سقوط اللغة القانونية وانحدارها

بقلم الدكتور/ محمد عبد الكريم أحمد الحسيني – المحامي، وأستاذ القانون المساعد بكلية الشريعة والقانون – الجامعة الإسلامية بمينسوتا

بعد عهد مجيد لازدهار اللغة العربية عموما واللغة القانونية خصوصا في نظامها القانوني وفي جهارها القضائي، كُسِفَت شمسُها ، وانصرف القانونيون عن دروبها؛ حتى سقطتْ ومحلتْ وعمَّ التقليدُ، وشاع اللحنُ ، وقلَّما تجدُ ناطقا فصيحا أو ناظما صحيحا، وليس هناك أسوأ لواقعها ، ولا أدنى لموتها من اليوم… فهل من مُغيثٍ لها ..وهل من مستمع لأنينها؟؟!!!

المرحلة الثالثة: سقوط اللغة القانونية وبينوتها عن النظامين القانوني والقضائي .

يمكن لنا تسمية هذه المرحلة باسم مرحلة القطيعة البنائية لنصوص القانون الوضعي عن القواعد الأصولية اللغوية وسقوط لغة القانون، وبعدها بدأت حقبة الانهيار اللغوي بنائيا ابتداء ودلاليا لاحقا في النظامين القانوني والقضائي الوضعي بفعل عوامل سنأتي على ذكرها ، ويمكن وضع تاريخ تقريبي لهذه الحقبة بوفاة كبار القضاة والأصوليين العظام من مثل الشيخ محمد أبو زهرة ( 1316هـ – 1898مـ – توفي 1394هـ / 1974) ، والشيخ علي حسب الله …. ( 1313هـ – 1895م، – 1398هـ – 1978م) على سبيل التقريب 1980م …وما تلا ذلك من تغييرات كثيرة فيما عرف بفترة الانفتاح ، ويمكن لنا على سبيل التقريب تعداد أسباب هذا السقوط وذلك الانهيار مع بعض مظاهره في الآتي :

أولا: وفاة أساطين اللغة والقانون من العلماء القانونيين اللغويين والشرعيين العظام مثل العلامة السنهوري ( 1895 – 1971م) [عبد الرزاق السنهوري ، أحد أعلام الفقه والقانون في الوطن العربي ولد في 11 اغسطس 1895 بالإسكندرية وحصل على الشهادة الثانوية عام 1913 ثم التحق بمدرسة الحقوق بالقاهرة حيث حصل على الليسانس عام 1917م وتأثر بفكر ثورة 1919م وكان وكيلاً للنائب العام عام 1920 ثم سافر فرنسا للحصول على الدكتوراه والعودة سنة 1926م ليعمل مدرساً للقانون المدني بالكلية ثم انتخب عميداً لها عام 1936م.

نادى بوضع قانون مدني جديد واستجابت له الحكومة وشغل منصب وزير المعارف 4 مرات وعين رئيساً لمجلس الدولة من عام 1949م حتى 1954م عرف عنه تأييده لثورة يوليو وشارك في مشاورات خلع الملك فاروق مع محمد نجيب وجمال سالم وأنور السادات، بذل جهود كبيرة في مشروع الإصلاح الزراعي وطلب إرساء الديموقراطية وحل مجلس قيادة الثورة وعودة الجيش إلى الثكنات …

ويعتبر السنهوري باشا ومؤلفاته ثروة للمكتبة القانونية إذ كان عضواً في مجمع اللغة العربية منذ 1946م وأسهم في وضع كثير من المصطلحات القانونية إلى أن توفي في 21 يوليو، إضافة إلى وفاة العلماء سابقي الذكر، وغيرهم الكثير والكثير من اساطين اللغة والقانون والقضاء من مثل والشيخ القاضي أحمد شاكر القاضي الشرعي واللغوي الكبير والعلامة عبد السلام هارون والدكتور محمد محمد حسين رحم الله الجميع .

ثانيا: منها اتضاع مكانة كليات الحقوق لصالح غيرها ، وبروز كليات أكثر بريقا منها وأوفر استقطابا للدارسين، مثل كليات الاقتصاد والعلوم السياسية ، وكليات الإعلام ، والأقسام الإنجليزية بكليات التجارة. والجامعات الخاصة مثل الجامعة الأمريكية….حيث أصبح للغات الأجنبية الزهو والزهاء والصيت والعناية على حساب اللعة العربية، مع هجمات على اللغة العربية والدعوة لاستبدال اللغة العامة أو الفرعونية بها…. وقد أثر هذا كله في الوعي اللغوي العام في العالم العربي وتراجعه لصالح الوعي باللغات الأجنبية بما آل لضعف عام في التكوين اللغوي لطلاب العلم ، وانقطاع كبير عن فنون اللغة وإتقانها … لدى الشرعيين ولدى الحقوقيين أو القانونيين بصورة أخص إلا من مظاهر قليلة ظلت محافظة على علوم اللغة وآدابها…

ثالثا: الهجمات الكثيرة على اللغة العربية وابتدأت ببعض المستشرقين مثل جولد زيهر وكارل بركلمان وغيرهما، ومن بعض العرب الذين لم يرقهم النظام اللغوي العربي ومدلولاته الإسلامية، فدعوا إلى استبدالها باللغة العامة ، ورماها بعضهم بأشنع التهم زاعما أنها من أسباب تخلف العرب وغير ذلك من الزعم الذي تصدى له العلماء بالتحليل والتفنيد، وقد كانت المؤامرة على اللغة العربية أساساً تستهدف :

1-الدعوة إلى العامية.

