الاختيارات الشخصية وأثر المحيط !

بقلم/ الأستاذ رجائي عطية نقيب المحامين

نشر بجريدة أخبار اليوم السبت 30/10/2021

لا يمارس الآدمى اختياراته الشخصية إلاّ من خلال ما عرفه من اختيارات الناس .. سواء المعاصرين له أو الذين سبقوا وسلفوا فى أزمنة ماضية لا سبيل إلى تقصيها أو تقصيهم .

فعقلى أو عقلك منذ بداية البداية لا يعمل إلاّ فى محيط بشرى .. أو بعبارة أكثر دقة فى محيط من اختيارات لعقول بشرية معاصرة أو ماضية .. بعضها قد يكون معروفًا له أو قابلاً للمعرفة ، وغالبها مجهول تمامًا لا يمكن التعرف عليه بأية وسيلة .. فلزوم هذا المحيط البشرى وملازمته لحياة كل آدمى من ساعة مولده إلى لحظة وفاته ، هو كلزوم وملازمة المحيط الطبيعى الذى يولد أو يعيش أو يموت فيه لا يفارقه إلاّ بمفارقة الحياة نفسها .

ويبدو أن هذا ملحوظ فى تركيب وسعة وكفايات المخ البشرى ، وملحوظ فى تشابه العقول الذى يسمح للزنجى أن يفهم مراد الصينى والأوروبى والتعلم منه ، وأن يقرأ الهندى ويتذوق شعر الأمريكى وأدب اليابانى وفولكلور الإسكيمو ، ويتيح لكافة أهل الأرض سماع الإذاعات بمختلف اللغات واللهجات وفهمها .. وهذا ملحوظ أيضًا فى زيادة استجابة عالم الطبيعة لحسابات الآدميين الرياضية وقواعدهم الفزيائية والكيماوية والفلكية وقياساتهم حسب اصطلاحاتهم ورموزهم .. وهو ما يعطى لمخ الآدمى وعقله ـ بقدر ما ـ طابعًا كونيًّا يتجاوز موضع الإنسان على هذه الأرض وانتسابه إلى أشقائه فى عالم الحيوان .

وفردية اختيار الآدمى دائمًا فردية اقتطاف من حقل أو حقول أعم داخله وخارجه ، وقد تجرى مع الاقتطاف إضافات تضيفها اجتهـادات واستعدادات ومواهب خاصـة فى الفرد .

وإذن فكل إنتاج لفرد أيًّا كان وكانت موهبته هو ، أو عبقريته هـو ، أو نعمة الله عليه هو ـ معظمه من ذلك الاقتطاف أى من ذلك الحقل الأعم الماضى والمعاصر .

فالبشرية لها قادة بلا شك .. نعرف بعضهم ونجهل معظمهم ، لكن ليس لها صناع أو صانعون معينون صنعوا أو يصنعون اختياراتها .. فهذه غير قابلة لتحديد المصدر . وهو أمر يشهد به بشدة ـ اختلاف التاريخ والنظم والعقائد والحضارات .

هذا وقد لفتت قوة تأثير ذلك المحيط البشرى فى تقدم المعرفة ـ لفتت أنظار الآدميين من قديم ، ودعتهم إلى إنشاء المدارس والمعاهد والمكتبات والمراصد ، ثم دعتهم فى العصر الحديث إلى استخدامها بطريقة منظمة دائمة فى حل المشاكل المعينة التى تبدو أكبر أو أعجل من أن تترك للاختيارات الفردية .. فجمعت الكفايات لتعمل معًا بالتعاون ـ فى معامل أبحاث أو مؤسسات مستقلة أو تابعة لجامعات أو لشركات ، وزودت بالأموال الضخمة التى تلزمها, وإلى ذلك يرجع ما نرى الآن صداه فى حياة الناس !

وقد نتساءل كيف إذن يظهر النوابغ من أصحاب الرسالات أو القديسين أو الأئمة أو الشهداء ، أو من العلماء والمفكرين والفنانين وكل من يخرج من بحر العاديين ليشكل قيمة متميزة متفردة تبرز بنبوغها وتفردها!

ظنى أنه لابد لذلك مما أسميه « فائض إحساس » غير عادى بالصدق والاستقامة لكل صاحب رسالة روحية .. نبيًّا كان أو وليًّا أو قديسًا أو إمامًا أو شهيدًا .

ولابد من « فائض إحساس » غير عادى بالحقيقة لمن كان عالماً بعلم أو أكثر من العلوم الطبيعية أو الكيمائية أو الطبية أو الهندسية أو الاجتماعية .

ولابد من « فائض إحساس » غير عادى بالجمال للفنان رسامًا كان أو نحاتًا أو مصورًا أو بَنَّاءً أو ملحنًا أو ممثلاً أو مخرجًا .. شاعرًا كان أو ناثرًا أو قصاصًا .. موسيقيًّا مؤلفًا كان أو عازفًا .. إيقاعيًّا كان أو راقصًا أو تعبيريًّا بأىّ نحو من الأنحاء ..

هذا « الفائض » غير العادى فى الإحساس ، هو القاسم المشترك بين الإمام والعالم والفنان والأديب والشاعر .

هذا وإذا توارت المواهب أو أزيحت ، جفت حياة الناس وتزايدت مشاقهم فى مجتمع يستغرقهم بعاديات الأمور ويشغلهم بطعامهم وسكنهم وصحتهم وعملهـم وأمنهـم ..مهددين فى ذلك بمغامرات ومجازفات المستغلين حملة المراتب أو « المواهب الرسمية » الزائفة !.. الذين بيدهم مرافق الدولة يديرونهـا بمـا شــاءوا بلا فائـض إحساس بل بلا إحسـاس وبلا شعور بالمسئولية وبلا محاسبة .. لا يردهم عما اعتادوا إلاّ الخوف إن كان له سبيل !!

زر الذهاب إلى الأعلى