاستقالة أو إنهاء الخدمة أو النقل خارج هيئة الشرطة أو البقاء في الخدمة إلى سن الستين فيمن يُعين في وظيفة مساعد أو مساعد أول وزير الداخلية.
وتضمن القانون ثلاث مواد، بخلاف مادة النشر، بهدف ضبط صياغة بعض النصوص التي أثرت لبسًا في تفسيرها وتطبيقها، ولتحقيق الاستقرار الوظيفي وترسيخ قواعد الانضباط، إضافة إلى تعديل بعض معايير وقواعد توقيع الجزاءات والإحالة لمجالس التأديب لأعضاء هيئة الشرط من الأفراد والضباط. وأبرز التعديلات التي تضمنها القانون، هي منح سلطة إحالة فرد هيئة الشرطة إلى مجلس التأديب لتكون لمدير الإدارة العامة للانضباط والشؤون التأديبية بوزارة الداخلية بدلًا من مديري الأمن والإدارات العامة؛ لتوحيد سلطة الإحالة وتحقيق العدالة والمساواة من خلال خضوع جميع الأفراد والضباط لمعيار واحد مما يفرض قواعد الانضباط. كما تضمنت التعديلات إلغاء التزام المجلس الأعلى للشرطة بإصدار قرارات مسببة، وهو ما يتوافق مع قرار مجلس الدولة، الذي أكد أن الجهة الإدارية غير ملزمة بإعلان أسباب قراراتها، وكذلك للحفاظ على الاعتبارات الأمنية التي تقتضي الحفاظ على الأسباب، وكذلك تم إضافة حالة إلى حالات إنهاء الخدمة تتضمن إبداء الرغبة لإنهاء الخدمة للضباط من رتب العقيد والعميد واللواء الخاضعين لحكم قانون هيئة الشرطة بما يتوافق مع قانون الخدمة المدنية.
وبذلك، يكون البرلمان قد أقر مبدئياً أول تعديل على قانون هيئة الشرطة المصرية منذ إصداره عام 1972م، وذلك بهدف تحقيق الاتساق بينه وبين القوانين التي صدرت مؤخراً، وأهمها قانون الخدمة المدنية عام 2016م، وقانون شروط شغل الوظائف عام 2021م، وتحقيقاً للاستقرار الوظيفي وترسيخ الانضباط داخل جهاز الشرطة.
وهنا، يثور التساؤل عما إذا كان التوقيت مقصوداً لمناقشة هذا القانون في مجلس النواب وإقراره بواسطة الأعضاء قبل أيام قليلة من الاحتفال السنوي بعيد الشرطة. كذلك، وإذا كان التوقيت مقصوداً، فإن التساؤل يثور عن الأسباب والمبررات التي استدعت مناقشة القانون وإقراره في هذا التوقيت. وإذا كان التوقيت مقصوداً، فقد كان من المناسب أن يتم توقيع القانون وإصداره تزامناً مع الاحتفال بالعيد السنوي للشرطة. وإذا لم يكن التوقيت مقصوداً، فإن التساؤل يثور عما إذا كان من الأنسب تأجيل مناقشة هذا القانون لمدة شهر واحد أو شهرين، تفادياً لتزامن مناقشة القانون مع فترة الاحتفال.