2-الدعوة إلى كتابة العربية بالحروف اللاتينية.

3-الدعوة إلى إحياء اللغة الفرعونية ونفي العروبة عن مصر . ولهذا تفاصيل كثيرة حيث بدات من خلال سنوات طويلة ممتدة منذ حمل لواءها المبشر الإنجليزي وليم ويلكوكس في مراحل متعددة وانتقلت من مصر إلى المغرب إلى الشام ولبنان، واستطاعت أن تجد لها دعاة ممن يكتبون بالعربية خلفوا أولئك الأجانب الذين حملوا اللواء أول الأمر

.. ومثال هذا الهجوم :”مشروع العربية الأساسية الذي تقدمت به بعض الهيئات الأجنبية في حزيران-يونيو 1973 في مؤتمر برمانا، حتى أصدرت إحدى الهيئات الإسلامية وهي: مجمع البحوث بالأزهر تحذيرها الخطير بتوقيع الدكتور عبد الحليم محمود شيخ الجامع الأزهر -أقول إن الذين ينظرون في هذا المشروع اليوم يجدونه مرتبطاً كل الارتباط بما أعلنه اللورد دوفرين في تقريره الذي وضعه عام 1882 بعد الاحتلال البريطاني لمصر حين دعا إلى معارضة اللغة الفصحى، لغة القرآن، وتشجيع لهجة مصر العامية واعتبارها حجر الزاوية في بناء منهج الثقافة والتعليم والتربية في مصر ..” … … وحين قال في تقريره بالحرف الواحد “إن أمل التقدم ضعيف في مصر طالما أن العامة تتعلم اللغة الفصحى العربية -لغة القرآن- كما هي في الوقت الحاضر” ..ثم لم يلبث المبشر وليم ويلكوكس الذي كان يعمل مهندساً في الحملة الاستعمارية على مصر أن دعا في خطابه المشهور عام 1883 بنادي الأزبكية إلى نشر اللغة العامية والتأليف بها…

رابعا : عدم تدريس اللغة العربية لطلبة القانون على رغم أهميتها لهم في التحصيل القانوني السليم وعلى رغم أهميتها المطلقة لهم في ممارسة العمل القانوني بعد التخرج ، حيث يلزمهم الإلمام بمهاراتها الكتابية والشفاهية في أي عمل قانوني يمكن أن يلتحق به خريجو كليات الحقوق والشريعة والقانون على وجه الخصوص .

خامسا: ضعف كثير من أساتذة القانون في اللغة العربية فضلا عن اللغة القانونية مع قوة معظمهم في اللغة الفرنسية وفي اللغة الإنجليزية ، ولا يفتأ جلهم عن استذكار المصطلحات الفرنسية أو الانجليزية وهو من الأمور الجيدة المحمودة غير أنه لا يصطحب في الغالب الأعم بلغة عربية سديدة أو فلنقل صحيحة أو بتشجيع مباشر للطلبة على تحصيل مهارات اللغة العربية وضرب المثل الحي لذلك من واقع شرح وكتابات الأساتذة.

سادسا : عوامل اجتماعية وطلابية، إذ يضاف إلى ما سبق بعض الأسباب من طبيعة الأخرى أهمها :

1-انتشار تطبيقات وسائل التواصل الاجتماعي مثل الواتس آب وتلجرام خاصة وقد أفادت كثيرا في تواصل الطلاب حول موادهم الدراسية وتوزيع محاضرات الأساتذة وتتبع أخبار الكليات القانونية وتمثلت بعض جوانبها السيئة في الكتابة العربية العامية بالحروف اللاتينية بين طلاب الأقسام العربي ، إضافة إلى الدعاية للمذكرات التي تنزع المادة العلمية من كتب الأساتذة والدعاية لتجارة البحوث وبيعها بالنسبة لطلبة الدراسات العليا البحوث لتوظيفها ، ولوحظ وجود مجموعات لأصحاب المكتب أنفسهم يؤثرون في توجهات الطلاب العلمية من باب ادعائهم الخبرة بالأساتذة وبأسرار النجاح والتقديرات العليا في المواد .

2-انتشار أماكن شرح المواد القانونية ( واسمها السناتر العلمية) ، وأصل الفكرة لا غبار عليها لو كان الشارحون أكفاء ويقربون المعلومات ويضربون الأمثلة ، وهذا يحدث من بعض الخريجين المتفوقين ، وقد يحدث أن تعتمد التوقعات وتركز على مراجعات الامتحان فحسب فتحول ما بين الطلية وما بين كتب الأساتذة ، وهي سنتار لا تشرح بقدر ما تتوقع امتحانات الطلاب.

