الشرق الفنان (22)

من تراب الطريق (1124)

الشرق الفنان (22)

نشر بجريدة المال الاثنين 21/6/2021

بقلم: الأستاذ/ رجائي عطية نقيب المحامين

يختم الأستاذ الدكتور زكى نجيب محمود حديثه عن الجانب الصوفي من الثقافة الإسلامية، بكلمة عن حجة الإسلام، الإمام أبى حامد الغزالي، ومن المعروف كيف بدا له في سن الصبا أن يترك الأخذ بالعقائد والآراء تقليدًا لغيره أو محاكاة، وكيف أبحر في البحث عن الطريق الحقيقي لتحصيل العلم اليقيني، فلما أعجزه ذلك وقع في غمرة من الشك، حتى إعتراه المرض إلى أن شاءت عناية الله أن تنقذه من ضلاله، وتقذف بنوره في قلبه، فأستعاد قواه، وبدأ التفكير والبحث من جديد، فكان أن هداه الله إلى كتب الصوفية التي وجد فيها طلبته، كما وجد في طريقهم سبيلاً إلى الحق واليقين، وقد روى في كتابه « المنقذ من الضلال »، وقد سبق أن حدثتك عنه وعن كيف حاكاه الدكتور مصطفي محمود في كتابه الجميل « رحلتي من الشك للإيمان ».

« أخذه الشك فنازعته نفسه وتجاذبته العوامل المختلفة بين أن أن يضحى بجاهة العريض وشهرته الواسعة ــ إذ كان أستاذ العلوم الدينية بالمدرسة النظامية ببغداد ــ وبين أن يخرج عن كل هذا إلى حياة الزهد والعزلة بعد ما أيقن أن « نيته في التدريس غير خالصة لوجه الله… وأن كل ما فيه من العلم والعمل رياء وتخييل » فأدى به طول التردد وحدَّة الصراع النفسي إلى المرض، فالتجأ إلى الله، فأجابه الله وسهل على قلبه الإعراض عن الجاه والمال والأهل والولد والأصحاب، فترك بغداد وعاش عيشة العزلة عشر سنوات تعلم في أثنائها التصوف لا عن طريق العلم والكتب فحسب، بل عن طريق العمل أيضًا، وأخيرًا عاد إلى طوس مسقط رأسه بخراسان بعد أن أستأنف التدريس مدة يسيرة ومات بها عام 1111م.

« يحكى لنا الغزالي إلى ذلك عن نفسه في كتابه « المنقذ من الضلال »، وهو في هذا الكتاب يميز بين مرحلتين من مراحل الطريق الذي وصل به إلى الله، أما المرحلة الأولى ــ وهي مرحلة الكشف الإلهي الذي نجاه الله به من غائلة الشك ــ فيقول فيها: « فأعضل هذا الداء، ودام قريبًا من شهرين، أنا فيهما على مذهب السفسطة بحكم الحال لا بحكم النطق والمقال، حتى شفي الله تعال ذلك المرض، وعادت النفس إلى الصحة والاعتدال. ورجعت الضرورات العقلية مقبولة موثوقًا بها على أمن ويقين، ولم يكن كل ذلك بنظم دليل وترتيب كلام، بل بنور قذفه الله تعالى في الصدر، وذلك النور هو مفتاح أكثر المعارف ؛ فمن ظن أن الكشف موقوف على الأدلة المجردة فقد ضيق رحمة الله الواسعة » ــ والجملة الأخيرة من هذا النص هي خلاصة ما نريد أن نجعله علامة متميزة لثقافة الشرق الأوسط كلها، وهي أن ثمة طريقين للإدراك لا طريقًا واحدًا، أحدهما هو الأدلة العقلية المجردة، وذلك هو أساس العلم، والثاني هو اللمسة الذاتية المباشرة، وذلك هو أساس الإيمان وأساس التصوف وأساس الفن على حد سواء. وأما المرحلة الثانية من مراحل توبته، ففيها يقول إنه بعد أن استعرض أقوال المتكلمين والفلاسفة، «… أقبلت بهمتى على طريق الصوفية، وعلمت أن طريقتهم إنما تتم بعلم وعمل؛ وكان حاصل علمهم قطع عقبات النفس، والتنزه عن أخلاقها المذمومة وصفاتها الخبيثة، حتى يتوصل بها إلى تخلية القلب عن غير الله تعالى وتحليته بذكر الله؛ وكان العلم أيسر على من العمل فابتدأت بتحصيل علمهم من مطالعة كتبهم.. وغير ذلك من كلام مشايخهم، حتى اطلعت على كنه مقاصدهم العلمية، وحصلت ما يمكن أن يحصل من طريقهم بالتعلم والسماع وظهر لى أن أخص خواصهم ما لا يمكن الوصول إليه بالتعلم، بل بالذوق والحال، وتبدل الصفات ؛ فكم من الفرق بين أن يعلم حد الصحة وحد الشبع وأسبابهما وشروطهما، وبين أن يكون ( الجسم ) صحيحًا وشبعانًا ؛ وبين أن يعرف حد السكر وبين أن يكون سكرانًا ؛ بل السكران لا يعرف حد السكر وعلمه، وهو سكران وما معه من علمه شيء، والصاحي يعرف حد السكر وأركانه وما معه شيء من السكر… فعلمت يقينًا أنهم ( أي الصوفية ) أرباب أحوال لا أصحاب أقوال، وأن ما يمكن تحصيله بطريق العلم فقد حصلته، ولم يبق إلا مالاً سبيل إليه بالسماع وبالعلم، بل بالذوق والسلوك… ».

ويختم الدكتور زكى نجيب محمود هذا الفصل، بأن التجربة التي وصفها الغزالي وصفًا ينبض بالتجربة الوجدانية الحية، بين العلم العقلي بشيء، وأن يحيا الإنسان ذلك الشيء حياة حقيقية. هذه الحياة هي التفرقة أو قل المزج بين نظرة العالم وقوامها العقل والعلم والمنطق، ونظرة الفنان التي تستمد من القلب والوجدان. هاتان النظرتان اللتان تمثلت الأولى في الغرب، والثانية في الشرق الأقصى، واجتمعتا معًا في الشرق الأوسط، حيث نجد المزج واضحًا بين نظرة العقل والعلم والمنطق، ونظرة الحدس والقلب والشعور والوجدان.

زر الذهاب إلى الأعلى