عبد العزيز فهمي (15)
عبد العزيز فهمي (15)
نشر بجريدة الأهرام الاثنين 19 / 7 / 2021
بقلم: الأستاذ/ رجائي عطية نقيب المحامين
لا يتركنا عبد العزيز باشا فهمي، قبل أن يوفي الموضوع من كل جوانبه، مؤكدًا أنه لا إشكال في النصوص، فالآية الأولى ـ كما سلف ـ لم تأت قط للتصريح بتعدد الزوجات، وإنما للتقريع على نكاح اليتامى طمعًا في أموالهن، بينما لدى الطامعين متسعُ فيمن يطبن لهم من الأخريات مثنى وثلاث ورباع، ونبهت الآية حتى لا يُساء الفهم، إلى لزوم الاقتصار على واحدة ضمانًا للعدل الذي يستحيل تحقيقه حتى مع الحرص عليه، وأنه حين جأر المسلمون بالشكوى مخافة عدم العدل بين زوجاتهم المتعددات على عادة العرب، وذهبوا إلى النبي عليه الصلاة والسلام بقلوب واجفة يسألون عما يتوجب عليهم، هل يفارقون ما زاد على الواحدة، أم أن لهم مخرجًا من لطف الله وكرمه، وفي الدين الإسلامي بيسره وسهولته. فاتجهوا ونبيهم إلى الله واجفين من هذه المحنة التي طرأت عليهم، فلطف الله تعالى بهم، وبيّن مراده بأن أنزل قوله: « فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ ».
بيد أن ذلك لم يكن تنظيمًا للمستقبل الأبدي، بل مواجهة للحالة الوقتية الناشئة عن تلك المحنة التي وجد النبي والمسلمون أنها حائقة بهم. وكان العلاج الوقتي لا الأبدي في مراعاة العدل بين الزوجات المذكورات بقدر الاتساع، وأنه لا محل من ثم لمفارقتهن عدا واحدة.
ويضيف الأستاذ عبد العزيز فهمي أن هذا الفهم المستفاد من اضطراب المسلمين وشكواهم إلى الله وتخفيفه سبحانه على الوجه المذكور ـ الذي هو مجرد تخصيص أو بيان لحكم « فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً » من جهة زمان تطبيقه، هو فهم تؤيده نصوص القرآن ذاته، ذلك أن الآية التي ورد فيها قوله تعالى: « فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ » إنما نزلت ضمن ما نزل بعد قوله تعالى في الآية (127) التي ورد فيها قوله عز وجل: « وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَىٰ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَن تَنكِحُوهُنَّ… ».
ففي هذه الآية ما يؤيد أن المسلمين العرب ضجوا بالشكوى من المحنة التي وجدوا أنها نزلت بهم، فاستفتوا النبي. وأنت ترى أيضًا أن هذه المحنة المشكو منها والمستفتي فيها ـ أشار القرآن إليها وإلى موضوعها إشارة واضحة، وذلك بتصريحه بأن الاستفتاء هو في النساء، ثم تصريحه بأن فتواه هي ما سبق تلاوته عليهم في القرآن في يتامى النساء اللاتي كان العرب يأكلون أموالهن ويريدون أن يتزوجوهن لهذا الغرض، أي تذرعًا لأكل أموالهن. والذي سبق للقرآن تلاوته عليهم في هذا الصدد إنما هو قوله تعالى في الآية الثالثة من السورة: « وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً.. »
ولا شك في أن إشارة القرآن في الآية (127) إلى الآية (2) المذكورة إنما هو توكيد منه لهذه الآية ولفت نظر إلى وجوب العمل بها.
على أن القرآن لم يكتف بهذا التوكيد المفهوم بطريق الإشارة والإيماء، بل إنه ـ كيلا يتأول العرب أي تأويل في معنى خوف عدم العدل المفهوم من قوله تعالى: « فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً » ـ قد سارع من قبل قوله: « فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ » إلى قوله سبحانه: « وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ »، فكأن هذا زيادة تثبيت منه ـ كما هو واضح ـ لمقتضى قوله تعالى: « فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً »، فكان ذلك بيانًا منه واضحًا لوجوب العمل بقوله هذا ـ في المستقبل، وتأكده تأكدًا محتومًا.
فعبارة « فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ » المراد الاحتجاج بها ليست إذن ــ يعلم الله ــ سوى حكم وقتي ينقضي بانقضاء الموجود من الزوجات عند نزولها مهما يكن عددهن. ومن المستبعد عقلا أن تكون كزعمهم تنظيمًا أبديًّا للسير عند تعدد الزوجات إلى أربع، أو إلى ثماني عشرة كنظريات المتطرفين، إلاًّ إذا قيل إن الله تعالى قد ألغى قوله: « فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً »، أو أنه عز وجل بعد أن أوجب على الناس تشغيل عقولهم، عاد ــ وحاشاه سبحانه ــ فأجاز لهم تأويل كلامه !!!
ومتى فهمنا عبارة « فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ » على هذا الوجه المعقول الموافق لأصول التشريع أبعدنا عن نصوص القرآن شبهة التعارض والإشكال والنسخ، وعن الدين شبهة ظلم النساء المتزوجات فعلاً إذ ذاك بلا موجب إجتماعي أو ديني، وعن مسلمي ذلك الوقت مضض العنت الناجم عن إلزامهم بترك وتسريح بعض الزوجات بلا ذنب !!
وبلغ من حرص الأستاذ العلامة الضليع، على أمانة البحث والرأي، أن كرر القول بأن القرآن الكريم لم يحرّم تعدد الزوجات بنص صريح قاطع خاص، وأن ما كان قد ذكره في حديثه الأول عن تحريم التعدد، إنما كان من باب الاستنتاج من الآيتين (3) و(129) من سورة النساء، واحتياطًا بوصفه مسلمًا يجب أن يعنى بإبداء ما يغلب على ظنه أنه هو مقصود آيات الكتاب وشريعته. وللحديث بقية.