3-سيادة جموع كثيرة من الطلبة النشطين على هذه المواقع ودلت الدراسة على غياب المتفوقين عن ساحة القيادة وبعض هؤلاء الطلاب وإن كان قليلا له ارتباط كبير بالمكتبات وبأماكن الشرح وبالتالي يكون لهم تأثير كبير في الإدارة للمجموعة وفي الحظ من بعض الأساتذة وفي تسفيه بعض المواد وفي الدعوة للمذكرات وفي الحط من بعض الزملاء المتفوقين الذين يركزون على مضامين معينة إضافة إلى سيادة المزاح الثقيل وإيثار الطالبات على الطلاب في التواصل والردود على صفحة المجموعة .

وفي جميع ما سبق يلاحظ انحطاط لغة الحديث وابتذالها وبطريقة أشد بين طلاب المراحل الدراسية أكثر من طلاب الدراسات العليا ، والكتابة بالحروف اللاتينية بين بعض الطلاب والطالبات استعراضا منهم بلا داع وهي من السلبيات خطيرة الأثر ، وفي ظل إعراض تام من كثير الطلبة المتفوقين للقيادة … ومحصلة ما سبق كان هو الضعف العام في جل المواد الدراسية والضعف الخاص في اللغة القانونية وفي التعبير القانوني في أوراق التقويم العلمي وفي الواقع العملي …

نتائج ما سبق ،يمكن الخلوص عما سبق ذكره بما يلي :

أ- انحسار اللغة العربية بعامة ثم لغة الأصول واللغة القانونية بخاصة عن طلاب القانون متعلمين وعن رجالاته القانونيين في جل وظائفهم ومهنهم القانونية ، إضافة إلى حلول اغتراب للبقية المتمسكة باللغة القانونية من رجالات القانون الذين ألموا بعلوم اللغة العربية وبعلوم لغتي الأصول والقانون ، والذين يعون أدوار اللغة ومواضعها في القانون وقيمتها وأهميتها في الفهم القانوني والبناء القانوني وفي الوظيفية القانونية .

ب- تفوق اللغات غير العربية عليها في المجال القانوني ، فأصبح ينظر إلى حائزيها ومحصليها بنظرة ملؤها التقدير عن هؤلاء المتمكنين في اللغة العربية عموما وفي اللغة القانونية خصوصا ، وأصبح مجموع التحاق الطلاب بأقسام القانون غير العربية الفرنسية والإنجليزية وغيرها أرفع وأعلى من مجموع الأقسام القانونية العربية ، وأذكر بأن هذا في البلاد العربية

ويرجع هذا التفوق للغات غير العربية عليها إلى ما سبق من أسباب مبنيا على النتيجة السابقة مباشرة … حيث إن لغة الأصول قد انحسرت بصورة كبيرة عن معظم القانونيين بداية من مؤسسات القانون التي لا تدرس اللغة العربية لطلابها باعتبارها مادة رئيسة ولا حتى غير رئيسة ، وتلزمهم بدراسة القانون بمادة أجنبية للطلاب العرب ، مع وجود أقسام متميزة لدراسة القانون اللغتين الفرنسية والإنجليزية في كليات الحقوق ، وهي أقسام مميزة في أماكنها وفي أدواتها التعليمية وفي غير ذلك ولا ينئك مثل خبير…!!!

وانحسار اللغة العربية فضلا عن اللغة الأصولية عن مؤسسات تعليم القانون وعن أساتذة القانون إلا قليل القليل ممن حافظ عليها بجهد ذاتي وتحصيل فردي انحسرت القوة اللغوية عن القانونيين جميعا وفي جميع مؤسسات القضاء لا في مصر وحدها بل وفي العالم العربي أجمع مطلقا. ومن آثار هذا الانحسار أيضا :

1-غياب الإتقان المفترض والواجب في صياغة القوانين وفي فهم واستخلاص أحكامها .

2-شيوع التنازع في التفسير وفي استخلاص الأحكام من النصوص وفي توجيه الدلالات وفي معرفة مقاصد الشارع .

3-حلول الضعف اللغوي العام في مؤسسات القانون بما أتبعه تكتل القضايا وتأخر الفصل فيها ، لأسباب كثيرة منها السبب اللغوي والذي بحسب مؤشرات دراسة لنا عنه أنه بلغ قرابة 60 % .

4- غياب اي علم لبناء النص القانوني ، فقط هي محاولات واجتهادات فردية وليس ثم نظرية عامة للصياغة القانونية تساعد في إحكام الصياغة وفي سد الثغرات وفي المساعدة على استخلاص الأحكام من النصوص .

5-غياب الخطاب القانوني القائم على لغة القانون بين الإدارة وطوائف الشعب ومن ثم شاع الاحتقان وبرز الخطاب الإرهابي الذي يدعو للهدم والخروج على القانون وعلى مؤسسات الدولة بحجة أنها ظالمة وغير عادلة وشبهات كثيرة من هذا القبيل .

 

 

 

 

زر الذهاب إلى الأعلى