ولعل الحديث عن اختيار التوقيت المناسب لإصدار القانون يقودنا لإلقاء الضوء على المدة التي ينبغي أن يصدر القانون خلالها بعد إقراره من البرلمان. وفي هذا الشأن، يرى البعض أنه «إذا كان الدستور لم يتضمن تحديداً لمدة معينة يتعين أن تصدر فيها القوانين بعد إقرارها بصفة نهائية، فإن الواجب على رئيس الجمهورية ألا يمتنع عن إصدارها، وأن يقوم بذلك في مدة معقولة حتى لا يتأخر تنفيذها. ويذهب البعض إلى أن العلاج الوحيد في حالة تأخير الإصدار لفترة طويلة هو إثارة المسئولية الوزارية أمام مجلس النواب، وأن هذه وسيلة فعالة، إذ يمكن مؤاخذة الوزارة وإسقاطها إذا كان هذا الامتناع بناء على نصيحتها. أما إذا كان الامتناع راجعاً إلى رئيس الجمهورية نفسه فسيؤدي ذلك إلى إمكان نشوء أزمة بينه وبين البرلمان، ونرى أنه يمكن إثارة المسئولية السياسية لرئيس الجمهورية في هذه الحالة وفقاً للمادة 161 من دستور 2014» (راجع: د. ميادة عبد القادر أحمد إسماعيل، الطبيعة القانونية لمواد إصدار القانون، مجلة البحوث، العدد 37، أبريل 2022م، ص 838؛ د. السيد صبري، مبادئ القانون الدستوري، الجزء الثاني، القاهرة، ص 393). وعلى كل حال، وأياً كان وجه الرأي في هذا الشأن، نعتقد أن التأخير المبرر له غبار عليه، لاسيما وأن الدستور لم يستلزم مدة معينة يتعين أن يصدر خلالها القانون بعد إقراره بصفة نهائية من البرلمان. ومن ثم، فإن تأخير الإصدار لعدة أيام أو لعدة أسابيع حتى يتزامن مع مناسبة معينة قد يكون أمراً محموداً، ويحقق هدف تسويق القوانين، لاسيما إذا لم تكن ثمة ضرورة داعية للتعجيل بإصدار القانون.
المطلب الثالث
اختيار مسمى غير تقليدي ذو دلالات تسويقية
كذلك، واتصالاً بآليات تسويق القوانين، وفيما يتعلق بمسمى القانون الذي نحن بصدده، تجدر الإشارة إلى أن لجنة إعداد مشروع قانون الأحوال الشخصية قد رأت من المناسب الإبقاء على مسمى قانون الأحوال الشخصية، وذلك على الرغم من أن المجلس القومي للمرأة كان قد عبر عن استحسانه مسمى قانون الأسرة.
وفي اعتقادنا أن استخدام مسمى «قانون الأسرة السعيدة» كمسمى للقانون قد يكون أمراً محموداً، ويتسق مع الاتجاه الحديث في التشريع، والذي يميل إلى استخدام مسميات غير تقليدية. وتجدر الإشارة في هذا الصدد إلى أن الأستاذ أشرف الزهوي المحامي هو أول من استخدم تعبير «قانون الأسرة السعيدة»، وكان ذلك في مقال منشور على الموقع الالكتروني لنقابة المحامين المصرية، حاملاً عنوان «قانون الأسرة السعيدة»، ويعود تاريخه إلى الثالث والعشرين من يونيو 2022م.
المطلب الرابع
البث التليفزيوني لجلسات البرلمان
خلال عقود عدة، كان يتم بث جلسات مجلس الشعب على الهواء مباشرة أو تسجيل بعض الجلسات وإذاعتها، بما يسهم في إثراء الثقافة القانونية لعموم المواطنين. ولكن، وإزاء ضعف المستوى اللغوي لبعض أعضاء مجلس النواب السابق، صدر قرار من رئيس مجلس النواب بعدم إذاعة الجلسات. ونعتقد من الملائم عودة البث التليفزيوني لجلسات مجلسي النواب والشيوخ، ولاسيما فيما يتعلق بالقوانين المهمة، كما هو الشأن في مشروع قانون الأحوال الشخصية.
وجدير بالذكر في هذا الصدد أن ثمة موقع الكتروني للجمعية الوطنية الفرنسية ومجلس النواب المغربي وغيرها من المجالس التشريعية، يتم من خلالها بث جلسات الهيئات التشريعية، وبحيث يتاح لعموم المواطنين الاطلاع على المناقشات البرلمانية وآراء النواب بشأن كل ما يثار في الجلسات. ولا شك أن ذلك من شأنه إثراء الثقافة القانونية، ويسهم بالتالي في تفهم مبررات وفلسفة القانون، بما يقود في نهاية المطاف إلى الاقتناع بضرورته وأهميته، ويسهم بالتالي في القبول الطوعي به.
