بين الراحة والفراغ ! (1)

من تراب الطريق (1085)

بين الراحة والفراغ ! (1)

نشر بجريدة المال الاثنين 19/4/2021

بقلم: الأستاذ/ رجائي عطية نقيب المحامين

فارق كبير لا يدركه معظم الناس، ولا تهتم به اختيارات الألفاظ أو الكلمـات، بين « الراحة » و « الفراغ ». الراحة اقتطاع واع ومقصود من عناء العمل، لتجديد واستعادة النشاط، بينما الفراغ خواء وخلو لا قصد فيه ولا استعداد ولا عزم ولا إرادة !

يمكنك أن تقيس جد الأشخاص وجد المجتمعات، بمقدار عنايتها بالراحة، لأنها الوجه المقابل للكد والعمل. الراحة من العمل ليست فراغًا ولا خواءً، وإنما هي مساحة واجبة ينبغي أن يكون لها وقت ويجب أن يكون كافيا لتحقق الراحة وأن تتحقق فيه فعلاً.. وإلاَّ لم يُعوض الجهد الذي بذل في العمل ولم يحصل التخلص من السأم والملال الملازمين للاعتياد على العمل والالتفات إليه وانحصار الهمّ فيه !

فلا توجد راحة لمن ليس له عمل.. ذكرًا كان أو أنثى. بل يوجد فقط فراغ أو بطالة خاليان من المداولة بين العمل والراحة، ومن الانفعال ببداية العمل أو النشـاط وانتهائه !.. وخاليان أيضًا من الشعور بالجدية والأهمية. هذا الشعور الذي يلازم العمل وفكرته وأداءه كنشاط أساسي للآدمي منذ أن يفارق الطفولة والصغر ويبدأ اكتتابه في نهر الحياة.

وقد تراجع ـ من زمن ـ تلازم الفراغ مع الثراء، ولم تعد الثروة بذاتها جالبة للخمول والخواء وانعدام النشاط، وصرنا نرى نشاطًا ملازمًا للثروة وبعض الأثرياء، ومع ذلك فلا تـزال توجـد أعداد من الناس لا تعمل أو لا تعمل بتاتًا أو لا تعمل على نحو جاد بسبب يسارها.. وقد تعمل ولكن بلا إحساس بالالتزام والمسئولية.. وهذه ظاهرة معروفة مـن قديم، ولكن زادت في عصرنا فخلقت مشكلة الفراغ في قطاعات من المجتمع إلى جانب تراكمات مشكلة البطالة الناجمة عن الكساد أو قلة أو تناقص أو تراجع أو ندرة فرص العمل !

ومعالجة البطالة معروفة وإن عزَّت أحيانا إمكانيات علاجها.. وطريقها الواضح، بغض النظر عن الوسائل، هو في استيجاد الأعمال والأنشطة والرواج وما يترتب عليه من إنتاج يعود فيصب في الرواج وتزايد احتياجات وفرص العمل في دائرة أو دوائر تتبادل التأثير في زيادة العمل وتراجع البطالة.

أما معالجة « الفراغ » فعسيرة، وأعسر منها معالجة أمراض الفراغ وهى عديدة. ربما يرجع العسر إلى أن مقاومة الفراغ قد يعاكسها استحالة مقاومة اليسار أو منع وجود الموسرين الذين لا يجدون في الثروة إلا سبيلا للاستغناء عن العمل وعنائه ومتاعبه، والارتياح من ثم إلى الفراغ مهما لازمه من خواء الروح والنفس والعقل !

لم تقتصر مصاعب مقاومة اليسار ـ أقصد الغنى ـ على المجتمعات التي تحترم الحرية الفردية وتصون الحريات العامة وتحافظ عليها، وإنما رأينا أن مقاومة ذلك عسيرة أيضا حتى في المجتمعات الاستبدادية أو في مجتمعات أوتوقراطية أو شيوعية ماركسية لينينية أو صينية، لأن اليسار في هذه المجتمعات مستور.. ولكنه غير منعدم !.. تساعده أدوات السلطة على الاستتار، ولكنها لم تمنعه أو تعدمه، فظل موجودًا ينعم به المتنعمون من الحكام والأثرياء بعيدًا عن عيون الناس !.. ففي مثل هذه المجتمعات يمارس الموسرون يسارهم في صمت نسبى لا تخوض فيه وسائل الإعلام ما دام من نصيب الحكام والمستويات القريبة منهم ! وقد رأينا ـ حين دالت دول من أمثال هذه المجتمعات ـ كيف كان بداخلها طبقات تعيش معيشة خاصة أو حياة خاصة تبتعد ابتعادًا شاسعًا عن معيشة وحياة سواد الناس الكادحين المغمورين في المزارع والمصانع أو المكاتب والثكنات !.. أما الموسرون في تلك المجتمعات، وهم غير قليلين، فلم ينقصهم الترف والتنعم وبهجة التأنق والاقتناء والمتع الاجتماعية وأمثالها من لوازم الحكم والسلطة في تلك المجتمعات التي اتضح أن داخلها كانت أشياء أخرى خلاف ظاهرها !

زر الذهاب إلى الأعلى