مفهوم البطولة في الشعر العربي (7)
من تراب الطريق (1093)
مفهوم البطولة في الشعر العربي (7)
نشر بجريدة المال الثلاثاء 4/5/2021
بقلم: الأستاذ/ رجائي عطية نقيب المحامين
والتصوير الذي صوره المتنبي لبطولة سيف الدولة وجيشه وأسلفنا بعضه ـــ هو فيما يقول الدكتور شوقي ضيف، تصوير رائع امتلك فيه المتنبي أعظم معانى البسالة الحربية وأرفعها، فقد مثله المتنبي لا يهاب الموت ولا يرهبه في أشد المواقف وأخطرها تعرضًا له، وقال إنه دائمًا يقتحم مواضعه مخاطرًا بروحه، غير أن الموت يعرض عنه حتى لكأنه لا يبصره، بل كأنه يغفل عنه بنومه، مع أنه في جفنه وهو محيط به محدق بشخصه، لكثرة ما يزج بنفسه في معارك القتل ومعاطبه، ويقول المتنبي إنه بلغ من جلادة سيف الدولة في المأزق المتلاحم لهذه المعركة الخطيرة أن كان يمر به أبطال الروم جرحى مهزومين مدحورين ووجهه لا يكلح ولا يعبس، بل يستبشر ويبتسم واثقًا بالنصر. ويصف قدرته الحربية، فيقول: إنه لَفَّ جناحىْ جيش الروم على قلبه لفة منكرة شدَّ فيها عليهم شدة صادقة، فإذا المتقدمون منهم والمتأخرون يخرون صرعى وقد صورهم بالخوافي والقوادم في جناحي الطائر وهي الريشات القصار والطوال كأنه لم يبق منهم باقية. ويقول إنه كان يطعنهم بضرب لا يصيب الرءوس فحسب، بل يسقط في النحور. وكأنما كان النصر قد طال غيابه وأهلت تباشيره. ويستمر في وصف بطولة سيف الدولة، فيقول: إنه طرح الرماح الردينية فلم يحارب بها، وحارب بالسيوف الماضية التي تعلوها بالطعن القريب المميت، مما جعل السيوف تشعر بالاستعلاء على الرماح وتنالها بالتصغير والتهوين، ويقول حقًّا إن السيوف الخفيفة القاطعة هي التي تفتح أقفال النصر المغلقة. وكأنما تجسدت في نفس المتنبي فرحته وفرحة سيف الدولة وفرسانه بهذا النصر الهائل، فإذا هو يتصور تناثر جثث الروم وأشلاءهم على جبل الأحيدب بجوار مدينة الحدث عرسًا لذلك المجد الحربي وزفافًا، وما الأشلاء والجثث إلاَّ الدراهم التي تَعَوَّدَ العرب في أعراسهم أن ينثروها على العروس فرحين مبتهجين. ويقول إن خيول سيف الدولة كانت تصعد وراء المنهزمين في ذرى الجبال تقتل فيهم، حيث أوكار النسور، وكأنما تهدى إليها طعامًا وزاردًا لا ينفد، حتى لتظن فراخها الصغيرة أنك زرتها بأمهاتها، لما تقدم إليها من أقواتها، وأنت إنما زرتها بجيادك الكريمة القوية الصلبة التي تدربت على صعود الجبال، حتى إذا تصعب السير عليها زحفت على بطونها كما تزحف الأفاعي في المرتفعات.
وعلى هذا النحو كان المتنبي يتغنى ببطولة سيف الدولة هذا الغناء الملتهب الذي يشعل الحماسة في نفس كل عربي، وهو غناء صدر من قلب شاعر عربي عاش يمجد البطولة العربية حتى إذا رآها مصورة في شخص سيف الدولة وما ينزل بالروم من الموت الفاتك أخذ يرتل تلك الأناشيد مذيبًا فيها كل ما ضم عليه جناحه من قوة وكل ما رآه في سيف الدولة من شجاعة وبأس شديد، وكأنما وهب نفسه لحرب الروم.
ولم يكن المتنبي وحده الذي نظم الأناشيد المدوية في بطولة سيف الدولة، فقد وفد عليه أكثر الشعراء النابهين في الشام والعراق يتغنون ببسالته من مثل الوأواء الدمشقى والسرى الرفاء والناشى والزاهي والخالديين، وأذبه من هؤلاء جميعًا ابن عمه أبو فراس الحمداني الناشئ في حجره وزوج أخته ورفيقه في حروبه، وكان فارسًا لا يجارى كما كان شاعرًا لا يبارى.
وقد حدث فيما يروى لنا الدكتور شوقي ضيف ــ حدث أن الروم أغاروا سنة 351هـ غارة شعواء على حلب، وفي إحدى المعارك التي خاضها أبو فراس الحمداني على رأس كتيبة، قاتل قتال الأبطال إلى أن أثخن بالجراح وأسره الروم، ونقلوه إلى القسطنطينية، حيث بقى في الأسر نحو أربع سنوات إلى أن تم فداؤه.
ولأبي فراس في الأسر، أشعار كثيرة تسمى الروميات، تفيض بالحنين إلى وطنه وأمه وأهله، كما تفيض بالجلد والحماسة والقوة وكأنه صخرة تتفتت عليها الأحداث والخطوب مهما تكن مريرة، ومهما تكن غصصًا وشجى في الحلوق، وربما كانت خير قصيدة تصور هذه البطولة النفسية رائيته، وفيها يقول:
وإني لجَرَّارٌ لكل كتيبةٍ معوَّدٍة ألاَّ يُخِلَّ بها النَّصْرُ
أُسِرْتُ وما صحبى بعُزّلٍ لدى الوَغَى ولا فَرَسى مُهْرٌ ولا رَبُّهُ غَمْرُ
ولكن إذا حُمَّ القضاءُ على امرئٍ فليس له بَرٌّ يقيه ولا بَحْرُ
يمنون أَن خَلَّوا ثيابى وإِنما علىَّ ثيابٌ من دمائهم حُمْرُ
وقائم سيفي فيهمُ اندقَّ نَصْلُهُ وأَعقاب رمحى فيهمُ حُطَّم الصَّدْرُ
سيذكرنى قومى إذا جَدَّجِدُّهم وفي الليلة الظلماء يُفْتَقد البَدْرُ
ونحن أناسٌ لا توسُّط عندنا لنا الصَّدْرُ دون العالمين أو القبر
تهون علينا في المعالى نفوسنا ومن يخطب الحسناء لم يُغْلها المَهْرُ