المطلب الخامس
تعزيز الديمقراطية التشاركية الالكترونية
غني عن البيان أن مصطلح «الديمقراطية» يجد جذوره ونشأته الأولى في الحضارة اليونانية، حيث كان المقصود به حكم الشعب بالشعب لصالح الشعب. والديمقراطية بصفة عامة هي شكل من أشكال الحكم، يخول للمواطن ممارسة الحكم بنفسه، إما بطريقة مباشرة وهو ما يعرف بالديمقراطية المباشرة، أو عن طريق اختيار ممثلين عنه وهو ما أصطلح عليه بالديمقراطية النيابية. أما مفهوم الديمقراطية التشاركية، فلم يظهر سوى مؤخراً مع انتشار وذيوع استخدام شبكة المعلوماتية العالمية، ويقصد بها تقوية دور المواطن من خلال إشراكه في عملية صنع السياسة العامة واتخاذ القرارات المتعلقة بالشأن العام خاصة على الصعيد المحلي، عن طريق إيجاد آليات وإجراءات تكفل ذلك، سواء تعلق الأمر بالمبادرة الشعبية أو الاستفتاء الشعبي أو حتى استعمال الوسائل التكنولوجية الحديثة (الإنترنت).
وفي كتابه المنشور سنة 1984م، تحت عنوان «الديمقراطية القوية»، يرى عالم السياسة الأمريكي «بنجامين باربر» أن الديمقراطية التشاركية هي ديمقراطية المستقبل أو ديمقراطية العصر الجديد. إذ يعتقد باربر أن الديمقراطية التمثيلية التي توافق حولها العالم وتم اعتمادها كإطار للعملية السياسية، صدقاً أو كذباً، بعد الحرب العالمية الثانية، سوف تتراجع لصالح ما أطلق عليه الديمقراطية التشاركية. ذلك لأن هناك حراكاً قاعدياً متنامياً لم يعد قانعاً بما يعرف بالديمقراطية التمثيلية أو النيابية، حيث ينوب البعض عن الأغلبية لتمثيلهم سياسياً واجتماعياً في الهيئات البرلمانية. وأصبح المواطن يميل إلى أن يمثل نفسه دون وسطاء، كلما رغب في ذلك. أي أن يكون المواطن، أياً ما كان، محوراً للعملية الديمقراطية ومركزها وهدفها. وقد حدث هذا التحول المهم عندما ثبت أن الديمقراطية التمثيلية قد حولت الناخبين إلى أداة لانتخاب شبكات الامتيازات المغلقة، الذين ما أن يصلوا إلى مقاعدهم في الهيئات التمثيلية المختلفة، يتفرغون لخدمة المصالح الضيقة لهذه الشبكات، وينسون مصدر شرعيتهم التمثيلية، أي المواطنون.
ومنظوراً للأمور على هذا النحو، وفيما يتعلق بمشروعات القوانين، تعمد وزارات العدل والهيئات التشريعية في العديد من دول العالم إلى وضع مشروعات القوانين على موقعها الالكتروني، طالبة من عموم المواطنين إبداء الرأي والملاحظات بصدد مواد وأحكام القانون، وبحيث يتم جمع هذه الآراء والملاحظات ودراستها، وحبذا لو قامت الوزارة أو الهيئة التشريعية المنتخبة ببيان ما تم بشأنها وما تم قبوله وما تم رفضه مع بيان سبب ومبررات الرفض. كذلك، تتيح البرامج الالكترونية الحديثة للجمهور الحضور عن بعد في مناقشات لجان مجلس النواب أو مجلس الشيوخ أو حضور بعض الجلسات العامة، وقد يكون من المناسب إتاحة الفرصة لهم للتفاعل وإبداء الرأي.
وتجدر الإشارة في هذا الشأن أن وزارة العدل في المملكة العربية السعودية طرحت في شهر يناير 2023م 43 مشروع قانون على منصة «استطلاع» الالكترونية، لاستطلاع رأي الناس، سواء المتخصصين أو عموم المواطنين. وقد تم إنشاء هذه المنصة إنفاذاً لقرار مجلس الوزراء رقم (476) وتاريخ 15/ 7/ 1441ه القاضي بأن يقوم المركز الوطني للتنافسية بإنشاء (وحدة دعم الأنظمة واللوائح وما في حكمها) ليكون من اختصاصها إنشاء المنصة الإلكترونية الموحدة لاستطلاع آراء العموم والجهات الحكومية والإشراف عليها. وبناء على ذلك، تم فعلاً إنشاء المنصة المشار إليها تحت مسمى «منصة استطلاع»، وتم إنشاء موقع الكتروني لها على شبكة المعلوماتية العالمية. ووفقاً لما هو مدون على الصفحة الرئيسية لها، «تتيح منصة استطلاع للعموم والقطاع الخاص والجهات الحكومية إبداء مرئياتهم حيال مشروعات الأنظمة واللوائح وما في حكمها ذات الصلة بالشؤون الاقتصادية والتنموية». وفيما يتعلق بقانون الأحوال الشخصية، على وجه الخصوص، عرضت وزارة العدل عبر المنصة «مشروع لائحة التقارير الطبية الواردة في نظام الأحوال الشخصية»، والذي يحقق صدوره عدداً من الأهداف، ومنها: رفع كفاءة قضاء الأحوال الشخصية من خلال تضمين اللائحة أحكاماً تندرج في إطارها وتساعد في تسريع الفصل في المنازعات المتعلقة بها، وتحقيق العدالة الناجزة وسرعة إيصال الحق إلى أصحابه. وعند طرح مشروع القانون أو اللائحة، يتم تحديد ميعاد معين لانتهاء الاستطلاع على المشروع، وبحيث يتعين إرسال الرأي أو الملاحظة قبل التاريخ أو الموعد المحدد.
المطلب السادس
توقيع وإصدار القوانين المهمة على الهواء مباشرة
جرى العمل في الولايات المتحدة الأمريكية على أن يقوم الرئيس الأمريكي بتوقيع القوانين والمراسيم التنفيذية المهمة على الهواء مباشرة. وفي بعض الأحوال، قد يكون الرئيس محاطاً لحظة التوقيع بالشخصية التي تمثل الحالة الواقعية التي استدعت التفكير في إعداد مشروع القانون. ويحدث في الغالب أن يقوم الرئيس بالتحدث بشكل مختصر عن القانون أو المرسوم والظروف التي استدعت استصداره ووجه الأهمية التي يمثلها في تنفيذ السياسة العامة للدولة. فعلى سبيل المثال، وفي السادس عشر من أغسطس 2022م، قام الرئيس الأمريكي الحالي، جو بايدن، بالتوقيع على الهواء مباشرة وأمام كاميرات التليفزيون على قانون خفض التضخم الذي يؤثر على الصحة والمناخ والسياسات الاقتصادية.
وفي الجمهورية الفرنسية، ومع وصول «إيمانويل ماكرون» إلى سدة الحكم في قصر الإليزية، بدأ الرئيس الفرنسي في اقتباس التقليد الأمريكي بهذا الشأن، وبحيث قام بتوقيع بعض القوانين على الهواء مباشرة. فعلى سبيل المثال، وفي يوم الجمعة الموافق الثاني والعشرين من شهر سبتمبر 2017م، قام الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بالتوقيع على الهواء مباشرة وأمام كاميرات التليفزيون على بعض المراسيم التي تتضمن تعديلاً لقانون العمل. وفي كلمة قصيرة بمناسبة التوقيع على هذه المراسيم، امتدح الرئيس الفرنسي هذه التعديلات، واصفاً إياها بأنها ذات أهمية بالغة غير مسبوقة في ظل الجمهورية الخامسة.